بعد مرور بعض الوقت القصير.
“هاي، هاي! استفيقي!”
أفاقت إيف على صوت نواه وهو يهزّ كتفيها بلا توقف، لترمش بعينيها وقد استعادت وعيها تدريجيًا.
نظرت إلى السجادة التي كانت تقف فوقها، وقد تساقطت عليها قطرات من الماء.
حتى وجهها كان مبتلًا. وعندما دقّقت، أدركت أن تلك القطرات لم تكن سوى دموعها.
“هل أنتِ بخير؟“
سألها نواه بوجه يعلوه القلق، فأجابت إيف هامسة:
“لقد كان… باليريان.”
رأت مشهد موت باليريان في تلك الرؤيا أو الوهم.
‘إنها رسالة تهديد من الشيطان.’
فقد استخدم الوهم السحري لإيصال التحذير إليها.
نظرت إيف إلى الرسالة التي بين يديها. لم تكن تحمل أي كلمات، لكنها أرَتْها لتوّها أسوأ مشهد يمكن تخيله.
‘القمر…’
رفعت بصرها إلى السماء بلا وعي، فرأت القمر ذاته الذي ظهر في الرؤيا، معلقًا في ليل المدينة.
هلال، يشبه تمامًا ذلك الذي رأته في الوهم.
خفق قلبها بقوة، كأنما يوشك أن يخرج من صدرها.
لقد مرّت ساعتان تقريبًا منذ أن غادر باليريان القصر.
أسرعت في تجهيز نفسها.
“إلى أين تذهبين بهذا الحال؟!”
صرخ نواه وهو يحاول منعها من الخروج. لقد بدا عليها الذعر، كأنها رأت شبحًا.
لكن إيف أبعدت يده بصمت وركضت، وكأنها تهرب من شيء ما.
حين خرجت من الممر السري الذي اعتادت الهرب منه ليلًا، فوجئت بالفرسان يقفون لها بالمرصاد.
“الآنسة إستيلّا، الرجاء عدم الخروج في هذا الوقت المتأخر.”
كانت الشكوك تؤكد لها أن باليريان ربما نبههم بأنها تخرج سرًا من هذا الطريق.
“عذرًا… اسمحوا لي.”
همست وهي تقبض يدها. لم يكن بإمكانها استخدام السحر، حتى لا تُكشف هويتها.
كما أنها لم تكن واثقة من قدرتها على ضبط قوتها بحيث يُغمى على الآخرين دون قتلهم.
فاندفعت بسرعة وبدأت تضرب الفرسان في أعناقهم بمهارة.
“آنسة!… أغغغ!”
لم يجرؤ أحد على ردعها، فهم يعلمون أن مجرد لمسها قد يجلب لهم غضب باليريان، وربما موتًا محققًا.
وهكذا، تساقطوا واحدًا تلو الآخر بضرباتها.
في الحقيقة، كانت أقوى من معظم الفرسان الموجودين.
“هوف… لا بد أن أمتلك هذا المستوى من القوة إن كنت سأتصدى للبطل.”
قالت وهي تنفض يديها بعد أن أطاحت بهم بسهولة، ثم تابعت طريقها على الفور.
‘اليوم… كان باليريان يتولى دوريات العاصمة.’
يعني ذلك أنه لا بد وأنه الآن يتجول في شوارعها.
“ان شاء الله مايفطس.”
فالوهم الذي رأته كان في أحد شوارع العاصمة.
طفل صغير اقترب من باليريان وفتح له كتابًا غريبًا، خرجت منه أفعى ولدغته. ورأت كيف أخذ جسده ينهار أمام عينيها.
‘باليريان!’
بمجرد أن رأت ظله من بعيد، اختبأت خلف أحد الأزقة، ولم تنس أن تخفي أثر سحرها.
ففي تلك اللحظة، كان باليريان يُطلق ببطء طاقة إيلا ليتحسس أي أثر شيطاني يحيط به.
‘قد تكون هذه خدعة لاستدراجه…’
وإن كانت حيلة مثلما فعلت ليليث، فهي مستعدة لزرع سهم جليدي في قلب من يقف وراءها.
‘هل السبب هو الإكسير الذي أعطاني إياه باليريان؟‘
ما زالت غير مصدّقة أنها صارت قادرة على القضاء على الشياطين بهذه السهولة.
واصلت التسلل خلفه من بين الأزقة، في اللحظة التي اقترب فيها طفل صغير من باليريان، وسحب كمّه بلطف:
“يا عم، أنا تائه… إلى أين أذهب؟“
كان الطفل ذا شعر بني مجعّد قليلاً، وبملامح بريئة ووديعة.
“لقد كتبت عنوان بيتي هنا في هذا الكتاب—”
بمجرد أن رأت إيف الطفل، اتسعت عيناها:
‘إنه الطفل من الرؤيا!’
حتى الكتاب الذي كان يحمله هو نفسه الذي رأته في الرؤيا!
حبست أنفاسها وتابعت الموقف. لم يكن من الحكمة مهاجمته بناء على رؤيا فقط.
فقد يكون الشيطان قد استخدم طفلًا بريئًا كطُعم.
الشكوك جعلتها تكاد تختنق.
وفي اللحظة التي همّ فيها الطفل بفتح الكتاب—
انطلقت إيف فجأة وخطفت الكتاب من بين يديه.
“آآه! كتابي!”
تجمّع الفرسان على صوت الجلبة، وحاصروا باليريان.
“ما الأمر؟!”
“تلك الغريبة سرقت كتابي!”
وأشار الطفل نحو إيف، التي كانت تضع غطاء الرأس، فبدت في نظر الجميع مريبة للغاية.
‘لو اكتشف ريان أني كنت هنا…!’
كانت تخشى ما قد يترتب على انكشاف أمرها، أما باليريان، فقد بدأ وجهه يزداد برودًا تدريجيًا وهو يحدّق بها… هل أدرك من تكون؟
عضّت شفتيها بقلق.
‘هل أهرب بالكتاب إذًا؟‘
لكن فكرة ترك باليريان والطفل وحدهما، وهما في خطر محتمل، لم تُرضِها.
أما باليريان، الذي أدرك من تكون، فتردّد في مناداتها.
‘إن ناديت إيف‘الآن…’
فلا بد أن يصل الخبر إلى البلاط الإمبراطوري، مما قد يثير الشبهات حولها.
وبينما تردّد، نظرت إيف إلى الكتاب في يدها.
كان مطابقًا تقريبًا لما رأته في الوهم. لكن من الخارج، بدا كأي كتاب عادي…
“إيف! ضعي الكتاب حالًا!”
صرخ باليريان فجأة. لكن إيف شعرت وكأن روحها تُسحب إلى داخل شيء غامض.
بدأ وعيها يتلاشى. فنظرت بسرعة إلى الكتاب.
كان قد فُتح من تلقاء نفسه، وكانت صفحاته مليئة بآيات من الإنجيل.
ووسط تلك الكلمات، استوقفتها عبارة سُجّلت في ذاكرتها بقوة.
إن لم تفعل الخير، فإن الخطيئة الخفية ستظهر وتضحك في وجهك.
تحت تلك العبارة التي لا يُتوقَّع سماعها إلا في الكتب المقدسة، ظهرت صورة حيّة لأفعى، بدت وكأنها تنبض بالحياة ونابضة بالحركة…
‘أفعى…؟‘
كانت شبيهة تمامًا بتلك التي رأتها في الرؤيا، لا بشكلها فقط، بل حتى بطريقة حركتها.
–تسسس…
وثبت الأفعى خارجًا، ومدّت لسانها قبل أن تغرز أنيابها في يدها فجأة.
“…آه!”
صرخت إيف من الألم الذي وخز يدها، فأسرعت بإلقاء الكتاب أرضًا.
اقترب باليريان منها بسرعة.
نظرت إيف مجددًا إلى الكتاب، فإذا به قد عاد إلى مظهره الطبيعي، وكأنه كتاب عادي تمامًا.
“هل أنت بخير؟“
“أ– أجل…”
تقدّم أحد الفرسان، وقد بدت عليه الريبة، وسأل بنظرات متفحصة:
“ما الذي تفعله الآنسة إيف إستيلا في هذا المكان؟“
تراجعت إيف خطوة إلى الوراء، بينما شعرت فجأة بشيء غريب يتملّك جسدها.
ثمة أمر غير طبيعي يحدث داخلي…
راحت تشعر بأن طاقتها السحرية تفور وتغلي في داخلها، كما لو أن سدًّا قد انهار فجأة وبدأت المياه تندفع بلا رحمة.
لم تستطع السيطرة على جسدها أو كبح الاندفاع الكاسح في داخلها. وحين حاولت إدراك السبب، لم يطل بها التفكير.
هذه نفس الطريقة… تمامًا مثل ما فعله ذلك الشيطان الذي تقمّص هيئة آرون.
ما يحدث الآن أن شيطانًا ما يحاول جرّ قواها السحرية إلى السطح بالطريقة ذاتها التي فعلتها ايف بالشيطان الذي تقمص هيئة آرون والكونت باتريك.
“لا تقترب! توقف!”
صرخت وهي تدفع باليريان بعيدًا عنها. وما إن فعلت، حتى انطلقت من يدها سهام جليدية حادة كالسكاكين.
– تسسكسك…
تطايرت تلك السهام بشكل عشوائي، فاخترقت الجدران والأرض، كأنها فقدت هدفها، وكأن مَن أطلقها لم يكن يملك وعيًا.
“أوووه! الجميع تراجعوا!”
صرخ الفرسان وهم يلوذون بالفرار، محاولين النجاة من السهام المنفلتة.
أما باليريان، فقد ركض باتجاهها دون تردد.
“إيف!”
“آه…”
لكنها، وقد غمرها الارتباك، لم تعد قادرة على تمييز من يقترب منها. كل ما أرادته في تلك اللحظة هو أن يهدأ هذا الجنون المتفجر داخلها.
وبعد فترة بدا وكأنها فقدت وعيها بالكامل، وساد الظلام عينيها.
* * *
استيقظي… هيا، استيقظي بسرعة.
أنتِ آخر من تبقّى، ستُقتَلين إن بقيتِ هناك!
امتزجت أصوات النساء في رأسها. فتحت إيف عينيها بفزع، لكنها لم ترَ أمامها سوى سقف أسود كئيب. لا شيء سواه.
نظرت حولها بذهول، وجهها شاحب.
لم يكن هناك أحد.
هل هذا حلم؟! ضربت خدها بكل ما أوتيت من قوة.
– صفعة!
“…آخ، هذا مؤلم فعلًا.”
فهذا يعني أن ما تعيشه الآن واقع وليس حلمًا.
أجبرت نفسها على النهوض رغم ثقل جسدها. لم يسبق لها أن شعرت بهذا الضعف منذ أن تناولت الإكسير الذي أعطاها إياها باليريان.
“…آه…”
كان جسدها يرتعش وكأنها أُصيبت بحمى شديدة.
نظرت حولها متنهّدة.
“ما هذا المكان…؟ يبدو كالسجن تمامًا.”
“إنه كذلك.”
جاءها صوت مألوف، هادئ ولكن يحمل نبرة تهكم خفي.
عرفت صاحبه فورًا.
“زافيير…؟“
“لا أذكر أن علاقتنا كانت وطيدة بما يكفي لتنادي اسمي هكذا.”
نعم، كان كذلك فعلًا.
كان ينظر إليها بعينين خضراوين، مشوبتين بالحيرة والخيبة، يتحدث معها من خلف قضبان حديدية.
نظرت إيف إلى تلك القضبان بينهما بذهول، كأنها لا تصدق ما تراه.
هي الآن… سجينة!
“ما الذي يحدث…؟“
“ألَا تتذكرين؟“
“لا… لا شيء. آه…”
أمسكت برأسها، فبدأت تتكشّف أمامها بعض المشاهد الضبابية.
تلك الأفعى…
كانت في الكتاب. عضّتها. ثم بعدها…
قواها السحرية انفجرت فجأة.
وبين مشاهد مبعثرة، تذكّرت يد باليريان وهي تحتضن جسدها المرتعش.
“آه… هل أصيب أحد؟“
“لا أحد.”
تنفّست الصعداء، لكنها لم تُكمل حتى قال زافيير بلهجة باردة:
“كان ذلك بفضل إيلا، الذي استنزف كل ما لديه لتوقف انفجارك السحري.”
…ماذا؟
باليريان… أوقفني؟!
“ماذا عن فاليريان؟! هل هو بخير؟!”
أطلق زافيير تنهيدة ثقيلة وكأنه ضاق بها ذرعًا، ونظر إليها بجمود، فارتجفت يداها.
لا… لا يمكن…
سألت وهي بالكاد تتحكم بشفتيها المرتجفتين:
“…هل ما حصل له بسببي؟“
“لقد انهار من فرط استنزافه لقوة إيلا بشكل مفاجئ. لقد واجه موجة هائلة من السحر مباشرة.”
“لكنه لم يُصَب، أليس كذلك؟“
نظر إليها زافيير مطولًا، بعين لا تدري أهي حزن أم توبيخ، ثم قال:
“الذي ينبغي أن تقلقي لأجله… ليس هو.”
تجمدت الكلمات على شفتيها.
…إن لم يكن هو، فمن…؟
نظرت إلى عينيه.
تلك النظرة التي اخترقتها حتى الأعماق.
فتمتمت، وكأنها خمنت:
“…أنا؟“
“نعم. جلالتُه بات يشك في هويتك الحقيقية.”
______
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 78"