كان رئيس الخدم يراقب ملامح وجه السيد الشاب وهي تظلم بسرعة، وقد بدأ يتخيل فحوى الرسالة.
على الأرجح، كان الأمر متعلقًا بتعرضه للرفض مجددًا من الآنسة إستيلّا، أو بشيء من هذا القبيل. وتوقعه هذا لم يكن بعيدًا عن الحقيقة.
إلى باليريان لودفيغ،
بعد التقرير الأخير في الصحيفة، ازدادت احتمالية تعرّض يوري للخطر.
وبما أنك فارسها المكلّف بحمايتها، آمل أن تولي أمنها اهتمامًا بالغًا.
سيكون من الأفضل ألا تبتعد عنها ولو للحظة واحدة أثناء الحفل.
أترك الأمر بين يديك.
رغم أن الرسالة لم تُوقّع باسم مرسلها، كان من الواضح تمامًا من كتبها. الخط المنمق والواضح لم يكن إلا خط إيف.
حدّق باليريان في الرسالة كأنه يريد أن يثقب الورق بنظراته، ثم زمّ شفتيه بقوة وعضّ على أسنانه.
‘تطلب مني أن أعتني أكثر بأمن القديسة؟‘
حتى لو كانت هذه الرسالة مرسلة من المملكة المقدسة بدلًا من إيف، لما شعر بأي اختلاف في المضمون. بل في قرارة نفسه، كان يتمنى لو أن الرسالتين قد تم تبادلهما عن طريق الخطأ.
مجرد أن آرون انحاز إلى صف إيف يكفي ليشعر بالضيق، لكن إيف بدورها تدفعه ليلازم القديسة طوال الحفل.
بغض النظر عن نواياها، فهكذا بدت له الأمور.
‘إن كانت هذه رغبتها، فليكن.’
قبض باليريان على الرسالة وهو في أسوأ حال، وغادر ساحة التدريب بخطوات واسعة.
وقد حاول بعض فرسان قصر الدوق تحيته عند رؤيته، لكن ملامحه الغاضبة كانت كافية لجعلهم يبتلعون كلماتهم بصمت.
— “هل حصل شيء؟“
— “يبدو كذلك… ربما الأمر متعلق بالآنسة إستيلّا مجددًا.”
بدا الأمر بديهيًا للفرسان؛ إذ لم يكن هناك أحد في قصر الدوق لا يعرف باهتمام السيد الشاب بها.
“آه! ريان!”
نادته يوري وهي تلوّح له من حديقة قصر الدوق لودفيغ، حيث كانت تتجول متأملة الأزهار.
كانت يوري ضيفة شرف لدى قصر الدوق بعد صعودها إلى العاصمة.
لاحظ باليريان وجود أحد فرسان القصر الإمبراطوري بقربها، فتوجه نحوها مباشرة.
“ما الأمر؟”
سأل باليريان الفارس الإمبراطوري، فأجابه الرجل مرتديًا زي الحرس:
“صاحب السمو ولي العهد استدعى القديسة إلى القصر.”
“صحيح، لهذا السبب كنت بانتظارك يا ريان.”
ثم قالت يوري مجددًا وهي تبتسم ابتسامة خفيفة الحرج.
“لا زلت أشعر بالتوتر عند الخروج بدونك…”
أخفى باليريان مشاعره المضطربة بسبب رسالة إيف، ورد بابتسامة تعتذر:
“آسف لجعلك تنتظرين. أرجوك، أخبريني مسبقًا إذا أردتِ الخروج.”
“لا، بل أنا من يعتذر لإزعاجك!”
“لا بأس، هذا واجبي بعد كل شيء.”
ابتسمت يوري مطمئنة عندما رأت ابتسامته الهادئة.
ما إن وصلا إلى قصر ولي العهد، حتى قاداهم الحرس إلى غرفة الاستقبال.
الممر المؤدي إليها كان يحيط به أشجار خضراء كثيفة تعبق بجو صيفي منعش.
نظرت يوري إلى تلك الخضرة دون وعي، فتبادر إلى ذهنها اللون الأخضر في عيني ولي العهد. وحين دخلا الغرفة، كان زافيير هو من بادر بالتحية أولًا:
“مرحبًا بك، آنسة يوري. مضى وقت طويل.”
“مرحبًا، سمو ولي العهد.”
ردّت بتحية رسمية ومحترمة.
لوّح زافيير بيده مشيرًا لها بالجلوس، كأنه يقول لا داعي لكل هذه الرسمية.
ثم نظر إلى باليريان الجالس بجوارها وقال:
“باليريان، بدا وجهك جيدًا منذ لحظة، لكن… لا، لا يبدو عليك أنك بخير.”
سارع بتغيير كلامه بعد أن أمعن النظر فيه.
“هل حصل شيء أزعجك؟“
لم يكن وجهًا غريبًا عليه، فقد رافقه لأكثر من عشر سنوات، ويكفي أن ينظر إليه ليعرف حالته المزاجية.
“مستحيل، أنا في أفضل حالاتي.”
أجاب باليريان بابتسامة ناعمة.
لكن الحقيقة أن مجرد قوله إنه في مزاج جيد كان كافيًا ليشعر من حوله بعكس ذلك.
أدرك زافيير أنه لا يرغب بالحديث عن الأمر، فرفع فنجانه وقال:
“آنسة يوري، لست متأكدًا إن كان هذا الشاي سيلائم ذوقك.”
تناولت يوري الفنجان وتذوقت منه رشفة، فتوسعت عيناها بدهشة.
“طعمه لذيذ جدًا…!”
لم يكن يُقارن أبدًا بما اعتادت عليه في الكنيسة.
عبق الزهور كان أقوى، ولا أثر للرطوبة، والمذاق الأخير كان نقيًا ومنعشًا.
“يسرني أنه راق لك. في زيارتك السابقة، لم تحصلي على فرصة لشرب الشاي لانشغالنا بالحديث مع جلالة الإمبراطور. لكن اليوم لدينا متسع من الوقت، فتناولي الشاي براحتك.”
كلماته جعلت يوري تخفف من توترها قليلًا، ثم لمحت باليريان بطرف عينها.
‘قال إنه لا يبدو بخير؟‘
كان يبدو عليه بعض التعب، على الأرجح لتوّه أنهى تدريباته، لكن لم ترَ فيه فرقًا كبيرًا عن المعتاد. وجهه الوسيم لا يزال مشرقًا كالعادة.
ومع ذلك، فقد بدأت تشعر بالقلق بعد ملاحظة ولي العهد.
فيما كانت تنظر إليه، وضع زافيير فنجانه جانبًا وابتسم ابتسامة خفيفة.
“لا بد أن هناك الكثير مما يشغل بالك وأنتِ تستعدين لأول ظهور رسمي لك في المجتمع، أليس كذلك؟“
“أبدًا… بل على العكس، هناك من يساعدني بكل شيء، لذا بالكاد أفعل شيئًا بنفسي. أشعر أحيانًا أن الأمر مفرط في السهولة…”
ضحكت يوري بخجل، مما أثار دهشة زافيير الذي رفع حاجبيه.
كانت إجابة صريحة أكثر مما توقع. فمن الصعب أن يعترف أحدهم بأنه لا يجهّز شيئًا بنفسه ويعتمد كليًا على من حوله، خاصة في حضور شخص ليس مقربًا جدًا منه.
“إن احتجتِ إلى أي مساعدة، فلا تترددي في طلبها. سأدعمك بكل ما أستطيع.”
“واو! شكراً جزيلاً، كلماتك وحدها تكفي… آه، لكن إن أمكن…”
ترددت للحظة وكأنها تفكر، ثم تابعت:
“لو لم يكن لدى سموك شريكة لحضور الحفل، فهل بإمكانك أن تكون شريكًا لإيف أوني؟“
“……؟“
“يوري!”
نظر زافيير إلى يوري بعينين مشوشتين، بينما كانت نظرات باليريان، الذي نادى عليها أولًا، أكثر برودة من المعتاد.
أعاد زافيير التفكير في سؤالها.
‘تطلب مني أن أكون شريك الآنسة إستيلا؟‘
هل من الممكن أنها لم تسمع بذلك؟
فقد باتت القصص المتداولة عن التورط بين السيد لودفيغ الصغير وولي العهد والآنسة إستيلا حديث العامة في العاصمة. لكن من المحتمل أن يوري، التي لم يمضِ على مجيئها إلى هذا العالم سوى أشهر قليلة وكانت تقيم في المملكة المُقدسة، لم تكن على علم بذلك.
غير أن كلماتها التالية بددت شكوكه تمامًا.
“أشعر بالقلق لأن الناس على الأرجح سينظرون إلى إيف أوني بنظرات يملؤها الظلم.”
بهذا الكلام، كانت يوري قد أقرت بنفسها بأنها على دراية بالشائعات الدائرة.
عندها، ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجه زافيير.
“أخشى أن ذلك سيكون صعبًا.”
رفضه كان حازمًا. فالتورط في شائعات جديدة مع الآنسة إستيلا سيكون أمرًا مزعجًا حتى بالنسبة له.
لقد صارت سمعتي مثل الكلب الذي طارد الدجاجة فعجز حتى عن لحاقها.
كانت النظرات المشفقة التي تُرمى عليه في كل حفلة لا تُطاق.
ولو أنه استجاب فعلاً لطلب القديسة، فإن إيف إستيلا لن تسلم من أن تتحول إلى هدف لوابل من الانتقادات والهمسات.
“على فكرة، سمعت أنكِ صعدتِ إلى العاصمة بصحبة الآنسة إستيلا.”
“نعم، هذا صحيح.”
أومأت يوري برأسها. واندهشت في سرها من مدى اطلاع أفراد العائلة الإمبراطورية على التفاصيل.
ومن هنا بدأت المحادثة تأخذ منحى أكثر عادية، تتحدث عن حياة يوري في المملكة المُقدسة وغيرها من الأمور اليومية.
“لم أشعر بمرور الوقت ونحن نتحدث، لقد سررت باللقاء.”
قال زافيير مبتسمًا وهو يضع فنجانه جانبًا.
“وأنا أيضًا استمتعت كثيرًا!”
ردت يوري بابتسامة مشرقة. حينها تحولت نظرات زافيير نحو باليريان، الذي لم يتغير تعبير وجهه المتجهم منذ دخولهما غرفة الاستقبال.
“إذن، أراك في الحفل يا باليريان.”
“نعم.”
ردّ باليريان بإجابة مقتضبة، تنمّ عن الجفاء.
•طق.
أُغلِق الباب، وعاد السكون ليسيطر على غرفة الاستقبال التي بقي فيها زافيير وحيدًا.
رفع فنجان الشاي إلى شفتيه وغرق في التفكير.
فما كان يسعى إليه اليوم هو فهم طبيعة العلاقة بين يوري وإيف إستيلا. لأن فهم علاقتهما من شأنه أن يكشف له الكثير عن علاقة باليريان بالقديسة.
لا يبدو أن بين يوري والآنسة إستيلا عداوة.
لذلك، حين علم أنهما صعدتا إلى العاصمة معًا، شعر بالحيرة.
هل العلاقة بين يوري وباليريان لم تتقدم إطلاقًا؟
من المؤكد أن المملكة المُقدسة تبذل كل جهد ممكن لربط باليريان بالقديسة، فذلك هو الطريق الأسهل لترسيخ نفوذهم.
لذا، كان من المفاجئ عدم وجود أي تطور بينهما. على الأقل، كان هذا ما يظنه… حتى وقتٍ قريب.
اتضح أن القديسة هي التي تكن مشاعر من طرف واحد لباليريان.
فقد أدرك زافيير ذلك فور بدء حديثه معها.
فقد بدت يوري وهي تبتسم له أكثر من اللازم، وكأنها تحاول استثارة غيرة باليريان وجذب اهتمامه.
وكان يعلم منذ أن أُرسل باليريان في مهمة إلى قرية نادين، أين يتجه قلبه.
لكن لم يكن في حسبانه أن القديسة وحدها من يحمل تلك المشاعر.
وإذا كانت تلك الفرضية صحيحة، فإن طلبها منه يصبح أكثر وضوحًا في نواياها.
في كل الأحوال، لم يكن طلبًا عاديًا.
فما كانت لتطلب شيئًا كهذا عن جهل بطبيعة المجتمع الأرستقراطي.
فهذا النوع من الأمور بديهي، ومن الصعب تبريره بسذاجة أو غفلة. وبصرف النظر عن نيتها، فإن طلبها في نظره لم يكن بريئًا.
وإن كانت قد تجرأت على إظهار هذه النية حتى أمام ولي العهد، فهو يستطيع أن يتوقع سلوكها في الحفل.
مؤسف فعلًا.
لم يكن من دواعي سروره أن يرى إيف إستيلا قد بدأت تصبح هدفًا لغضب القديسة.
فكر للحظة في إرسال رسالة تحذيرية إلى إيف، لكنه تراجع بسرعة.
ما هذا التدخل الفارغ؟
كان بإمكانه أن يتخيل رد فعلها لو وصلتها تلك الرسالة:
لماذا تتدخل في شؤوني؟ هل لأنك تُعجب بي يا سمو الأمير؟
كأن صوتها الرافض ونظرتها المتغطرسة ارتسمت بوضوح في ذاكرته، حتى تخيّل وجهها وهي تبتسم ببرود.
“لا، لا، هذا مستحيل تمامًا.”
رفض تلك الفكرة بشدة. أكثر ما كان يكرهه هو الوقوع في مثل هذه المواقف المحرجة.
ومع أنه حاول بجد أن يقطع كل صلة له بالأمر، تنهد أخيرًا وبدأ يكتب رسالة.
المُرسلة إليها لم تكن سوى وريثة دوقية غيلين وابنة عمّه، أوفيليا غيلين.
———
مابهتم لو الروايه فيها تمطيط كبر الارض، عم ترجمها لاني متوقعه منها الكثير من الاحداث مستقبلًا واحبها، هي كلها 115 فصل تقريبًا باقي 50 فصول ونخلص الرئيسي وندخل للجانبي وهابي هابي هابي والي بدو يقرأ يقرأ والي مابدو يسحب عليها.
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
قناتي تيليجرام للروايات :
@snowpunny
التعليقات لهذا الفصل " 52"