كان الصباح ساكنًا، يلفّه هدوء الفجر… حتى جاء صوت إيف الصادم ليقلب أجواء قصر إستيللا رأسًا على عقب.
قالت بنبرة جادة، مخاطبة والديها وأخيها:
“فقط تحسّبًا لأي طارئ… أمي وأبي ونواه، جهّزوا حقائبكم. وأبلغوا الخدم أيضًا ليستعدوا.”
كانوا لتوّهم قد استيقظوا، لا يزال النعاس يثقل عيونهم، لكن نبرة إيف الصارمة أيقظتهم تمامًا.
لم يكن في كلامها مزاح. حينها أدرك الجميع أن الأمر جاد.
تحدث نواه متوجّسًا:
“لا تقولي… انكشف أمرك؟“
أجابت بهدوء:
“ليس بعد.”
فصاح نواه غاضبًا:
“ما هذا الهراء؟!”
لم يحتمل كلامها الفضفاض، وأظهر انفعاله. أما والداها فسألاها بقلق:
“إيف! فسّري لنا ما يحدث بوضوح!”
“أجل، ذلك اليوم حين جاء ذاك الرجل… ماذا حدث بينكما؟“
كان شقيقها أسرع من الجميع في التقاط الخيط.
أومأت إيف برأسها وقالت:
“في الحقيقة، باليريان جاء قبل يومين… وسألني صراحةً إن كنتُ بشرية.”
حدّق بها نوا مذهولًا:
“اليس هذا طبيعي؟ من وجهة نظره، كنتِ مخطوبة لولي العهد ثم طعنتِه في الظهر، فمن الطبيعي أن يقول شيئًا كهذا.”
لكنها قاطعته، وقد اشتدّ في عينيها الغضب:
“ليس الأمر كما تتخيل!”
لم يكن الموقف يحتمل مزاحًا أو تفسيرات سطحية. صمت نواه أخيرًا، بعدما أدرك جدّية الموقف.
تابعت إيف ببرود:
“أتظنني حمقاء إلى هذا الحد؟ فقط استعدوا لأي احتمال.”
ساد الصمت لبرهة، وجوههم مزيج من الذهول والقلق، وكأن صاعقة نزلت عليهم من سماء صافية. ثم تحركوا بسرعة إلى غرفهم لحزم الأمتعة.
لكن نواه بقي، يرمق أخته بنظرة شك:
“وما هذا المظهر الذي تتزينين به؟“
فقد بدت متألقة على نحوٍ غير مألوف، ما دفعه للتحديق بها بنظرة مرتابة.
“من يفكر في الهرب لا يخرج بهذا الشكل الملفت!”
أجابته إيف بحزم:
“أنا لا أنوي الهرب.”
اتسعت عينا نواه بدهشة، وهتف:
“هل جننتِ؟ ستبقين هنا لتُقتلي؟!”
“اخفض صوتك! الجميع قد يسمع!”
“لا تقولي إنك تنوين كتمان الأمر…!”
لمّا واصل صراخه، زفرت بضيق، وضربته ضربة خفيفة على رأسه:
“أوغه… أشعر وكأني ضُربت بهراوة…”
قال متألمًا، لكنها تجاهلت شكواه وأردفت:
“سأذهب إلى مكانٍ ما اليوم.”
“بهذا الشكل؟ إلى أين؟!”
سألها بفزع، فأجابت:
“إلى حفل الماركيزة كاثرين. سأحضره.”
حدق بها مشدوهًا:
“ما هذا؟ حفل وداع قبل الموت؟“
رمقته بنظرة جادة، وقالت:
“هناك أمرٌ مهم عليّ فعله.”
إن كان الموت قادمًا لا محالة، فقد قررت ألا تقف مكتوفة اليدين، بل تبذل كل ما بوسعها حتى اللحظة الأخيرة.
انعكس هذا العزم في عينيها الواثقتين.
* * *
“حقًا، هل يُعقل أن الآنسة إيف إستيلا ستحضر إلى هنا؟“
“نعم، بالطبع. ولهذا السبب دعوتكِ لمرافقتي.”
“يا إلهي، يا للعجب!”
“هذه أول مرة أرى فيها الآنسة إستيلا شخصيًا.”
كان الحفل يقام في قصر الماركيزة كاثرين، وقد بدأ النبلاء الحاضرون يتبادلون الأحاديث.
صحيح أن بعضهم حضر بدعوة مباشرة من الماركيزة كاثرين أو زوجها، لكن الغالبية كان لهم دافع مختلف تمامًا:
حضور إيف إستيلا شخصيًا.
“يبدو أن الآنسة قد أدركت مكانة عائلة كاثرين المرموقة!”
“أوه، شكراً لكِ على لطفك.”
ردّت الماركيزة كاثرين بابتسامة فخورة.
وفيما هم يتحدثون عن إيف، إذا بأحدهم يشير قائلاً:
“أنظروا! أليست تلك الآنسة إستيلا؟“
“نعم، إنها هي.”
فالتفتت الأنظار نحوها، وعمّ المكان إعجاب صامت.
أما إيف، فقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفية وهي ترى خطتها تسير كما أرادت… لكنها لم تلبث أن ارتبكت للحظة، حين بدأت تتفحص المكان بسرعة بعينيها، وكأنها تبحث عن أحد.
‘لو كان باليريان هنا وتدخل…’
فكل ما تنوي فعله الآن قد ينهار في لحظة. عضّت شفتها خلف مروحتها بصمت.
رغم أنه لم يكن في المكان، إلا أن شخصًا مألوفًا لفت نظرها فجأة:
“صاحب السمو ولي العهد؟!”
صُدم الجميع من ظهور مفاجئ لشخص بهذه المكانة. حتى إيف فتحت عينيها بدهشة، فلم يخطر ببالها أن زافيير سيحضر هذا الحفل.
‘ما الذي جاء به إلى هنا؟‘
ظنّت أنه لا يزال في القصر الإمبراطوري، منهمكًا في البحث عن الشيطان الذي تسلل إلى قلب العاصمة.
وبينما ملامحها تنطق بالحيرة، اقترب منها زافيير وقال:
“ألم تقولي أنتِ ذات مرة إنه لا يصح للمرء أن يعيش حياته كلها في العمل؟“
“بلى، لكن ألم تكن أنت مَن خالفني وقال إن العمل هو كل ما يحتاجه الإنسان؟“
“لقد غيّرت رأيي، يبدو أن عبء العمل قادر على تغيير حتى المبادئ.”
“همم، لا عجب.”
هزّت رأسها بتفهم، إذ كان ولي العهد بالفعل غارقًا في أعماله حتى أذنيه، منذ أن أمر الإمبراطور بإجراء تحقيق شامل عن الشياطين في العاصمة.
“لكن، لماذا حضرتَ هذا الحفل بالذات؟“
نظرت إليه بنظرة حذرة، فهي تعلم أن وجوده هنا في مكان قد يتسلل إليه شياطين غير منطقي.
“مجرد صدفة، لا أكثر.”
ثم ألقى نظرة جانبية على أحد الحضور. اتبعت إيف نظره، لتجد أوفيليا غيلين بين مجموعة من النبلاء.
“حضرت مع الآنسة غيلين؟“
“نعم، دعتها زوجة الماركيز، وطلبت مني مرافقتها، فوافقت.”
“فهمت.”
أجابت ببساطة، فوجوده أو عدمه لم يكن يعني لها الكثير في هذه اللحظة.
“إذن أتمنى لك وقتًا طيبًا.”
“وأنتِ كذلك، أتمنى لكِ سهرة ممتعة…”
ألقى نظرة خفيفة نحوها، فيها شيء لم تفهمه، بينما هي كانت منشغلة بخطوتها التالية.
توجهت إيف إلى حيث تجمّع النبلاء، حيث كانت أوفيليا غيلين وزوجة الماركيز.
‘إذا كانت أوفيليا هي مركز الحياة الاجتماعية…’
فمن الطبيعي أن يتجمع الجميع حولها، رغم أن أنظارهم لا تزال متجهة نحو إيف.
كانت شابة في مقتبل العمر، ومع ذلك تملأ المكان هيبةً وتأثيرًا.
“مساء الخير، ماركيزة كاثرين. أشكرك جزيل الشكر على دعوتي.”
قالت إيف بابتسامة رقيقة وانحناءة مهذبة. تفاجأت الماركيزة قليلاً، لكنها سرعان ما ردّت عليها بلطافة:
“الشكر لكِ لحضورك، فالحفلات تصبح أمتع كلما زاد عدد المدعوين.”
“وهذا ما جعلني أحرص على الحضور.”
شاركتها إيف المجاملة، مما جعل ابتسامة خفيفة ترتسم على وجه الماركيزة، التي شعرت بالرضا لأن سيدة فخورة مثل إيف تعترف بمكانة حفلتها.
“أتمنى أن تقضي وقتًا ممتعًا.”
ردّت الماركيزة بلطف وأناقة.
أما إيف، فقد خفضت عينيها قليلاً، وأدركت:
‘لقد حان وقت البداية.’
ثم ابتسمت ابتسامة لطيفة، لكن عينيها كانتا تبوحان بحزن دفين.
“شكرًا لدعوتك لي إلى هذا الحفل. لم أتوقع أنني سأتمكن من حضور مثل هذا الحدث مجددًا…”
وسرعان ما خفتت ابتسامتها، وبدأت الدموع تتلألأ في عينيها الياقوتيتين.
“يا إلهي، هل أنتِ بخير؟“
تسارعت الأرستقراطيات المحيطات بها يقدّمن مناديلهن برقة وتعاطف.
أخذت إيف أحدها، وبدأت تمسح دموعها، أو تتظاهر بذلك.
“ما مرت به لم يكن سهلًا على فتاة بمفردها.”
“وشائعات بشعة كتلك… مؤلم حقًا.”
بدا أن البداية كانت مثالية.
التقطت إيف أنفاسها، ثم تابعت:
“في الحقيقة، القديسة لم تكن تنظر إليّ بنظرة طيبة منذ البداية.”
توجهت أنظار الجميع نحوها، لكنها استمرت في تمثيلها رغم التوتر:
“وأعتقد أن ذلك طبيعي… فهي تحب الدوق الشاب لودفيغ.”
“آه! إذًا…”
بدا على الجميع أنهم فهموا ما ترمي إليه، وملأت الأعين نظرات الشفقة.
أما خلف مروحتها، فارتسمت ابتسامة خفية.
خاصة بين أولئك النبلاء الذين لم تكن علاقتهم جيدة مع المملكة المُقدسة.
كانت إيف تؤدي دور النبيلة المسكينة تمامًا كما خططت له.
“والسبب الحقيقي الذي جعلني أبتعد عن لودفيغ… كان بسبب الشياطين.”
“ما الذي تقولينه؟!”
تعالت الهمسات، بينما أكملت بهدوء:
“كانوا يستخدمونني طُعمًا للإيقاع بـ باليريان… حاولت مقاومة الأمر، لكنني مجرد بشرية، ولم أكن قادرة على التحمل أكثر.”
“كم هو مفجع…”
“لكن لماذا أصبحتِ في علاقة مع ولي العهد إذًا؟“
سألتها أوفيليا غيلين بصوت هادئ لكنه محمّل بالحدّة. شعرت إيف بالتوتر، لكنها أخفته خلف ابتسامة خفيفة:
“كنت أعلم أن الطريقة الوحيدة لحمايته… هي أن أطعنه في الظهر. ولهذا توسلت إلى ولي العهد… وبلطفه قبل مساعدتي.”
“يا للعجب…”
سكن المكان تمامًا. لم يعد أحد ينظر إليها كمجرد حديث شيق، بل كقصة مؤلمة.
من كانت تُعرف بالتكبر والاعتداد، تبين أن لها جانبًا إنسانيًا مؤلمًا.
‘رائع.’
قالت في سرها وهي ترى نظرات التعاطف تتزايد.
———
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 63"