‘هل يُعقل أن يكون هناك شيء هنا؟‘
تمتمت إيف وهي تُمرر يدها على الجدار.
لم يكن بالإمكان رؤية أي شيء على الإطلاق. فليل السجن كان حالكًا، كأنه الظلام مجسّد.
‘ولا يمكنني حتى إنارة المكان بالسحر…’
فالبناء مصنوع من مادة تعيق استخدام السحر، ما جعلها عاجزة تمامًا عن إطلاق أي تعويذة.
حدّقت في الجدار بنظرات حائرة وكأنها تأمل أن ينشقّ لها عن سر، لكنها ما لبثت أن اقتربت من القضبان بوجه متردد.
ثم أصدرت صوتًا غريبًا كصوت أشباح.
“هوووه… هوووه…”
“ما هذا؟!”
“ألم تسمع صوتًا غريبًا؟“
اقترب الحراس على الفور من زنزانة إيف، بينما تظاهرت بسرعة بأنها نائمة في الزاوية.
“إيف إستيلّا!”
“هممم؟ نعم؟“
“ألم تكوني تضحكين قبل قليل؟“
“أنا؟ كنت نائمة حتى الآن…”
تثاءبت إيف وأمالت رأسها في حيرة وكأنها لا تفهم ما يدور حولها.
ونظرًا لردّها البريء، تبادل الحراس النظرات وقد ارتسمت على وجوههم علامات الارتباك.
“بما أنكم جئتم… هل لي بطلب صغير؟“
“ما هو؟“
“هل يمكن أن تُعيروني شعلة نار؟ لا أستطيع النوم في الظلام الدامس…”
“عجبًا، بالأمس كنتِ تنامين دون مشاكل!”
“كنت بالكاد غفوت، لكنكم أيقظتموني…”
تمتمت إيف بتذمّر كما لو كانت تشكو حالها، فأخذ الحراس يحكّون رؤوسهم بشيء من الخجل.
“ولكن، كيف نعطيكِ شعلة وأنت ساحرة؟ من يضمن ألا تستخدميها في أمر ما؟“
قال الحارس وهو يخفي الشعلة خلف ظهره، ينظر إليها بريبة.
أما إيف، فقد رمشت بعينيها ببراءة مصطنعة ورسمت على وجهها ملامح طيبة.
“أنا فقط… خائفة. أشعر وكأن هناك أرواحًا تهيم في المكان… أظن أن هذه الزنزانة مليئة بالأشباح…”
“أشباح؟! لا مكان للأشباح في هذا العالم! يا لهذه الترهات!”
ضحك الحراس بصوت عالٍ وكأنهم سمعوا نكتة طريفة.
“أنا ساحرة… لذا حاستي تجاه هذا النوع من الطاقات قوية. وهذه الزنزانة مليئة بالطاقة السلبية.”
“طاقة سلبية؟“
“عندما يموت الإنسان وفي قلبه ضغينة، فإن روحه لا تغادر وتتحول إلى شبح هائم… عندها تطلق تلك الروح طاقة باردة، تسمى بالطاقة السلبية.”
قالت ذلك بنبرة جادة، ثم سألت:
“هل مات الكثير من الناس في هذا المكان؟“
كانت تعلم أن هذه الزنزانة مخصصة للسحرة، وأن الكثير منهم قضوا فيها نحبهم، لكنها ادعت الجهل لتقيس ردة فعل الحراس.
ارتبكوا عند سماع سؤالها وابتلعوا ريقهم بصعوبة.
“ثم… ألا ترون أن المكان بارد رغم أننا في فصل الصيف؟“
كان طبيعيًا أن يكون المكان باردًا، فالسجن تحت الأرض، والليلة في منتصفها والقمر في كبد السماء. ومع ذلك، اقتنع الحراس بكلامها على نحو غير مبرر.
“الطاقة السلبية باردة، ويمكن التخفيف من حدتها بوضع مصدر دافئ كالضوء أو النار.”
“هل هذا صحيح؟“
“نعم، بالتأكيد.”
أجابته بثقة جعلتهم يتبادلون النظرات فيما بينهم وهم يهمسون:
“ألم يُقال إنهم لا يستطيعون استخدام السحر هنا على كل حال؟“
“صحيح، دعنا نعطها الشعلة. ستموت قريبًا على الأرجح، فلنمنحها نومًا مريحًا على الأقل.”
‘أنا أسمعكم على فكرة.’
لكن إيف واصلت التظاهر بالبراءة، ترمش بعينيها وكأنها لم تسمع شيئًا.
حينها، اقترب أحد الحراس بحذر وأدخل الشعلة من بين القضبان.
“خذيها بسرعة!”
“ش–شكرًا جزيلًا!”
انحنت إيف بسرعة امتنانًا وأخذت الشعلة على عجل، ثم وضعتها في الزاوية.
بدا الأمر وكأنه أضفى جوًا شاعريًا على الزنزانة، ولكن في الحقيقة…
‘ياللجنون، أريد الخروج من هنا فورًا!’
أن تضطر إلى التسوّل للحصول على شعلة؟
فجأة أصبحت رغبتها في الهرب تتقد أكثر من أي وقت مضى.
لكن على الرغم من هذه المشاعر، حافظت على ابتسامتها اللطيفة وهي تقول:
“أتمنى لكم ليلة طيبة، أيها الحراس.”
“لو نمنا سنكون قد خالفنا واجبنا أيتها المشاغبة.”
لكن يبدو أن أسلوبها المهذب لم يكن مزعجًا، فقد ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجوههم.
“هااام…”
تثاءبت إيف، ثم تمددت على الأرض وكأنها تستعد للنوم، واضعةً أذنها على الأرض.
وما هي إلا لحظات حتى بدأت تسمع أصوات خطوات الحراس تبتعد تدريجيًا.
“الآن!”
بعد لحظات، قفزت من مكانها وبدأت تتحرك بسرعة.
جلست تحت ضوء الشعلة، وأخرجت الورقة والكتاب اللذين أعطاها إياهما نواه، وبدأت تقارن بين محتواهما.
[في المكان الذي تجمعت فيه أرواحنا نحن الأخوات… سأترك أثري هناك، حتى لا يتكرر المستقبل ذاته.]
المكان الذي تجمعت فيه الأرواح.
بدأت تفهم لمَ اعتقد نواه أن الأثر قد يكون داخل هذا السجن بالتحديد.
فهذا هو المكان الذي سقط فيه أكبر عدد من السحرة، والزنزانة التي تقبع فيها كانت شاهدة على تلك النهايات.
“كما قال الحراس، حين كانوا يهمسون لبعضهم ظانين أني لا أسمع.”
تنهدت إيف بخفة، وأمسكت بالشعلة وبدأت تفتش الجدران من جديد. لكنها، مرة أخرى، لم تجد شيئًا.
دقّقت في الزوايا أيضًا… ولا شيء.
“هل يمكن أن يكون المقصود مكانًا آخر؟“
نظرت إلى الكتاب نظرة يائسة.
“لا… عليّ أن أبحث أكثر.”
فحياة كثيرين تعتمد على ما ستجده، وليس من المنطقي الاستسلام بعد ساعة من البحث.
واصلت تفتيش الجدران قبل أن تنطفئ الشعلة.
ولكن هذه المرة، لم تعتمد على النظر فقط، بل مرّرت يديها على الحجارة، باحثة عن أي شيء مختلف. وإن شعرت بشيء، كانت تقرب الشعلة على الفور لتفحصه بدقة.
“هاه… يبدو أنه لا شيء فعلًا.”
رغم كل محاولاتها، لم تستشعر شيئًا… حتى—
“هاه…؟“
شعرت بأن جزءًا من الجدار أبرد من سواه.
وضعت يدها عليه لتتحسسه بتأمل…
ومع إعادة التحقق، بدأت ملامح وجهها تمتلئ باليقين شيئًا فشيئًا.
“هذا… سطح تم تبريده بالسحر!”
ما إن أدركت أن ما كُتب في الكتاب كان حقيقيًا، حتى أخذ قلبها يخفق بقوة لا يمكن كبحها.
لكن سرعان ما اعترضتها عقبة أخرى لتغرق مجددًا في الحيرة.
“عثرت على الأثر… لكن، ما الذي ينبغي علي فعله الآن؟“
تفحصت المكان بعناية، لم يكن هناك زر مخفي ولا ورقة سرية ولا حتى نقش يدل على شيء.
ورغم ذلك، كانت متأكدة من وجود آلية خفية خلف هذا الجدار.
“ماذا لو جرّبت تمرير بعض الطاقة السحرية؟“
لكن المبنى نفسه مصنوع من مادة تحجب السحر. فكيف لها أن تستخدم السحر فيه؟ لم تكن تملك أي فكرة واضحة.
“سحقًا… فلأجرب وحسب.”
أغمضت عينيها بشدة ومدّت يدها إلى الجدار وضغطت بكفها عليه لترسل بعضًا من طاقتها السحرية عبره، وفي تلك اللحظة شعرَت بتيار كهربائي حاد يسري من أطراف أصابعها ليغمر جسدها بالكامل.
وتلا ذلك ضبابية مفاجئة في رؤيتها، وكأنها انجرفت إلى عالم آخر… مشهد مألوف ولكنه غريب في الوقت ذاته.
“سحر الوهم!”
شعرت بقشعريرة تجتاح جسدها حتى نهايات شعرها.
“ليا لوسييلا؟ ليا!”
فتحت عينيها فجأة على صوت يناديها ويهزّها من كتفيها.
“مَن…؟“
“ما هذا الهراء الآن؟! علينا إنقاذ القديسة بسرعة!”
صوت امرأة يفيض بالعجلة والقلق جعلها تنظر حولها بدهشة.
كان المشهد من حولها غريبًا… مألوفًا إلى حد ما، لكنه غريب.
“هل… هذه العاصمة؟“
لكن كيف تكون العاصمة وهي تعجّ بالصراخ، والنيران المتصاعدة وصوت الفوضى في كل مكان؟
“يبدو أنها لا تزال مشوشة بعد النقل السحري.”
قالتها امرأة أخرى تقف بجانبها.
ولاحظت إيف أمرًا مشتركًا بينهن جميعًا، كنّ يرتدين عباءة متشابهة، وكانت عباءة مألوفة.
‘رأيت هذه العباءة من قبل… في مكتبة إستيلّا.’
كانت تلك الملابس تعود إلى سحرة عاشوا قبل مئة عام. فهل يعقل أنها الآن تعيش لحظة من الماضي؟ لحظة تعود لمئة عام مضت؟
رفعت بصرها نحو السماء، فرأت القمر… بلون أحمر قاتم.
“ليا، لا وقت الآن لكي تستعيدي وعيك ببطء! إن لم نتحرك، سيفتح البوابة فعلًا!”
“بوابة؟ تقصدين تلك المؤدية إلى أعماق الأرض؟“
“هاه، أخيرًا بدأت تستوعبين الوضع. علينا إنقاذ القديسة الآن!”
وبدون أن تدري كيف، سارت إيف بخطى مضطربة خلف النساء، مدفوعة بجو مشحون بالعجلة والخطر.
وما إن اقتربن من موقع ما، حتى خرجوا شياطين يحيطون بهن.
“هاي… لن تمروا من هنا!”
[إييلو!]
ما إن رددت الساحرات تعويذتهن حتى ظهرت دوائر سحرية تحت أقدامهن، وانطلقت منها سهام جليدية صوب الشياطين، فسقطوا على الأرض ممزقين.
وبينما كانت تركض خلفهن، اجتاحها شعور غريب بالحنين… وكأنها رأت هذا المشهد من قبل.
وفجأة، وقعت عيناها على قديسة ذات شعر أسود وعينين سوداويين، مستلقية وسط دائرة مرسومة بالدم.
“كيم يونغ هي!”
كانت هي قديسة سابقة يبدو أنها جاءت من نفس العالم الذي جاءت منه يوري، فهي تملك نفس الملامح، وترتدي زيًا كوريًا تقليديًا (الهانبوك).
وما إن رآها السحرة، حتى صاح أحدهم بانفعال:
“اللعنة! أولئك من إيلا لم يتمكنوا حتى من إنقاذ القديسة؟!”
“لكن… كيف انتهى بها الأمر هناك؟“
سألت إيف وقد عجز عقلها عن استيعاب الموقف. التفتت إليها ساحرة بجانبها، تنظر إليها وكأن سؤالها بديهي للغاية.
“ما معنى هذا السؤال؟ بالطبع كانوا ينوون تقديمها كقربان.”
“قربان؟ لأي غرض؟“
“ألستِ ساحرة؟ كيف لا تعلمين؟“
“إنهم ينوون استخدام القديسة لفتح بوابة إلى العالم السفلي.”
قالت إحدى الساحرات بلهجة هادئة، وكأنها تكشف عن حقيقة بديهية. عندها توقفت أفكار إيف للحظة.
“…القديسة كانت هي القربان؟“
نظرت إليها الساحرات بشيء من الريبة، ثم قالت إحداهن:
“ليا، عليكِ أن تعيدي القديسة إلى عالمها الآن.”
“أنت الوحيدة هنا القادرة على فتح بوابة الأبعاد.”
“نعم…”
ردت إيف، دون أن تدرك كيف تحرك لسانها بتلقائية، كما لو أن شخصًا آخر يتحدث من خلالها.
وفجأة، انشقت الأرض وارتفع منها باب ضخم. وما إن بدأ الباب ينفتح حتى تدفق منه نور ساطع كاد يعمي بصرها.
أغمضت عينيها قليلاً من شدة الضوء… وإذا بكل شيء يهتز ويتشوه من حولها.
ثم جاء الظلام.
“ما الذي حدث للتو…؟“
فتحت عينيها لتجد نفسها مجددًا في زنزانتها، تنظر إلى الجدار الموحش.
شعرت وكأنها سُحبت للتو من داخل دوامة زمنية. لكن هذه المرة، لم يكن هناك دوار ولا انزعاج كما حدث عندما استلمت رسالة الشيطان.
فقط إحساس غريب، كأنها شهدت وهمًا واقعيًا.
كان ضوء الشعلة في الزنزانة يخفت شيئًا فشيئًا حتى انطفأ.
وفي قلب العتمة، تمتمت إيف بصوت خافت:
“…القديسة كانت هي القربان.”
______
ادعولي احصل الي ابغاه
التعليقات لهذا الفصل " 81"