“هل قلت إن يوري جاءت؟“
تفاجأت إيف، التي كانت تقضي ظهيرة هادئة، بخبر أتى به كبير الخدم. لم تكن تتوقع أن تأتي يوري إلى بيت الكونت، طالما أنها تقيم حاليًا في قصر الدوق لودفيغ.
‘ظننت أنها ستظل ملتصقة بـ باليريان.’
أومأت إيف برأسها وهي تخرج لاستقبالها. كانت امرأة جميلة بشعر أسود تنزل من العربة برفقة رجل يرتدي زيًّا رسميًا إمبراطوريًا.
إنها يوري، وبرفقتها باليريان. قديسة بشعر أسود وقديس بشعر ذهبي… يا لهما من ثنائي متناسق.
‘كما توقعت، باليريان جاء معها.’
تناسَت أنه من الأساس فارسها المرافق.
ضحكت إيف بسخرية من نفسها، مستغربة من هذا الفراغ في تفكيرها.
ألعلها كانت تتمنى في قرارة نفسها أن يبتعدا عن بعضهما؟ بدا لها ذلك تصرفًا بائسًا، ومجرد التفكير فيه أثار في قلبها شعورًا بالمهانة.
“أهلًا بكِ.”
قالتها إيف وهي تبتسم ليوري، تخفي خلف ترحيبها المتكلف مشاعرها المتشابكة. خصوصًا بوجود باليريان إلى جوارها. حتى هي اعترفت في نفسها أن كبرياءها كان سخيفًا.
‘من يدري كيف سيتغير إن عرف حقيقتي؟‘
إن حان ذلك الوقت، لا شك أنه سينظر إليها كما لو كانت شيطانة. مجرّد تخيّل نظرته المقززة يكفي لبعث القشعريرة فيها. ربما ما ترتديه الآن من برودٍ وتحفّظ هو نوع من الحماية الذاتية… حتى لا تتأذى لاحقًا.
حين التقت أعينهما، شعرت بتوتر مفاجئ؛ كان ينظر إليها بنظرة فاحصة، حادة ومركزة بشكل غريب.
“أ… أهلًا بكم.”
وفي تلك اللحظة، هرع الكونت وزوجته من الحديقة إلى الباب الأمامي فور سماعهم بوصول القديسة.
“مرحبًا، سيدي الكونت، سيدتي الكونتيسة.”
قالت يوري بلطف وهي تبتسم بأدب. فردّا عليها بابتسامة متوترة.
“أهلًا بكِ، قديسة السماوات.”
“سُررنا برؤيتكِ.”
لم تستطع إيف كتم تنهيدة خرجت من قلبها وهي ترى ارتباك والديها.
‘وكأنهم مجرِمون في حضرة القاضي.’
حتى باليريان لاحظ الأمر، ونظر إلى الزوجين بنظرة مستغربة. عندها قررت إيف أن تتولى زمام الأمور.
“أنا سأهتم بضيافة الضيوف، فارتاحا أنتما. لا بأس، أليس كذلك يا يوري؟“
“بالطبع، إيف أوني.”
أجابت يوري وهي تبتسم بمودة.
تردد الزوجان لحظة، ثم ما لبثا أن عادا إلى الحديقة مكرهَين بعد أن دفعتهم إيف بلطفٍ مقنّع.
اصطحبت إيف يوري إلى غرفة الضيافة الخاصة بالحلويات.
كانت قد طلبت من الخادمة تجهيز طاولة التحلية مسبقًا، لأنها تذكرت أن يوري في الرواية الأصلية كانت تحب تناول الحلوى كثيرًا. وعلى ما يبدو، هذا كان صحيحًا في الواقع أيضًا.
“واو! كل هذا من أجلي؟“
اتسعت عينا يوري بدهشة وهي ترى الطاولة الممتلئة.
“أيمكنني أكل كل هذا؟“
“طبعًا، تناولي ما تشائين.”
أجابت إيف بهدوء. احمرّت وجنتا يوري من الفرح، لكنها فجأة بدت متوترة، فتساءلت إيف إن كان هناك ما يزعجها.
“ما الأمر؟“
“لـ…لا شيء.”
لكن عينيها كانت معلّقتين بـ باليريان. فهمت إيف نظرة يوري، فالتفتت إليه وقالت:
“أظن أن يوري ترغب في التحدث معي على انفراد. هل تمانع أن تتركنا قليلًا؟“
في الحقيقة، وجوده هو ما كان يزعجها. منذ اللحظة التي دخل فيها، وكل مشاعرها مشدودة نحوه، بل إن نظراته المتواصلة تكاد تخترقها.
“…هل ستكونين بخير يا يوري؟“
سألها وكأن رأي إيف لا يُعتدّ به.
“نعم، لا تقلق!”
أجابت يوري بابتسامة.
شعرت إيف بمرارة خفيفة في فمها من هذا التصرف. علاقتها به لم تكن يومًا ودّية، فلماذا تتوقع منه شيئًا؟ سخرت من نفسها داخليًا، مدركة كم هي متناقضة.
حين نظرت إلى الموقف من الخارج، استعادت هدوءها.
وما إن خرج باليريان، حتى التفتت يوري إليها بابتسامة عذبة.
“أوني، هل يناسبني هذا الفستان؟“
اتجهت نظرات إيف ذات العينين الياقوتيتين نحو الفستان. كان ورديًا زاهيًا، يُبرز قوام يوري برقة وأناقة.
أومأت برأسها مجيبة بصدق.
“الحمد لله! لقد كان أول فستان يختاره لي ريان، وأردت أن يبدو جميلاً عليّ.”
قالتها يوري بفرح. أما إيف، فاكتفت بالنظر إليها بصمت. استغربت يوري ذلك، فمالت برأسها وسألت:
“أوني؟ لماذا تنظرين إليّ هكذا؟“
“يوري.”
قالت إيف وهي تخرج تنهيدة خفيفة:
“لا داعي لأن تثيري غيرتي بهذه الطريقة.”
“هاه؟ ماذا تقصدين؟“
شعرت يوري بوخزة في قلبها، لكنها واجهت إيف بنظرات توحي بأنها لا تفهم ما تعنيه.
وضعت إيف فنجان الشاي بهدوء، مترددة في اختيار الكلمات المناسبة.
أما يوري، فبدت وكأنها تحاول إخفاء ارتباكها، واتسعت عيناها بشكل مفتعل وقالت:
“صدقيني، لم أقصد شيئًا من هذا القبيل! من الغريب أن تظني ذلك.”
ورفّت رموشها السوداء وهي تومض بعينيها بدهشة مصطنعة، لكن إيف تجاهلت هذا كله وقالت بهدوء:
“على أي حال، ليست هناك علاقة بيني وبين باليريان. بل إنني بالنسبة له أسوأ من مجرد شخص غريب. إنه يكرهني، هذا كل ما في الأمر.”
“…باليريان يكرهك؟“
نظرت يوري إليها غير مصدقة، وبدت الحيرة واضحة في عينيها السوداوين. ولمّا رأت إيف هذا الاضطراب والشك، لاذت بالصمت للحظة.
تلك اللحظة التي فُتح فيها الباب…
كان ذلك في اليوم الذي اكتشف فيه باليريان أنها تنوي مغادرة قرية نادين.
لا شك أن يوري رأت ما حدث بينهما آنذاك.
وهكذا، بدا من الطبيعي أن تسيء الفهم.
رغم أن طريقتها في التعبير عن غيرتها بهذا الشكل لا تُسعدني كثيرًا…
لم تكن إيف ترغب في أن تتأكد من قلة نضج يوري بهذه الطريقة. لكنها كانت تعرف جيدًا أن الدخول في نزاع مع البطلة الأصلية ليس تصرفًا حكيمًا.
سيتسبب لي ذلك في متاعب بلا شك.
لذلك، كانت مصممة على تصحيح هذا الفهم الخاطئ.
“رأيتِ الأمر من خلال فتحة الباب، أليس كذلك؟“
سألتها إيف بنبرة مباشرة.
“لا أعرف عمّ تتحدثين.”
لكن ارتباك يوري لم يخفَ على إيف، بل أكد لها ظنونها. لقد رأت المشهد حقًا.
“سأخبرك بما دار بيني وبين باليريان في تلك اللحظة.”
بدت الصدمة واضحة على وجه يوري، لم تتوقع أن تتحدث إيف عن ذلك بصراحة.
أما إيف، فأكملت كلامها بهدوء:
“أهم ما يقدّره باليريان هو الثقة والولاء. لكنه واجهني وساءلني ذات مرة عن خيانتي له، وكيف أنني غادرت دون تحمّل أي عواقب. ومؤخرًا، ضبطني أستعد للهروب مجددًا، وكان رد فعله غاضبًا.”
“…ثم ماذا حدث؟“
“اتهمني بأنني أهرب من المسؤولية، وأني أتجنب دفع ثمن أفعالي.”
هزّت إيف كتفيها بلا مبالاة.
“…هل هذا حقيقي؟“
كلما استمعت يوري لكلماتها، ازداد اضطراب نظراتها.
أتكون كل تلك المشاهد التي رأتها مجرد أوهام؟
“في العربة، عندما دافع آرون عني، لا بد أن ذلك أزعج باليريان كثيرًا. على الأرجح كان يتمنى أن يتفق الجميع على كراهيتي.”
لم تستطع يوري إخفاء حمرة وجهها. لم تصدق أنها كانت تغار من أمر لا أساس له. كانت خجلانة من نفسها إلى أقصى حد.
“أ–أنا آسفة… لقد أسأتُ الفهم.”
اعترفت يوري بصدق واعتذرت.
ابتسمت إيف ابتسامة خفيفة وأجابت بأنها لا تمانع، بل إنها قدّرت ليوري اعترافها وصدقها.
“هذا يعني أنه لا داعي لأن تكون بيننا أي خصومة.”
“ن–نعم…”
ازداد خجل يوري، وأحسّت بأنها كانت ضيقة الأفق. وفي الوقت نفسه، شعرت بشفقة على إيف.
“لكن… من الظلم أن تكوني في هذا الموقف رغم أنك لم تفعلي شيئًا.”
“وماذا عساي أفعل؟ يبدو أن هذا قدري، ولا خيار لي سوى تقبّله.”
أجابت إيف بابتسامة باهتة وهزّت رأسها. نظرت إليها يوري بعينين تغمرهما الشفقة.
“إن احتجتِ لمساعدتي، فقط قولي.”
“شكراً، يكفيني كلامك هذا.”
ابتسمت إيف بهدوء وأخذت رشفة من الشاي. أما يوري، فأخذت تتأمل جمالها المدهش. لو كان للجنّيات وجود، فهكذا ستبدو إحداهن. كان سحرها الأخّاذ لا يُضاهى.
تنفست إيف الصعداء داخليًا. كانت على وشك أن تفقد ثقة من بيدها مصيرها. لكنها الآن متأكدة أن يوري لم تعد تحمل لها سوء ظن. وهذا كان كافيًا لتشعر بالارتياح.
* * *
بوووم!
في الخارج، زُيِّنت السماء بالألعاب النارية، مُعلنة افتتاح مهرجان الصيف.
وفي قاعة الاحتفالات الكبرى بالقصر الإمبراطوري، تمايلت الأضواء الخضراء البراقة كالربيع فوق رؤوس النبلاء الذين ارتدوا أبهى حللهم وتبادلوا الأحاديث الودية وسط أجواء ساحرة.
أما موضوعهم الأساسي، فكان بطبيعة الحال ظهور القديسة في العاصمة.
هكذا كان الأمر ظاهريًا. لكن خلف تلك الابتسامات، كان حديثهم يدور همسًا حول الفتاة التي جاءت برفقة القديسة إلى العاصمة “إيف إستيلا“.
انتقدها بعضهم علنًا واتهموها بالخِفة لأنها استطاعت جذب قلبين من ألمع رجال الإمبراطورية في آنٍ واحد، لكن في قرارة أنفسهم كانوا يتوقون لمعرفة سرّها.
كيف تمكّنت من إيقاعهما في حبّها؟
“ترى، هل ستحضر الآنسة إستيلا الحفل الليلة؟“
سألت إحدى السيدات النبيلات.
“لا أظن ذلك. بعد كل ما فعلته ثم فرت من العاصمة، هل تجرؤ على العودة لحضور الحفل؟“
“هممم، من يدري؟ طالما عادت بكل هذه الجرأة، فقد تحضر أيضًا.”
قالت أخرى بنبرة فيها شيء من الترقب. رغم أن الظهور الأول للقديسة كان حدثًا مثيرًا، إلا أن أكثر ما يشغلهم كان بالفعل الآنسة إستيلا.
لكن إحدى النبيلات أغلقت مروحتها برفق وقالت:
“أنا شخصيًا أجد القديسة أكثر إثارة للفضول.”
سرعان ما تحولت الأنظار نحوها.
كانت المتحدثة هي أوفيليا غيلين، ابنة عم ولي العهد.
شخصية لامعة تمكنت من التفوق على إخوتها الذكور جميعًا بذكائها الحاد، واستحقت مكانها وريثة لعائلة الدوق غيلين المرموقة.
وبما أن عائلتها تعدّ من أقوى العائلات في العاصمة، فقد كان من الطبيعي أن تستحوذ على الاهتمام.
“ألا يثير فضولكم أن تعرفوا ما هي نوع المرأة التي يُقال إنها تحمل مصير الإمبراطورية بين يديها؟“
قالتها بابتسامة غامضة رسمت قوسًا فاتنًا على شفتيها.
———
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
قناتي تيليجرام للروايات :
@snowpunny
التعليقات لهذا الفصل " 53"