“رأيتُ ذلك للتو.”
حين حرّك آس أصابعه مجددًا، استطاعت إيف أن تدرك في اللحظة ذاتها اتجاه تدفق السحر، فتفادته بسرعة.
ثم انطلقت نحو الشيطان ووجهت له لكمة بكل ما أوتيت من قوة. بما أنها عاجزة عن استخدام السحر، لم يكن أمامها سوى القتال الجسدي.
– صفعة!
أصابته اللكمة في وجهه مباشرة، فاندفع جسده إلى الوراء.
“هاه…”.
نظرت إليه إيف وهي تمسك بيدها التي وخزها الألم. ورغم أن هيئته كانت لطفل، فإنها لم تشعر بأي ذنب وهي تضربه…
‘اللعنة، ومنذ متى أظهر شفقة على هذا المسخ؟‘
يكفي أن تتخيل كم من البشر قُتلوا وهو متخفٍ بذلك القناع حتى يفور دمها غيظًا.
لكن وجه الشيطان الذي نهض لتوه لم يحمل أي أثر للإصابة. بل ابتسم بازدراء وكأنها لم تفعل شيئًا يُذكر.
“ما هذا؟ هل اعتقدتِ أن جسدي سيكون ضعيفًا لمجرد أن شكلي يبدو كطفل؟ حقًا…”
وقبل أن تلتقط أنفاسها، ظهر أمامها فجأة وأطبق يده على عنقها.
انعوجت شفتاه بابتسامة مريبة ومشوهة.
“بريئة جدًا… لا بد أن ذلك لأنكِ ما زلت صغيرة.”
لكن نظرته إليها كانت عكس كلماته تمامًا… مزيج من الاحتقار والكراهية والحقد، نظرة مملوءة بشرٍّ خالص.
وكأنه يرى حشرة تحتضر.
بدأت إيف تختنق وهي تحاول أن تبعد يده عن عنقها، لكنها فشلت.
‘ما هذه القوة الشيطانية الرهيبة؟!’
أدركت أنها لا تملك خيارًا، فأغمضت عينيها وبدأت تطلق ما تبقى من طاقتها السحرية. فحتى إن كانت هذه الزنزانة تعيق استخدام السحر، فلن تموت هكذا دون قتال.
“كم هو عبثي ما تفعلينه…”
قال آس بسخرية، لكنه فجأة شعر بشيء غريب.
يده بدأت تبرد وتتيبّس، وكأنها بدأت تتجمد بفعل طاقة سحرية.
‘قالوا إن هذه الزنزانة تمنع استخدام السحر…’
لكن الآن، كانت هناك طاقة خافتة تنبعث من جسدها.
تذكرت اللحظة التي استيقظت فيها هنا لأول مرة، حينها أحست أن قواها محاصرة بجدار غير مرئي.
وبعد أن أخبرها نواه بحقيقة هذا المكان، فهمت أن ما شعرت به كان حقيقيًا.
‘ليا لوسيِيلا…’
منذ أن رأت سحر الوهم من خلال ليا لوسييلا، شعرت وكأن جزءًا من قواها عاد، ولو بشكل ضئيل.
كأن إبرة صغيرة اخترقت ذلك الجدار السميك.
في البداية ظنت أنها تتوهم.
‘لكن لم يكن وهْمًا.’
استجمعت ما تبقى من قوتها وركّزت على إطلاقها.
كان كل ما تستطيع إخراجه هو مقدار ضئيل جدًا، لكن ذلك أفضل من لا شيء. وكانت خطتها أن تستخدم هذا القدر لتجميد جسد الشيطان.
“غيّرت رأيي. كنت أنوي أن أقتلك ببطء، لكن…”
عيني آس الحمراوين توهجتا وهو يدرك ما تنوي فعله.
“سأقتلك بسرعة وأرميك في أمعائي.”
“أغغغغ…”
مع اشتداد قبضته على عنقها، رفعت إيف طاقتها إلى أقصى حد.
هذه المرة، لم يكن مجرد إطلاق عادي، بل انفجار كامل للطاقة.
شعرت وكأن الجليد يسري بدل الدم في عروقها، وبدأ جسدها يرتجف من شدة البرودة.
كانت تدري أن هذا خطير، لكنه لم يعد بالإمكان التراجع.
إن لم توقف هذا الشيطان الآن، فسيهلك الجميع.
“يا لهذه الحشرة البائسة…”
اختفت ابتسامة آس تدريجيًا، وبدأ وجهه يتجمد، كاشفًا عن بشرته السوداء تحت القناع.
رؤية ذلك بعينيها جعلت جسد إيف يرتجف، لكنها لم تتوقف عن إطلاق السحر.
“أغغ…”
دووم!
في اللحظة التي بدأت رؤيتها تظلم، سمعت صوت ارتطام مكتوم، وفجأة زال الخناق عن عنقها.
“كح… كح!!”
سعلت بقوة، ووسط ضبابية نظرها، لمحت الشيطان ينزف دمًا أسود.
“إيف!”
صوت لم تتخيل أنها قد تسمعه هنا، وصل إليها مباشرة.
“باليريان!”
دووم!!
ثم دوّى انفجار ضخم من الجهة الأخرى. بدا كأن شيئًا ما قد تحطّم بعنف.
جسدها الذي كان يرتجف من البرد، استسلم للأرض وعيناها بدأت ترف ببطء.
‘بارد… جداً…’
البرودة وصلت إلى نخاع عظامها.
ومع ذلك، رفضت أن تُغمض عينيها.
كانت تريد أن ترى ولو قليلاً ما الذي يحدث حولها.
لكن رغم مقاومتها انطفأ كل شيء فجأة.
الظلام غمر عينيها.
* * *
في ليلة يغمرها ضوء القمر،
وسط سكون يعم قاعة الصلاة في الكنيسة، دوّى فجأة صوت سعال عنيف.
“اللعنة… ذلك الوغد إيلا… كح كح!”
كان آس قد استخدم سحر الانتقال الآني ليصل إلى قاعة الصلاة في الكنيسة، وما إن ظهر حتى تقيأ دماً أسود بلون الحبر.
رأته أرييل من بعيد، فأسرعت نحوه مذعورة.
“آس! هل أنت بخير؟!”
“هاه… ماذا عن تلك القدّيسة؟“
سأل بنبرة حادة وهو يمسح الدم الأسود عن شفتيه بلامبالاة.
نظرت أرييل إليه مترددة، ثم أجابت بهدوء حذر:
“ما زالت على قيد الحياة.”
“تفو، يبدو أنني سأضطر إلى تعديل الخطة كليًّا.”
بصق ما تبقى من الدم على الأرض، ثم اندفع نحو تمثال ودفعه بقوة،
ليكشف عن رافعة مخفية.
ما إن سحبها حتى انفتح باب يؤدي إلى الأسفل بصوت مكتوم.
في القبو السفلي، كانت امرأة بشعر أسود ممددة على الأرض.
رغم أنها بدت كالميتة، إلا أن صدرها الذي كان يعلو ويهبط ببطء دلّ على أنها ما زالت حية.
“كم تبقّى على الخسوف؟“
سأل آس، فتجمدت تعابير وجه أرييل لوهلة.
مجرد أن يسأل عن موعد الخسوف كان دليلاً على أن الأمور لا تسير كما خُطط لها.
“تبقّى عشرة أيام.”
“هاه… وقت طويل للغاية.”
قطّب آس جبينه بانزعاج، لكن حقيقة أن الساحرة فقدت وعيها كانت بمثابة نعمة له.
“هل حصل شيء ما؟“
سألت أرييل بتردد.
“الساحرة… اكتشفت الحقيقة.”
“أي حقيقة تقصد؟“
“أن القربان… هي القدّيسة.”
صرخت أرييل وقد تبدلت ملامحها إلى الصدمة التامة:
“وماذا؟ هل قتلتها؟!”
“لا.”
بصق مجددًا، وكان ما خرج من فمه دماً أسود.
ما جرى مع إيلا منذ قليل ألحق به ضررًا داخليًا كبيرًا.
“من بين كل من قابلتهم من نسخ إيلا عبر القرون… كان هذا أقواهم على الإطلاق.”
رغم أنه جعلها تفقد السيطرة على سحرها لتنهار، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا.
“كل ما فعلته ذهب هباءً…”
ضغط على أسنانه بغيظ، والندم ينهش داخله.
عدم قدرته على قتل الساحرة كان خسارة فادحة.
كان قد أطال المواجهة عن عمد بدافع حقد دفين، ورغبته في تعذيبها، وهذا ما جلب عليه إلا الخسارة.
وها هو الآن يعترف داخليًا أن حقده أعماه عن التصرف العقلاني.
“سأُنهي كل شيء دفعة واحدة.”
إيلا و الساحرة، وسكان العاصمة… لن يترك أحدًا على قيد الحياة.
“اتخذتَ القرار إذًا.”
بدت على أرييل لحظة من الدهشة، ثم ابتسمت برضا.
بمجرد فتح البوابة السفلية، ستندفع الأرواح الشريرة نحو العاصمة وتحولها إلى جحيم، وستنهار الإمبراطورية تلقائيًا.
وعندها، لن يكون أمام سكانها من ملاذ سوى اللجوء إلى المملكة المقدّسة.
“عشرة أيام فقط… لكن الانتظار يبدو طويلاً.”
تمتمت أرييل بأسف.
“لقد انتظرت مئات السنين. عشرة أيام لا تعني شيئًا.”
قالها آس ببرود وفي عينيه الحمراء شررٌ يلمع تحت ضوء القمر المتسلل من بين قضبان القبو.
“حتى ذلك الحين… لا تسمحي لأحد بلمس القدّيسة.”
“كما تأمر.”
وفي لحظة، أحاط مجموعة من الكهنة بالقدّيسة دون أن يُعرف من أين جاؤوا.
عيونهم جميعًا كانت تتوهج باللون الأحمر، وابتساماتهم الباردة تعلو وجوههم.
☆ ☆ ☆
“لم يكن ينبغي لها التورط في هذا الجحيم…”
“يجب إنقاذ القدّيسة… فورًا…”
مجدّدًا… هذا الصوت.
عبست إيف وهي تستمع لأصوات نسائية مألوفة تتردّد في ذهنها كانت قد سمعتها من قبل.
رؤى مشوشة وأوهام غريبة كانت تلاحقها في نومها، تمنعها من الاستغراق الكامل. لكنها لم تكن قادرة على الاستيقاظ أيضًا.
‘أنا مرهقة جدًا…’
كانت تشعر وكأن جسدها يغوص في أعماق مظلمة لا نهاية لها.
وحين بدأت تغفو من جديد، شعرت بشيء يلامس وجهها.
‘ما هذا الآن…؟‘
أرادت تجاهله ومواصلة النوم، لكن دفء السائل الذي بدأ يتساقط على وجهها بشكل متواصل بدأ يثير انزعاجها.
تذمرت في سرها من هذا الإزعاج المتواصل، وفتحت عينيها ببطء.
الضوء المفاجئ أزعجها، فتقلصت عيناها بشكل غريزي.
“…باليريان؟“
رغم الرؤية الضبابية، عرفت على الفور من كان أمامها.
“إيف…”
قال باليريان، والدموع تنهمر من عينيه.
في البداية ظنت أن ما تراه حلم، لكن دفء يده الممسكة بيدها جعلها تدرك أن كل هذا حقيقي.
لم تصدق أنه أمامها فعلًا. فابتسمت رغم ضعفها.
“إذًا لقد استيقظت… بأمان يا باليريان.”
كانت تود أن تعبر عن فرحتها، لكن صوتها خرج مبحوحًا وضعيفًا للغاية.
“هذا ما كان يجب أن أقوله أنا، لا أنتِ.”
قالها مبتسمًا ممسكًا بيدها بحنان.
لم يكن لديها طاقة للكلام، فكل ما فعلته أن رمشت بهدوء، محاولة استيعاب ما يجري حولها.
“لكن… أين أنا؟“
شعرت أن تحتها فراش ناعم، مما يعني أنها في سرير، وليس في الزنزانة.
كانت قد اعتادت النوم على الأرض القاسية والباردة كل ليلة.
وبينما كانت تسترجع ذكرياتها المتناثرة، عاد إليها آخر مشهد بوضوح شديد، وأفاق عقلها كليًا.
“…ماذا حدث لذلك الشيطان؟“
في تلك اللحظة، مرّ الغضب في عيني قاليريان كوميض، واختفى.
كان لا يزال يرى آثار أصابع الشيطان على عنقها.
“…هل حدث شيء؟“
حاولت إيف النهوض بقلق فأسرع باليريان إلى تهدئتها، وضغط على يدها بلطف مطمئنًا إياها.
“لا تقلقي يا إيف عليك الآن أن تركزي فقط على التعافي.”
كانت حالتها الجسدية سيئة للغاية. استخدام المانا قسرًا داخل سجن يمنع تدفقها كان تصرفًا في غاية الخطورة.
تمامًا كما أن الجدار الصلب في غرفة مغلقة لا يمكن تجاوزه إلا بتحطيمه، فإن محاولة إخراج الطاقة بالقوة من داخلها كانت بمثابة تمزيقٍ لجسدها من الداخل.
إن شبّهنا الطاقة السحرية بشخص، والجدار الذي يمنعها بجسد إيف، ففعلها كان أشبه بتمزيق جسدها بيديها لتحرر تلك القوة المحبوسة.
وفكّر باليريان مرعوبًا، أنه لو تأخر لحظة واحدة فقط، لربما كانت قد فارقت الحياة دون رجعة.
_____
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 85"