بعد قليل، دخل زافيير إلى غرفة العلاج التي ترقد فيها إيف، يرافقه أطباء القصر الإمبراطوري.
أحاط الأطباء بها على الفور، وبدؤوا بفحص حالتها.
لم يكن من السهل عليهم إصدار تشخيص دقيق، فهم لأول مرة يرون مريضًا يعاني من آثار جانبية بسبب السحر.
بدا عليهم الارتباك والحيرة.
“أفضل ما يمكننا فعله الآن هو أن تتناول الطعام جيدًا وتحصل على قسط كافٍ من الراحة…”
“هذا كلام يمكن لأي أحد أن يقوله، أليس كذلك؟“
قاطعهم باليريان بنبرة لاذعة.
كانت ملامحه هادئة، لكن عينَيه الزرقاوَين كانتا تعجان بعاصفة لا تهدأ، وكأن البحر في أشدّ هيجانه.
حاول زافيير تهدئة الوضع متنهّدًا بصعوبة.
“باليريان، لا يوجد طبيب قادر على معالجة ساحرٍ ظهر بعد مئة عام.”
“إذن، لا فائدة من إبقاء إيف هنا.”
كلماته جاءت حاسمة لا تحتمل التأويل.
فتحت إيف عينيها بدهشة، عاجزة عن إخفاء اضطرابها.
‘لا فائدة من إبقائي هنا؟‘
هل كان ينوي إخراجها بنفسه؟
لا، لا يُعقل… لكن ما حدث بعدها أكد شكوكها، ولم يكن أمامها إلا أن تفتح عينيها بدهشة أكبر، فقد حملها فجأة بين ذراعيه.
“باليريان!”
صرخ زافيير بصوت غاضب، مصدومًا من تصرف باليريان غير المتوقع.
“الآنسة إستيلا ممنوعة من مغادرة القصر الإمبراطوري!”
وما إن نطق بتلك الكلمات، حتى هرع الفرسان وأحاطوا بباليريان وإيف، استعدادًا للتدخل في أي لحظة.
ساد الجو توترٌ شديد، وكأن انفجارًا قد يقع في أي وقت.
التقت عينا إيف بنظرات زافيير، فبدأت تسعل وتكحّ متظاهرة بتدهور حالتها.
“حالتي… ليست جيدة. أحتاج للراحة.”
“اصبري قليلاً، إيف. سآخذك إلى مكان ترتاحين فيه حقًا.”
“كح! كح! كح!!”
لكنها بالغت في السعال حتى بدا أنها على وشك التقيؤ.
عندها فقط شحب وجه باليريان ووضعها بسرعة على السرير مجددًا.
شعرت بملمس ناعم خلف ظهرها، ومعه هدأ التوتر الذي كان في الجو كأنما خفتت حدة السكاكين التي كانت تحيط بالمكان.
“…هاه؟“
نظرت إيف إلى يدها، وقد فوجئت.
كانت تمثل فقط، لكنها رأت بقع دمٍ على كفّها.
نقل باليريان بصره إلى يدها، وما إن رأى الدم حتى ازداد وجهه شحوبًا.
“دعوني أفحص حالتها فورًا.”
تقدّم طبيب مسنّ بسرعة ـ بدا الأقدم بين أطباء القصر واقترب من إيف لفحصها.
كان ذلك الطبيب هو كانييل، المرجع الأعلى بين أطباء البلاط الإمبراطوري.
‘أين رأيت هذا الرجل من قبل؟‘
سرعان ما تذكرت أنه هو من سبق له التحقق من عُشبة كابيلا التي استخدمتها في إحدى كذبها.
شعرت بالحرج لملاقاته مجددًا، إذ يعرف شيئًا عن ماضيها الملتبس.
“هل تعرّضتِ لأي ضغوطات نفسية مؤخرًا؟“
سألها كانييل بجدية أثناء الفحص، فأومأت برأسها دون تردد.
‘من منا لا يتعرض للضغوطات في مثل هذا الوضع؟‘
“نعم، كثيرًا.”
لكن ما إن التقت عيناها بعينيه، حتى أدركت أمرًا آخر. لقد كان يتظاهر فقط.
‘عيناه تقولان بوضوح إنه لا يعرف شيئًا!’
وما لبث أن صرف نظره عنها بحرج، مؤكّدًا لها شكوكها.
‘طبعًا، لو كان يعرف كيف يفحصني، لكان فعل ذلك من قبل.’
ما يجري كان نتيجة جهلهم بحالة السحرة، ولهذا بدا كانييل كمن يتظاهر بالمعرفة لحفظ ماء وجهه.
فهمت إيف الموقف، وقررت مجاراته حتى لا تتسبب بإحراج أو فوضى.
‘نعم… حتى هذه اللحظة مرهقة ومسببة للتوتر.’
لم تكن تريد أن يُصاب أحد بالأذى بسببها، لا سيما باليريان.
“فهمت. إذن عليك بالراحة التامة. سأصف لك دواءً يساعدك على التعافي التدريجي.”
“شكرًا جزيلاً، ايها الطبيب.”
انحنت إيف بأدب لتشكره، وعندها فقط هدأت ملامح باليريان قليلًا.
“ربما كنت السبب في تأزم حالتك بهذا الصخب… آسف يا إيف.”
“لا بأس، سأكون بخير بعد قليل من الراحة.”
أما زافيير، فبينما كان يراقبهما بدأ يشعر بوخز في معدته، ظنّه في البداية وهمًا ناتجًا عن التوتر، لكنه أدرك سريعًا أن الألم حقيقي.
كلما توتر ازداد ذلك الألم.
“كانييل، أرجو أن تمر بمكتبي لاحقًا.”
“هل تشعر يا جلالتك بتوعك؟“
أومأ زافيير برأسه وأجاب:
“باليريان، أريد أن أتحدث مع الآنسة إستيلا على انفراد، فهلا تركتنا قليلاً؟“
أظهر باليريان انزعاجه بوضوح ولم يكلّف نفسه عناء إخفائه، وظل صامتًا.
نظرة وجهه تلك جعلت ألم معدة زافيير يزداد سوءًا.
“نحن بحاجة لمناقشة مصيرها المستقبلي.”
“إيف الآن ضعيفة، لا يمكنني تركها وحدها.”
أجاب باليريان وهو يرمق من حوله بنظرة حادّة:
“ومن يضمن أن أحدهم هنا ليس شيطانًا متنكّرًا؟“
شعر الفرسان الذين أُشير إليهم وكأنهم اتُّهموا دون سبب، لكنهم لم يستطيعوا الاعتراض، فحادثة الشيطان الذي تسلّل إلى السجن متنكّرًا في زيّ سجان كانت قد انتشرت بين أفراد الفيلق بالفعل.
“هذا الخطأ يقع على عاتقنا.”
اعترف زافيير بصدق. فالشيطان الذي تسلّل إلى السجن تسبب بمقتل بعض الحراس، وكاد أن يودي بحياة إيف أيضًا.
رغم أن سجن السحرة يقع في أبعد مكان بالقصر، إلا أن ظهور الشياطين المتكرر لم يعد يسمح بالتساهل.
حتى لو كان الاختراق داخل السجن فقط، فإن أي مكان داخل القصر يُعد منطقة حساسة ويجب ألا تُترك دون رقابة صارمة.
إنها مسألة أمنية خطيرة لا يمكن التغاضي عنها.
ساد صمت ثقيل أرجاء الغرفة.
شعر الفرسان بالذنب، إذ جعلوا حاكمهم يعتذر باسمهم، وازداد شعور زافيير بالثقل، وكأن ثغرة قد انفتحت في قلب العاصمة.
‘ما هذا الجو الخانق…’
لكن الأكثر إحراجًا كانت إيف التي جلست تتلفّت بعينين مرتبكتين وكأنها على كومة من الشوك.
لم يفت ذلك على زافيير، فزفر بهدوء.
“يبدو أنك لستِ في حالة تسمح بالحوار حاليًا، سأعود لاحقًا.”
ومع هذه الكلمات، غادر غرفة العلاج.
ما إن أغلق الباب خلفه حتى اتجه نحو غرفة مستشاريه.
كان لوغان كلاين يسير بجانبه، وبوجه جامد قال:
“هل فكّرتَ في احتمال أن ما جرى كان مسرحية من تدبير الساحرة نفسها؟“
“وهل دماء السحرة سوداء؟“
“……..”
رد زافيير بحدة قاطعًا هذا الظن من جذوره.
فقد وُجدت آثار دماء سوداء في السجن، دليلاً واضحًا على وجود شيطان هناك.
لم يجد لوغان ما يردّ به، فصمت.
استعاد زافيير في ذهنه صورة إيف وهي فاقدة للوعي، محمولة بين ذراعي باليريان لحظة خروجها من السجن قبل بضعة أيام.
كلما تذكّر ذلك المشهد، اجتاحه شعور مرعب وغامض لا يمكن تفسيره… كان إحساسًا لم يعرفه طيلة حياته.
أبعد زافيير ذلك الإحساس بصعوبة، لتغيم عيناه الخضراوان بظل قاتم.
‘شيطان حاول قتل ساحرة.’
كانت هذه الحقيقة هي جوهر الحادثة، والخيط الذي يمكن أن يقلب كل ما يعرفوه رأسًا على عقب.
فالوحيد القادر على فتح بوابة العالم السفلي أصبح هدفًا للشيطان.
حتى لو كان أحدهم يجهل التاريخ، فلا بد أن هذا التفصيل وحده كفيل لإثارة الشكوك.
‘حتى لو افترضنا وجود صراعات داخلية بين الشياطين…’
فمجرد أن شيطانًا من الرتبة العليا استهدف الساحرة بعينها، مسألة لا يمكن التغاضي عنها ويجب إعادة النظر فيها بدقة.
وفجأة، عادت إلى ذاكرته كلمات إيف في آخر لقاء بينهما:
“القربان… كانت القديسة.”
“ذلك الفتى الذي قلتَ إنه جُرح… هل تأكدتم من هويته؟“
“لأنه كان الشيطان بنفسه.”
رنّ صوت إيف إستيلّا الواثق في ذهنه.
ومع ذلك، لم يكن من السهل عليه تقبّل فكرة أن السحرة لم يكونوا هو المسؤولون عن حادثة استدعاء الشياطين قبل مئة عام.
لذا، كتب إلى ابنة عمّه أوفيليا غيلين رسالة يسألها فيها عن الأمر.
ثم جاءه ردّها:
[في السابق، قرأنا كتابًا عن التاريخ في نادٍ للقراءة. وبالطبع، كان يتضمن ذكر حادثة استدعاء الشياطين قبل مئة عام. لكن شعرت أن هناك شيئًا غامضًا، فذهبت إلى الكنيسة للتحقّق. واتضح لي وجود اختلافات دقيقة، خاصة فيما يخص تحركات السحرة وأفعالهم.]
رسالة أوفيليا لم تُزل الغموض، بل زادت من ارتباكه.
دخل زافيير غرفة المستشارين وألقى نظرة على النبلاء الجالسين حول الطاولة المستديرة.
“أرى أن الجميع حضر.”
كل من كان هناك من النبلاء ذوي الرتب العسكرية.
وزّع زافيير ورقة على كلّ واحد منهم. كانت الورقة تحمل صورة فتى ومعلومات عنه.
“تذكّروا وجه هذا الفتى جيدًا.”
“ما معنى هذا، جلالتك؟”
سأل أحدهم بتعجّب.
نظروا جميعًا إلى الأوراق في أيديهم، والدهشة مرسومة على وجوههم، لا يفهمون الغاية من ذلك.
فأجاب زافيير بنبرة جامدة:
“هذا هو الفتى الذي عليكم أن تحضروه إليّ… قبل غروب شمس الغد.”
ثم نقر بأصابعه على الطاولة نقرًا متتابعًا.
“وأريده هنا، أمامي مباشرة.”
________
ترجمه: سـنو
التعليقات لهذا الفصل " 86"