لم أكن أعلم أن مجرد سؤال واحد قد يُسقطني بهذا العنف إلى قاع الهاوية… لم أشعر بهذا الشعور من قبل.
“ما الذي تعنيه بكلامك؟“
سألتها بوجه ينطق بالذهول وكأنها سمعت للتو شيئًا لا يُصدّق.
كل ما كنت أتمناه هو ألا يرتجف صوتي وأنا أطرح السؤال.
فقد كانت أفكارها تدور في رأسها على نحوٍ معقد ومضطرب.
‘هل يعقل… أنه سمع القصة من يوري؟‘
حال يوري لم يكن جيدًا بأي مقياس. والإنسان حين يُحاصر، يحاول بشتى السبل أن يبرر أفعاله.
وكان في يد يوري ورقة قوية في تلك اللحظة… وهو سرّ إيف إستيلّا.
ذلك السر هو أنها في الحقيقة…
ساحرة.
لكن، إن كان يعلم أنها ساحرة… فحينها—
نظرت إيف إلى سيفه المقدس المتدلّي من خصره. لو كان قد عقد العزم على قتلها، لكان قد أشهر سيفه بالفعل وقطع عنقها دون تردد. لكن… لم يضع يده على سيفه قط.
‘هل يعني ذلك أن لديه شكوكًا، لكنه لا يملك دليلاً قاطعًا؟‘
إن كان الأمر كذلك، فلا يزال لديها فرصة للإنكار والنجاة.
تماسكت إيف واستجمعت شتات نفسها، تحاول استعادة رباطة جأشها.
لكن باليريان كان قد لاحظ بالفعل ارتباكها وتزعزع ثباتها.
تغير لون وجهه إلى شحوب مرعب، وقبض كفّه بشدة.
‘هل هذا يعني أنها حقًا…’
هل يعقل أن تكون إيف شيطانة؟
وما يزيد الأمر خطورة، أنها لم تتأثر حتى بقوة إيلا، وهذا يعني أنها ليست مجرد شيطانة… بل من رتبة شيطان عظيم.
لقد واجه في حياته شيطانًا عظيمًا مرة واحدة فقط.
قبل خمس سنوات، خلال مهمة تدريب في غابة الوحوش.
في البداية ظنوه إنسانًا، لكن سرعان ما تذكّر الفرسان أن لا أحد من البشر يتجوّل في تلك الغابة. فسحبوا سيوفهم وهاجموه.
لكن أغلبهم قضى نحبه هناك، ونجا باليريان بأعجوبة بفضل تدخل والده.
كانت تلك أول وآخر مرة يشهد فيها بنفسه مدى رعب قوة الشيطان العظيم.
وها هو يعود إلى نفس الغابة مجددًا… فقط من أجل التحقق من أمر واحد.
لقد دخل غابة الوحوش وحيدًا للمرة الثانية.
بل ربما كان هو الإنسان الوحيد في تاريخ الإمبراطورية الذي تجرأ على دخول تلك الغابة الملعونة مرتين.
لو شاهده أحد في ذلك المشهد، لنعته بالمجنون وهزّ رأسه عجبًا.
لم ينبس ببنت شفة.
وصمتُه ذاك زاد من توتر إيف، حتى بدأت ترتجف تحت وطأة ما تخشاه.
كلما طال وقوفها أمامه وهي ترى وجهه المتجهم وأسنانه المطبقة، رغبت أكثر في الفرار من هذا الموقف.
لكنها لم تستطع الهرب… كان لا بد أن تعرف الحقيقة. هل اكتشف هويتها الحقيقية أم لا؟
“سألتك يا باليريان، ماذا تقصد بقولك إني لستُ بشرًا؟“
عند سؤالها الملح، نطق أخيرًا وكأن كلماته تخرج مغصوبة من بين شفتيه:
“أعني… ما قلتُه حرفيًا.”
حين تذكّر باليريان حادثة آرون، مرّ في جسده برد قاتل.
‘لا يكون… هل إيف أيضًا…؟‘
هل حلت محلها شيطانة مثلما حدث مع آرون؟ لكنه سرعان ما أدرك أن هذه الفكرة سخيفة.
فالتي تقف أمامه الآن… هي إيف التي يعرفها حقًا.
من عادة إيف أن ترمش كثيرًا حين تتوتر، وأن ترسم تلك الابتسامة المرتبكة حين تحاول التظاهر بالهدوء أمامه.
لا… لا يمكن أن تكون مزيّفة.
إذًا، لا يبقى سوى احتمال واحد.
أن إيف إستيلّا كانت شيطانة منذ البداية… قبل أن يتعرّف عليها حتى.
أن من أحبّها… لم تكن سوى شيطانة.
“من قتل ميلين… كان شيطانًا عظيمًا.”
رنّ في أذنيه صوت والده، وهو يهمس ذات مرة أمام قبر زوجته بهذه الكلمات، ممزوجة بالغضب والحسرة.
نعم… من قتل والدة باليريان كان شيطانًا عظيمًا.
وحين وصل إلى هذا الحد من التفكير، حين راوده الشك أن إيف نفسها قد تكون هي ذات الشيطان العظيم الذي قتل أمّه…
أحسّ قلبه يتفحم من الداخل.
“باليريان؟“
تمتمت إيف بدهشة، وهي تحدّق في ظهره المبتعد عنها، وقد عضّت شفتيها دون وعي.
‘ما الذي كان… يحاول التأكد منه بالضبط؟‘
لم تكن قادرة على الحراك، وظلت واقفة في مكانها بذهول.
أما باليريان، وقد خرج من قصر الكونت، فقد حدّق إلى خصره بابتسامة خاوية.
كان قد تأكد من أن إيف شيطانة… لكنه مع ذلك لم يمدّ يده نحو سيفه المقدس.
وسخر من نفسه بصمت.
كيف له أن يقتل إيف بيده؟
ذلك… أمر مستحيل.
* * *
الطابق الثاني من مقهى سيلا.
في إحدى الغرف الهادئة، جلستان امرأتان تتقابلان على طاولة صغيرة، تحتسيان القهوة في جو مشحون بالصمت المتوتر.
“لمَ أرسلتِ لي رسالة؟ ما الغرض منها؟“
سألت يوري، وقد بدا عليها الامتعاض رغم أناقتها اللافتة، وهي تعقد حاجبيها بانزعاج.
أمام ذلك، ارتشفت إيف بهدوء رشفة من قهوتها، تتأمل ملامح يوري دون أن تُظهر شيئًا من الارتباك.
‘لا أثر لأي ندم… ولا حتى نية للاعتذار.’
لكن الحقيقة أن إيف لم تكن تتوقّع اعتذارًا منها، فليس هناك ما هو أكثر تفاهة من اعتذار ينتزع بالإكراه.
ألقت إيف نظرة خاطفة إلى الشارع من النافذة، تتأمل ما وراء الزجاج. لم تكن تتوهم — باليريان لم يكن هناك.
كان من المفترض أن يكون مرافقًا ليوري بصفته فارس حراسة القدّيسة، وغيابه غريب.
“لا أرى باليريان.”
“ريان مشغول… مشغول جدًا، هذا كل ما في الأمر!”
صاحت يوري وهي ترفع صوتها دفاعًا.
رفعت إيف كوبها من جديد، وكأنها تقول “فهمت…” دون أن تنبس بكلمة.
في الحقيقة، لم ترَ يوري باليريان منذ حفلة التنكر الأخيرة.
لم يبادر هو بالتواصل معها، ولم تجرؤ هي على الاقتراب منه. لم يكن وجهها يسمح لها بذلك.
‘مجرد حادثة واحدة، ويتوقف عن حراستي؟!’
كان موقف باليريان المتغير يثقل قلبها، وكلما فكرت في الأمر، ألقت باللوم على إيف إستيلّا.
لقد انفصلا رسميًا، فلماذا لا يزال ملازمًا لها بهذا الشكل؟
بالنسبة ليوري، لم يكن لذلك أي تفسير منطقي.
زفرت يوري بأنفها في استهزاء، ثم حدّقت بإيف بنظرة غاضبة.
“قولي ما عندك.”
“أردت فقط أن أطرح عليك سؤالًا.”
“قولي بسرعة، وقتي ضيق. عليّ أن أعود.”
قالتها بنبرة منزعجة، وكانت إيف تعلم السبب جيدًا.
يوري كانت تشعر وكأنها تجلس على الجمر. وكانت تعرف تمامًا السبب.
‘طبيعي، فهي تعلم في قرارة نفسها أنها مخطئة.’
بدت يوري وكأنها تدرك خطأها، حتى وإن لم تعترف به صراحة.
فتحت إيف شفتيها ببطء، وقالت بهدوء:
“ألم تخبري أحدًا بحقيقتي؟“
“…لماذا تسألين هذا السؤال؟“
سؤالها المفاجئ أصاب يوري بالارتباك، فقد كانت تنوي بالفعل أن تفعل ذلك قريبًا. ومع ذلك، أسرعت بالرد في تحدٍّ، وقد علت ملامحها نبرة رفض وانزعاج.
أن يُستدعى المرء لمثل هذا اللقاء، ثم يُواجَه بالاتهام بدلًا من الحديث، كان كفيلًا بإثارة أعصابها.
رغم ذلك، إيف فهمت من ردّها أنها لم تفعل بعد.
“إذن، لم تفضحني بعد.”
لكن في هذه الحال، ما الذي جعل باليريان يأتي إليها بالأمس؟
سؤال آخر أضاف طبقة جديدة من الغموض.
“ماذا بعد؟ هل لم يعد يكفيكِ أن يُقال عنكِ أداة للشيطان، حتى بدأ الناس ينشرون عنكِ إشاعة السحر؟“
قالتها يوري بسخرية، فالتزمت إيف الصمت.
كانت يوري كما في الرواية الأصلية، عنيدة ومكابرة. لكنها لم تتوقع أن تصل بها العناد إلى هذا الحد.
إن دلّت تصرفات يوري اليوم على شيء، فهو أنها كانت ستؤيد شائعة أداة الشيطان بنفسها لو تُركت تنتشر.
‘نعم، إيف إستيلّا بالفعل كانت أداة للشيطان!’
من يدري؟ ربما كانت شريكة في إطلاق تلك الشائعات منذ البداية.
من المستبعد أن تنتشر بهذه السرعة دون تدخل منها.
تُستخدم إشاعة التعاون مع الشيطان عادة في الصراعات السياسية للإطاحة بالخصوم، لذلك لا يصدقها الناس بسهولة.
لكن… إن كانت الشاهدة قدّيسة، فالأمر مختلف تمامًا.
فشهادة قديسة—قادرة على تمييز القوى وتمتلك طاقة روحية هائلة—تُعدّ دليلاً قاطعًا لا يُشكّ فيه.
وقد تستطيع، بكلمة منها، دفن إيف إستيلّا للأبد.
‘لن يطول الوقت قبل أن تنقلب ضدي.’
كان لدى إيف شعور قوي بأن يوري لن تُخفي سرّها طويلًا.
بل إن هذه الفضيحة الأخيرة جعلت من يوري هدفًا للانتقاد العام، وهي من النوع الذي يُلقي اللوم على غيره حين يُحاصر.
“إن انتشرت إشاعة كهذه، فلن يكون ذلك سوى من فعلك.”
قالتها إيف بابتسامة باردة، وانكمشت يوري لا إراديًا تحت وقع نبرة صوتها الحادة.
“لهذا السبب، غادري هذه المملكة وعودي إلى بلدك.”
“ومن تظنين نفسكِ لتأمري بهذا الشكل؟“
ردت يوري باستهزاء.
“شخص لم يعتذر عن الأكاذيب التي روّجها، لا يحق له أن يرفض مثل هذا الطلب.”
قالت إيف وهي ترفّ بعينيها.
“بقاؤكِ هنا لن ينفعك، بل سيزيد الأمور سوءًا. من الأفضل أن تبحثي عن طريقة للعودة إلى عالمك الأصلي.”
كانت إيف تعلم من الرواية أن من جاء بصفته قدّيسًا يملك وسيلة للعودة إلى عالمه.
‘رغم أنني لا أعرف تلك الوسيلة، إلا أنها موجودة.’
وربما كانت يوري قادرة على العثور عليها.
لكن يوري كانت حانقة، تنظر إلى إيف والغضب يكاد يتفجر من وجهها المحتقن.
“من خدع منذ البداية… كانت أنتِ! لم أخطئ بشيء! ولن أرحل بهذه السهولة!”
صرخت بانفعال وهي تنهض بعصبية، ثم غادرت الغرفة تاركة إيف وحدها.
جلست إيف، تضع يدها على جبينها، تحاول تهدئة صداعها المتفاقم.
لقد تعقّد كل شيء. لا سبيل لإنقاذ من غرق في مستنقع سوء الفهم، لا سيما إن كان واثقًا أنه على حق.
‘على الأقل، الأمور أصبحت واضحة من هذه الجهة…’
أما باليريان… فهو العقبة الحقيقية.
ما الذي يعرفه تحديدًا؟ وإلى أي مدى وصل إدراكه؟
‘هل يكون قد رآني في تلك الليلة؟‘
حين استخدمت إيف السحر في الحفلة التنكرية، كانت تعلم أنها تخاطر كثيرًا، خاصة بوجود باليريان.
لكن كان من الضروري نفي الشائعات، وإلا فقد تتعرض عائلتها للخطر.
‘مع أنني استخدمت قدرًا ضئيلًا جدًا من السحر…’
قامت بتركيز السحر بأدنى مستوى، بالكاد يُلاحظ حتى من قِبل شياطين عليا.
لكن أن يكون باليريان قد أدرك ذلك؟
‘أجل، هذا محتمل.’
فهو أقوى محارب في هذا العالم، وقد يكون التقاط آثار ضئيلة كهذه أمرًا هيّنًا عليه.
“آه، لا شيء يسير كما ينبغي…”
قالت إيف وهي تضغط على رأسها بكلتا يديها، ثم ارتمت على الأريكة بتعب ظاهر.
———-
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 62"