“هل حدث شيء؟“
سألت إيف وهي تميل برأسها، بعدما لاحظت أن وجه باليريان بدا غير طبيعي عندما دخل إلى غرفة العلاج.
فتح فمه كما لو كان سيقول شيئًا، لكنه سرعان ما أغلقه مجددًا.
كان واضحًا تمامًا أنه غير مرتاح لما يحدث.
“لماذا؟ هل أتيت لتخبرني أن علي العودة إلى السجن؟“
قالت إيف بنبرة ساخرة، كأن الأمر لا يعنيها.
“إن كان الأمر كذلك، فلا تقلق، لست منزعجة. الطعام يُقدَّم ثلاث مرات في اليوم، وقد اعتدت النوم على الأرض الصلبة.”
رغم أنها لم تكن تريد العودة إلى زنزانتها الباردة، لم تكن مرتاحة لفكرة أن باليريان يشعر بالقلق من أجلها، ولهذا حاولت التظاهر بأنها بخير.
“اعتدتِ عليه؟“
سألها باليريان، وقد فهم على الفور أنها لا تقول الحقيقة.
عقد حاجبيه، وكانت ملامحه تنطق بوضوح بعدم رضاه عن جوابها.
“نعم… ولماذا تسأل؟“
“إيف، لقد وعدتِ بأن تكوني صادقة معي، أليس كذلك؟“
تجمدت للحظة، لكنها تساءلت في نفسها: هل عليه أن يعرف كل شيء؟ لم تكن مرتاحة لفكرة البوح بذلك كله.
وبينما كانت تشعر بالارتباك، مدّ باليريان يده وأمسك بيدها.
سرى في جسدها دفء مألوف… إنها قوة إيلا.
منذ علم أن قوته تهدئ حالتها، اعتاد أن يمنحها إياها كلما التقى بها.
“إذًا، ريان، لدي سؤال واحد فقط… أجبني بصدق.”
“اسألي ما شئت.”
أجابها فورًا دون تردد. ابتلعت ريقها ثم نظرت إليه بجدية.
حينما فتحت عينيها ورأته أول مرة، شعرت بالامتنان. لكن ما إن استعادت صفاء ذهنها، حتى تذكّرت أمرًا كانت قد نسيته… أنه امتص طاقتها السحرية كاملة بجسده.
تبدلت نظرتها فجأة، فاختفى الابتسام من وجه باليريان.
“أنت… هل حالتك الجسدية بخير فعلًا؟“
في تلك اللحظة، شعرت بقلقٍ عارم يجتاح قلبها. لكن باليريان ابتسم وأجاب بنبرة مطمئنة:
“بالطبع. هل كنتِ قلقة عليَّ يا إيف؟“
“لا تسخر. أجبني بجدية.”
قالتها بلهجة حادة قليلًا، منزعجة من ردّه غير المبالي وكأن ما حدث لم يكن مهمًا! من ينظر إليه الآن سيظنه شخصًا لم يتعرض لأي شيء.
لاحظ نظراتها الغاضبة، فابتسم وقال:
“أقدّر اهتمامك بي، لكن الآن عليكِ أن تقلقي على نفسك فقط.”
وكأن ذلك لم يكن كافيًا لتطمئن، ففتحت إيف فمها لتسأله مجددًا. لكن قبل أن تنطق سُمع طرق على الباب، ثم اندفع أحدهم إلى الداخل بصخب دون انتظار الإذن.
ردة فعل باليريان كانت فورية، فأشهر سيفه المقدس بحذر.
“آه!”
“يا صاحب السمو…؟“
“إنه أنا، والد إيف! والدها الحقيقي!”
قالها الكونت إستيلّا بصوت مرتجف وهو يرفع يديه. ما إن لمح السيف اللامع أمام رقبته حتى ارتعد.
سحب باليريان سيفه فورًا، ثم قال:
“دعوني أتحقق منه أولًا.”
ثم أمسك بذراع الكونت، وسرت طاقة مضيئة من يده قبل أن تتلاشى. وحين تأكد من أنه ليس شيطانًا، أومأ برأسه. فأنزل الحراس الآخرون أسلحتهم.
في تلك اللحظة، فتحت إيف عينيها على اتساعهما، مصدومة من رؤية من دخل.
“هل أنتِ بخير؟! إيف!!”
“سمعنا أنك فقدت وعيك! هل تشعرين بألم في أي مكان؟!”
كان الكونت وزوجته قد قضوا وقتهم يسترقون الأخبار عنها من بعيد، والقلق بادٍ على وجهيهما الشاحبين.
اقتربا منها بسرعة وبدآ بتفقد جسدها.
“نعم… نعم…”
قالت إيف بذهول، وهي ترمش بعينيها غير مستوعبة تمامًا ما يحدث.
وفي زاوية الغرفة، وقف نواه يراقب المشهد بوجه شاحب.
من شكله، استطاعت أن تخمّن كم كان الحال سيئًا في غيابها عن بيت العائلة.
“لكن… كيف وصلتم إلى هنا؟“
سألت بدهشة، إذ لم يخطر ببالها أبدًا أنها ستراهم مجددًا في مثل هذا الظرف.
“لقد سمح لنا جلالته بالمجيء.”
أجابت الكونتيسة، وعيناها تلمعان بالدموع وهي تواصل تفقد ابنتها.
وبينما كانت إيف تشعر بالحرج وتود لو تنتهي هذه اللحظة، سُمع مجددًا طرق على الباب.
من التالي الآن؟
الغرفة كانت واسعة، لكن من فيها كثيرون. فإلى جانب باليريان وعائلتها، كان هناك العديد من فرسان لودفيغ المكلفين بالحماية.
ظنّت أن الطارق قد يكون الطبيب كانييل، لكن ظنّها كان خاطئًا تمامًا.
دخل رجل جعل جميع من في الغرفة يصمتون مدهوشين.
الدوق دييغو لودفيغ ووالد باليريان، ببدلته السوداء وقف شامخًا عند الباب.
“د… دوق؟!”
الكونت إستيلّا بدا وكأن قلبه كاد يقفز من صدره. من يراه سيظنه التقى بملاك الموت.
وضعت إيف يدها على جبينها بارتباك.
‘لمَ عليهم أن يلتقوا جميعًا هنا بالذات؟‘
بدأ عقلها يعمل على إيجاد طريقة للخروج من هذا الموقف. فبيتهم قد اقترف كثيرًا من الأخطاء في حق آل لودفيخ. وإن قرر الدوق مساءلة والدها هنا، فلن يكون له ما يبرّره.
نظرت إيف بقلق إلى الدوق.
تفحص الغرفة ببرود، ثم توقف عند وجه محدد. عينيه الحادتين ثبتتا على باليريان.
“باليريان، ما الذي تفعله هنا؟“
“أليس من الطبيعي أن أكون بجانب خطيبتي؟“
أجاب ببساطة، وكأن الأمر لا يحتاج لتفسير.
زفر الدوق زفرة ضيق، وبدا عليه أنه يكبح نفسه عن قول أشياء كثيرة.
“سيدي الدوق…”
اقترب الكونت إستيلّا منه بحذر، وقد بدا كمن يسير إلى مصيره. وجهه يشبه وجه مذنب يسعى للاعتراف.
“مرت مدة طويلة، يا أيها الكونت.”
“سمعت أنك كنت تحمي ابنتي… أنا حقًا آسف… وممتن لك بشدة.”
قالها الكونت بعينين دامعتين. ووقفت زوجته إلى جانبه في نفس حالته.
“شكرًا جزيلًا… حقًا نشكرك من القلب.”
أخرجت منديلها ومسحت دموعها وهي تنحني له امتنانًا.
“لقد أسأنا كثيرًا إلى مقامكم، ولم نتوقع أن تمتد لنا يدك بهذه الرحمة… لا نعرف كيف نعبّر عن شكرنا.”
اقترب الكونت من الدوق فجأة، لا يستطيع تمالك مشاعره.
شعرت إيف بالخطر واقتربت لتمنعه.
“ماذا تفعل الآن؟!”
لكنها لم تلحق منعه… فقد اندفع واحتضن الدوق بقوة.
“…….؟!”
لم يكن الدوق يتوقع شيئًا كهذا، فلم يستطع تفادي العناق، خاصة في غرفة مزدحمة يصعب فيها التحرك.
ساد صمت غريب.
“آه…”
أطلقت إيف تنهيدة طويلة، ثم أدارت وجهها جانبًا.
مشهد والدها وهو يعانق الدوق بانفعال، كان محرجًا إلى حد لا يُطاق. لم تحتمل رؤيته، وأشاحت بوجهها في ضيق.
أما الحراس في الداخل، فقد بدوا في غاية الارتباك، وتظاهروا بأنهم ينظرون في اتجاهات أخرى.
ثم التقت عيناها بعيني نواه، فحرّكت شفتيها دون صوت:
‘ما الذي يفعله؟!’
‘كيف لي أن أعرف؟!’
وبينما كانت تنظر إلى والدها بعينين نصف مغمضتين، تساءلت فجأة عمّا إذا كان باليريان يراقب ما يجري، فألقت نظرة خاطفة عليه…
كان من الطبيعي أن تتوقع إيف أن يكون وجه باليريان عابسًا مثلها، فيدير رأسه بانزعاج من المشهد.
لكنها فوجئت به يبتسم ابتسامة خفيفة، وكأنه يرى مشهدًا دافئًا.
‘…حتى هو يتصرف بغرابة!’
كان باليريان يبدو سعيدًا فقط لأن العلاقة بين عائلتيهما قد أصبحت ودّية،
أو بالأحرى، لأنه لم يعد هناك ما يهدد خطبتهما، بل وزواجهما في المستقبل.
إيف، التي لم تكن تعرف ما يجول في خاطره، نظرت إليه بنظرة غريبة وكأنه شخص لا يشبه أحدًا.
وقد انتهى هذا الجو المربك حين قاطعهم الدوق بصوته المتحفظ:
“…أعتذر، لكنني لا أحب ملامسة الغرباء.”
“أوه! لقد أخطأت مرة أخرى. أرجو المعذرة.”
قال الكونت وهو يبتعد بسرعة، يضحك محاولًا تخفيف الحرج.
ثم تدخل باليريان وقال بنبرة جدية:
“في الواقع، لدي أمر أود إبلاغكم به جميعًا.”
وما إن نطق بذلك حتى توجهت إليه جميع الأنظار في الغرفة.
فأمر الدوق الحراس بالخروج، ليبقى في الغرفة أفراد العائلتين فقط.
وحين خيّم الصمت، تابع باليريان حديثه:
“أنا وإيف علينا التوجّه إلى المملكة المُقدسة في أقرب وقت.”
“ماذا تعني؟“
سألت إيف بدهشة، فهذه كانت المرة الأولى التي تسمع فيها بالأمر.
ما معنى أن تذهب إلى المملكة المُقدسة مع باليريان؟
“فتح البوابة السفلية يتطلب أداء طقوس معينة، وقربان تلك الطقوس…هي القديسة.”
ما إن قال ذلك حتى علت ملامح الاضطراب والذهول على وجوه عائلة إيف والدوق.
“ما دليلك على هذا؟“
سأل الدوق لودفيغ بنبرة حادة. فالجميع يدرك تمامًا ما تعنيه كلمات باليريان، وما تحمله من وزن خطير.
حتى إيف ابتلعت ريقها ونظرت إلى باليريان.
هل يملك دليلًا لم تكن تعلم به؟
“لأن إيف قالت ذلك، فهذا وحده يكفيني.”
ساد الصمت، ولم يجد أحد ما يقوله. حتى والدا إيف، اللذان كانا دائمًا إلى جانبها، تبادلا نظرات متوترة مع باليريان وكأنهما لا يستطيعان مجاراته.
وفي النهاية، اتجه الحديث نحو اتفاق ضمني بأن يسافران باليريان وإيف معًا إلى المملكة المُقدسة.
رغم أن إيف لم تتعافَ بعد، فإن باليريان لم يكن ليتقبل فكرة تركها وحدها في ظل تعقّب الشياطين لها.
ولم يكن هناك أي ضمان بألا يتكرر ما حدث عند انفجار طاقتها سابقًا.
وهذا ما جعل الكونت وزوجته، وكذلك نواه، يبدون موافقتهم بالصمت.
‘هذا أفضل.’
فكرت إيف بذلك.
فهي لم تكن تملك سببًا لرفض الرحلة.
ولم تستطع فقط أن تراقب البوابة تُفتح وهي مكتوفة اليدين.
وإنقاذ القديسة ومنع فتح البوابة كان فرصة أيضًا لتبرئة سمعة السحرة.
وإذا سارت الأمور على ما يرام، فلن تضطر عائلتها وأتباعها للعيش في الظل كالمجرمين بعد الآن.
بمعنى آخر، فرصة لضرب عصفورين بحجر واحد.
أما وجه الدوق الذي كان يستمع إلى الشرح، فقد ظلّ متجمدًا بتعبير يصعب قراءته.
ثم وجّه نظراته الحادة إلى باليريان وقال:
“هلّا تحدثنا على انفراد قليلًا؟“
“بالطبع.”
أجاب باليريان وهو ينهض من مكانه.
“لن أغيب طويلًا.”
رؤية إصرار باليريان على ألا يبتعد عن إيف حتى للحظة واحدة أثارت في الدوق شعورًا بالضيق لم يستطع إخفاءه.
_________
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 88"