لم تأتها أي إجابة، ففتحت إيف عينيها بحذر.
رأت باليريان يضغط على أسنانه بشدة.
‘يبدو أنه غاضب جدًا!’
ارتبكت في داخلها ولم تدرِ ماذا تفعل.
لم يسبق لها أن رأت باليريان غاضبًا منها بهذا الشكل، ولهذا لم تعرف كيف تهدئ من غضبه.
‘لنضع نفسي مكانه أولًا!’
هكذا فكّرت، فالطريقة الأصدق للاعتذار هي أن تنظر إلى الأمور من وجهة نظر الآخر.
‘لو كنتُ مكانه…’
‘آه، مهما فكّرت، فلا طريقة أمامي سوى الاعتذار بكل خضوع.’
حتى لو قرر أن يقطع علاقته بها، لم يكن بوسعها أن تعترض.
وفيما كانت تتخبط في حيرتها، فتح باليريان فمه أخيرًا:
“متى كنتِ تنوين أن تخبريني بالحقيقة؟“
“هاه؟“
تفاجأت إيف بالسؤال، وبدأت تحاول أن تتذكر حقًا متى كانت تنوي إخباره. لكن ارتباكها جعل ذهنها يتعطل.
رأى باليريان سكوتها تفسيرًا بحد ذاته، فتصلب وجهه وقال:
“لا تقولي إنك كنتِ تنوين إخفاء الأمر إلى الأبد؟“
في الحقيقة، نعم… في البداية، كانت تنوي ألّا تخبره أبدًا.
لكن بعد أن عرفت صدقه، بدأت تشعر بوخز الضمير، وقررت أن تخبره حين تعود يوري إلى المملكة المقدسة.
وبالرغم من أن كلامه ليس دقيقًا تمامًا، إلا أنه لم يكن بعيدًا عن الحقيقة.
“ليس الأمر كذلك تمامًا.”
لكن ذلك التردد الطفيف وحده كان كافيًا ليقنعه.
قبض باليريان على قبضته بقوة، وقد ترسخت لديه القناعة بأنها لم تكن تنوي إخباره بالحقيقة إطلاقًا.
وما آلمه أكثر، أنه شعر بمرارة أكبر مما شعر به عندما كان يظن أنها شيطانة.
رغم أنه لم ينبس ببنت شفة، كانت ملامحه تسوء بسرعة.
عندها فقط أدركت إيف أنه قد أساء الفهم، فسارعت إلى التوضيح:
“كنتُ سأخبرك حين تعود يوري إلى المملكة المُقدسة. أقولها بصدق!”
لكن وجهه ظل كما هو، وكأنها تحدثه من أعماق الجحيم، لا أثر لأي استجابة.
بدا أن هذا التفسير البسيط لن يفلح في إزالة سوء الفهم.
شعرت إيف أنها على وشك الانفجار من شدة الضيق.
“أنا أقول الحقيقة!”
كانت تشعر بغصة تخنقها، لكنها في الوقت ذاته، كانت تتفهم ردة فعله.
حتى بنظرها، بدت تصرفاتها معه في الماضي مليئة بالأكاذيب.
وبينما كانت تدور في رأسها أفكار لا حصر لها، حسمت أمرها أخيرًا.
رفعت رأسها ونظرت إليه بثبات، ثم قالت:
“نعم، صحيح أنني لم أكن أنوي إخبارك في البداية. فهذا الأمر كان يتعلق بحياة عائلتي. لكنني غيرت رأيي، لأنني…”
توقفت قليلًا، فبادرها باليريان بقلق:
“لأنكِ ماذا؟“
“…لأنني بدأت أثق بك.”
قالتها بتردد، وهو ما جعل عيني باليريان تهتزّان للحظة.
شعرت إيف وكأنها اعترفت للتو بشيء ما، فغمرها الخجل فجأة.
‘ما هذا الذي أقوله فجأة…’
هي نفسها من عرضت عليه الزواج في الماضي،
لكنها لم تشعر بهذا الخجل آنذاك، فلماذا الآن؟
بل وبدأ وجهها يحمرّ تدريجيًا.
لاحظ باليريان ملامحها المرتبكة، وفهم أن كلامها صادق بالفعل.
“قلتِ إنك بدأت تثقين بي؟“
ردّد سؤاله ببطء، وكأنه لا يزال يشك في الأمر.
شعرت إيف بالتوتر مجددًا، خافت أن يشك حتى في هذا الكلام، فأخذت تراقب وجهه بدقة.
لكن ملامحه كانت جامدة كصفحة بحر ساكن، يصعب قراءة ما يدور في داخله.
فمدّت يدها إلى كأس الماء أمامها، لترطّب حلقها الجاف.
“هناك سؤال أريد أن أطرحه.”
“هاه؟ اسأل ما شئت!”
وضعت الكأس بسرعة وأجابت بحماسة.
إن كان بوسعها إثبات صدقها، فهي مستعدة للإجابة على أي سؤال.
لكن، وعلى عكس ما تمنّت، لم يتكلم على الفور.
فتح شفتيه للحظة ثم أغلقهما مجددًا.
بدأ صدرها يضيق من القلق.
‘ما الذي يفكر في سؤاله؟‘
توقعت أسئلة معتادة مثل متى علمتِ أنك ساحرة؟ أو منذ متى تملكين تلك القدرة؟
لكن ما خرج من فمه خالف كل توقعاتها:
“هل أحببتِني حقًا من قبل؟“
“…أأحببتك؟“
ردّدت سؤاله بدهشة، كأنها لم تصدق ما سمعت.
‘ما هذا السؤال؟ كأنه مشهد من دراما عاطفية.’
لكن فاليريان لم يتحرك قيد أنملة، وظل يحدق فيها بوجه جاد متجهم.
حين رأت تعبيره، ازدادت حيرتها.
‘هل يسألني بصدق؟‘
شعرت وكأنها تلقت ضربة على رأسها. لم تتخيل أنه يحمل مثل هذا الهمّ في قلبه.
حتى مشاعرها أصبح يشكّ بها…
‘كم عانى في صمت…’
حين أدركت كم كان وقع الحقيقة عليه قاسيًا، شعرت بالذنب ينهش قلبها.
اغرورقت عيناها بالدموع من شدّة الأسف، ثم أومأت ببطء وقالت:
“نعم… لو لم أكن أحبك، لما عرضت عليك الزواج.”
إن كان لا يزال يشك حتى في نواياها السابقة، فهي مستعدة لشرح كل شيء.
“أنا لم أكتشف حقيقتي إلا يوم مراسم البلوغ. أي بعد لقائنا بفترة طويلة…”
انحبس صوتها، فبلعت ريقها وأكملت بصعوبة:
“لذلك، قررت أن أرحل من هذا المكان. أعلم أن الأمر يصعب تصديقه… لكن هذه هي الحقيقة.”
لم تطلب منه في النهاية أن يثق بها.
لقد قالت الحقيقة، ولم يكن من حقها أن تُجبره على تصديقها.
كلماتها جعلت باليريان يشعر وكأن قطع الأحجية التي كانت مبعثرة في ذهنه بدأت تترتب بوضوح.
كل تلك الأسئلة التي لم يجد لها تفسيرًا حين ظنّها شيطانة، بدأت تلقى إجاباتها الآن.
لماذا اقتربت منه دون أن تؤذيه؟
ولماذا رحلت فجأة من العاصمة وكأنها تهرب؟
إذا كانت ساحرة، فكل شيء يصبح منطقيًا.
مرّر باليريان يده على وجهه المتعب، ثم تمتم بصوت خافت:
“أصدقكِ…”
نظرت إليه وقالت بنبرة حزينة:
“مرة أخرى… هذا الوجه.”
“وجهي؟“
“عندما قلت لك أول مرة إنني لست شيطانة، كان وجهك هكذا. كأنك تحاول أن تُقنع نفسك بأن تصدق كذبة.”
سكت..
لم يستطع إنكار كلامها. لانها أصابت كبد الحقيقة.
طوال تلك الفترة، لم تكن صادقة معه مرة واحدة.
والآن، حتى لو قالت إنها تقول الحقيقة، فهل يُمكنه تصديقها حقًا؟
رغم أنها أقسمت على ألّا تُجبره على تصديقها، إلا أنها لم تستطع منع نفسها من القلق حين رأت تردده.
“أنا جادة هذه المرة…! هل عشت طوال حياتك مخدوعًا؟ آه، يبدو أنني خدعتك فعلاً…”
تلعثمت وهي تتكلم، وكأنها تحفر قبرها بكلماتها.
راقبها باليريان بصمت، ثم تنهد بمرارة وضحك ضحكة باهتة:
“إيف… إذًا، دعيني أسألك سؤالاً أخيرًا.”
“هاه؟“
“هل ما زلتِ تحبينني؟“
مرة أخرى، نفس السؤال.
فتحت فمها بدهشة، لا تدري ما الذي يدفعه لتكرار هذا السؤال:
“هل هذا مهم حقًا؟“
“نعم. بالنسبة لي، هذا أهم شيء في حياتي.”
كان رده أسرع من أي وقت مضى.
وحين يقول إنه أهم شيء في حياته، فهل يمكنها أن تظل صامتة؟
فتحت شفتيها لتجيب، ولكن…
“آه، قولها بصوت عالٍ أمر محرج فعلًا…”
اشتعل وجهها خجلًا، رغم أنها بالكاد هدأت سابقًا.
لكن مع إصرار نظرته الثاقبة، لم يكن أمامها مهرب. تنهدت ثم قالت:
“نعم… ما زلت أحبك.”
“هل ما قلته للتو…”
هل هو صادق؟
لكنه لم يُكمل سؤاله، وسكت فجأة. لأنه أدرك أنه لم يعُد بحاجة لهذا السؤال.
لقد قرر… أن يُصدقها. بل أنه كان يتمنى أن يصدقها، حتى لو بدا ذلك جنونيًا.
حين ظنها شيطانة، قاسى ليالٍ بلا نوم، يعيد فيها كلماتها واحدة تلو الأخرى، متسائلًا إن كانت مشاعرها نحوه حقيقية.
لكن أشد ما كان يُؤلمه…
هو احتمال أنها لم تحبه يومًا.
الآن، حان الوقت لوضع نهاية لهذا العذاب.
“باليريان.”
نادته إيف حين أدركت ما الذي أراد قوله ولم يستطع.
وحين نظر إليها بالكامل، تابعت بهدوء:
“كلامي كان من القلب… صدقني.”
وكانت عيناها المتلألئتان كالياقوت تُحدّق فيه مباشرة.
لم يكن في نظرتها أي تردد، لكن باليريان لم يجب، واكتفى بعضّ شفتيه.
نظرت إلى الطاولة، فرأت يده ترتجف بخفة.
وبينما هو لا يزال غير قادر على الوثوق بها تمامًا، تناولت كأس الماء لترطّب حلقها الذي صار جافًا من القلق.
ربما ستحتاج وقتًا طويلًا لتُكفّر عن كذبها عليه.
‘لا بأس… لا بأس.’
ببطء… وبثبات، عليها أن تريه صدق مشاعرها.
* * *
“إلى أين تذهبين فجأة؟!”
في صباح اليوم التالي، وقبل أن تستعيد قوتها من عناء الرحلة الطويلة من العاصمة إلى المملكة المقدسة، كان على يوري أن تُغادر مسرعة من جديد.
“سيدتي، صاحب القداسة يريد رؤيتك لأمر مهم.”
قالت الكاهنة المسؤولة عنها بابتسامة لطيفة:
“أعلم أنكِ متعبة، لكن الأمر لن يستغرق وقتًا طويلًا.”
‘وما الذي يستدعي مجيئي إلى هذا المكان البعيد؟‘
دخلوا معًا إلى غرفة الصلاة الواقعة تحت الكاتدرائية.
كانت يوري تحدق في الزجاج المزخرف المألوف حين سمعت صوتًا أجبرها على الالتفات.
رأت الكاهنة تُحرّك تمثالًا في الغرفة، ثم سحبت رافعة سرّية، فانفتح باب في الأرض يؤدي إلى الأسفل.
“م–ما هذا؟!”
مشهد كأنه مأخوذ من القصص الخيالية جعل عينيها تتسعان.
“صاحب القداسة في الأسفل بانتظاركِ.”
“أنا؟ أأنزل إلى هناك؟!”
تراجعت غريزيًا إلى الوراء، لكن الكاهنة طمأنتها بصوت هادئ:
“لا تقلقي، يا قديسة. هذا المكان هو كنيسة الحاكم، ولا يفتح إلا لكِ. لم يُستخدم منذ مئة عام.”
لكن عينيها الحمراوين لمعتا بنور غريب، ولعقت شفتيها وهي تتابع:
“والآن، حان الوقت لتُعيدي الحياة إليه.”
“أ–أنتِ متأكدة أن هذا المكان آمن؟“
“بالطبع، آنستي.”
ابتسمت الكاهنة مطمئنة، لكن قلب يوري امتلأ بشعور ثقيل، فأشاحت بوجهها:
“لا… لن أنزل. المكان مُرعب.”
“لقد وصلتِ حتى هنا، فلا تُصعّبي الأمور…”
تمتمت الكاهنة وهي تعبث بشفتيها، ثم أشارت. بيدها، فتقدّمت امرأة كانت تقف خلف يوري.
“يا لها من نبيلة عنيدة…”
ضحكت مرأة، وكانت أرييل، لكن ملامح الكاهنة تغيرت فجأة، لتظهر حقيقة شخصيتها.
كانت هي… آس.
تجمدت يوري حين شعرت بيدٍ تمسك بذراعها.
“رئيسة الكهنة؟“
التفتت سريعًا، وللحظة، شعرت بالأمان حين رأت وجهًا مألوفًا.
لكن قبل أن يهدأ قلبها، فوجئت بـ ارييل تدفعها إلى أسفل الدرج المؤدي إلى القبو.
“آاااااه!”
ارتطم جسدها أرضًا، ودوّى صوت السقوط في الفراغ المظلم.
“يا لكِ من حمقاء، ماذا لو أصابها مكروه؟ إنها القربان!”
زمجر آس، لكن أرييل ردت باستخفاف:
“لا تقلق، لديها طاقة نور كافية، ستشفى بسرعة. وبما أننا سنستخرج تلك الطاقة لاحقًا، فغيابها عن الوعي لا يُقلقني.”
لحسن الحظ، لم تُصب يوري إصابات خطيرة، سوى بعض الخدوش على ركبتيها وكدمات في ذراعيها.
لكن ما سمعته بعد ذلك جعل رأسها يدور من الصدمة.
قربان.
كانت هذه الكلمة وحدها كفيلة بأن تُرعبها حتى النخاع.
_____
لا للشفقة اتجاه يوري
يوري تستحق الي حصلها
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 73"