مرّ شهر منذ أن جاءا يوري وباليريان إلى القرية.
وخلال هذا الشهر، توطدت العلاقة بين إيف ويوري كثيرًا، وهذا كان طبيعيًا، فكل واحدة منهما كانت الشخص الوحيد من موطنها الأصلي الذي وجدته في هذا العالم. إيف لم تلتقِ بأحد من بلدها سوى يوري، ويوري، التي تتذكّر حياتها السابقة، شعرت بالأمر نفسه تجاه إيف.
لذلك، نشأت بينهما، من دون وعي، مشاعر من الود والقرب.
‘أصبحت يوري قريبة من آرون أيضًا مؤخرًا.’
ربما لأن القرية لا تضم الكثير من أقرانهم في العمر، بدا من الطبيعي أن يتقاربوا.
وكان من حين لآخر، عندما يظهر باليريان، تلاحظ إيف كيف تبتسم يوري لآرون بخجل وتردّد، مما يوحي بنيّة خفية خلف تصرفاتها.
أن تستخدم آرون لإثارة غيرة ياليريان؟!
‘يبدو أنها معجبة به كثيرًا.’
لكن ربما لصغر سنها، لم تكن بارعة في التعبير عن مشاعرها، وكان في تصرفاتها شيء من الارتباك والتصنّع. أما باليريان، فكان يبدو غير مبالٍ بتصرفاتها، ولم يُظهر أي رد فعل يُذكر.
‘ومن يدري؟ ربما في داخله يشتعل غيرةً.’
من كان ليصدق أن باليريان الذي ظنّته شخصًا صريحًا، قادر على إخفاء مشاعره بهذا الشكل؟ حتى إيف شعرت بأنها خُدعت.
قالت يوري بوجه يعلوه الحزن، بينما كان باليريان قد ذهب ليسقي الحديقة الصغيرة:
“إيف أوني، سأضطر قريبًا إلى التوجّه للعاصمة للمشاركة في حفل تقديمي إلى المجتمع.”
شعرت إيف بشيء من السعادة لسماعها هذا، لكن في الوقت نفسه راودها شعور بالفراغ.
فمهما كان المرء قويًا وغير متعلّق بالآخرين، فإن غياب من اعتاد وجودهم بجانبه لا بد أن يترك أثرًا.
“أوني، هلا فكرتِ في الذهاب معي إلى العاصمة؟“
“إلى العاصمة…؟“
كان عرض يوري مفاجئًا. فتجمدت ملامح إيف للحظة، وعقدت شفتيها بتوتر.
“نعم! فكل أفراد عائلتك في العاصمة، ولم يعد هناك سبب لبقائك هنا بعيدًا عنهم بسببي. لذا، أليس من الأفضل أن تعودي أيضًا؟“
“…سأفكر في الأمر.”
رغم أن كلام يوري كان منطقيًا، شعرت إيف بالتردد.
لم تكن مستعدة نفسيًا للعودة إلى العاصمة. بالكاد تمكّنت من مغادرة النظام الإمبراطوري، فكيف لها أن تعود الآن…؟
‘لا يعني أنني لا أشتاق لعائلتي.’
ومع ذلك، لم تكن مرتاحة لفكرة العيش قريبًا من القصر الإمبراطوري. لكنها تدين ليوري بالكثير، فلو لم تحفظ سرها، لما استطاعت العيش بسلام هنا.
في الحقيقة، لولا كتمان يوري لأمرها، لكانت حياتها في هذه القرية مستحيلة.
“عودي إلى العاصمة.”
تذكّرت فجأة حين طلب منها باليريان ذات مرة أن تعود إلى العاصمة.
وكان ردها في حينه “خذني معك فقط إن أردت موتي.”
ولذا، فإن تراجعها عن موقفها الآن سيبدو غريبًا ومتناقضًا.
‘ما الذي ينوي فعله هناك في العاصمة؟‘
والآن، لم تعد يوري العقبة الأكبر في طريقها، بل باليريان هو من أصبح العائق الحقيقي.
لاحظت يوري تردّد إيف، فتحدثت بلطف وتردد:
“وأيضًا… إيف أوني، أودّ حقًا أن تأتي إلى العاصمة كصديقتي.”
“كصديقتك؟ لماذا؟“
طلبها بدا غريبًا. ما الذي تعنيه بذلك؟
“أتمنى ألّا يحدث شيء كهذا، لكن… إن اكتشف أحدهم يومًا أنك ساحرة…”
نظرت يوري إليها بعينين مليئتين بالقلق.
“أريد أن أكون إلى جانبك لأشهد ببراءتك. لكن إن كنتِ بعيدة عني، فقد لا أستطيع مساعدتك في الوقت المناسب، وإن حدث لكِ مكروه فسأشعر بالذنب طوال حياتي.”
صمتت إيف لبرهة.
“فلنذهب معًا يا أوني. أرجوكِ.”
“…لكن…”
كان اقتراحًا لا يُرفض. بكلمة واحدة من القديسة، لن يجرؤ أحد على الشك بأنها ساحرة.
“إن كنتِ تثقين بي وتأتين، فسأبذل كل ما في وسعي لأردّ لكِ هذا الجميل.”
تحت نظرات يوري الصادقة، لم تملك إيف إلا أن تومئ بالموافقة.
“حسنًا.”
لكن خلف عينيها العقيقية، لمعت شكوك طفيفة.
‘وإن لم تكن كلمات يوري صادقة؟‘
عندها، قد يكون بقاؤها هنا أكثر خطرًا من الذهاب.
وكان لا بد من مراقبتها عن قرب، وفهم نواياها الحقيقية.
وكلما اقتربت منها المسافة، كان ذلك أفضل.
شعر أهل القرية بأسى شديد حين علموا أن إيف ستغادر إلى العاصمة.
“كيف لنا أن نترك حبيبة حظّنا تغادر هكذا…؟“
“أوه لا… ومن سيعتني بزراعة العام المقبل؟“
أما باليريان، الذي سمع بالأمر متأخرًا من يوري، حدّق بإيف بنظرة معقّدة.
“ومن سيتحمّل مسؤولية زراعتنا الآن؟“
أمالت يوري رأسها باستغراب.
“هل الأخت شارلوت بهذه الأهمية في الزراعة؟“
“طبعًا! وجود شارلوت غيّر حال القرية تمامًا! يمكننا القول إن حياتنا في القرية تنقسم إلى ما قبل أن تأتي شارلوت، وما بعد مجيئها!”
“صحيح! شارلوت بارعة في التنبؤ بالطقس! وكأن المطر ينهمر كل مرة نحتاج إليه فيها… كل هذا بدأ بعد مجيئها! إنها هدية من السماء…هااه…”
كان رحيل إيف، في نظرهم، أصعب من رحيل القديسة نفسها.
تجهم وجه يوري قليلاً، ونفخت خديها بامتعاض.
‘ما الذي فعلته؟ استخدمت السحر بالتأكيد.’
إن كُشف أمر إيف على أنها ساحرة، فسيكون هؤلاء أول من ينبذوها.
راود يوري لوهلة شعور برغبة في فضحها، لكنها تداركت نفسها.
‘ما الذي أفكر فيه…؟‘
حتى وإن شعرت بالغيرة، فلا يحق لها كشف سر إيف بلا ذنب.
‘أن تتنبأ بالطقس، هاه…’
أما باليريان، فلم يستطع أن يبعد نظره عن إيف.
لم يسبق له أن رأى منها شيئًا كهذا، لكنها فجأة أصبحت تصيب في توقعات الطقس؟ هناك شيء مريب.
وكان قد سمع شيئًا مشابهًا من قبل…
“إذًا، أنا أيضًا سأذهب معهم!”
رفع آرون يده عاليًا فجأة، مما أثار صدمة والديه، السيد والسيدة رومان.
“آرون! ما الذي تقوله فجأة؟!”
كان آرون دائمًا يرفض السفر إلى العاصمة رغم كل المحاولات لإقناعه، متمسكًا بأن الزراعة هي ما يناسبه. لذا فإن كلامه الآن فاجأ والديه، رومـان وزوجته.
“أريد أن أصبح فارسًا شجاعًا مثل السيد إيلا!”
بدا وكأنه طفل في العاشرة يعلن حلمه بكل براءة. لكن الغريب أن كلامه لم يبدُ غريبًا على الإطلاق، بل تقبّله الجميع ببساطة. وقال بعض سكان القرية وهم يراقبون الموقف:
“دعوه يذهب هذه المرة، لن يضرّ ذلك.”
“صحيح، لقد قضى عمره هنا، فليجرّب شيئًا مختلفًا ولو لمرة واحدة.”
عبارة “قضى عمره هنا” كانت مباشرة وصريحة. وفي النهاية، رضخ الوالدان وأومآ برأسيهما. فتألقت عينا آرون بحماس وهو يقول:
“سأعود وقد أصبحت فارسًا رائعًا!”
كادت إيف تضحك من حماسه الطفولي، لكنها شعرت بنظراتٍ تراقبها، فالتفتت لترى باليريان ينظر إليها. فأشاحت بنظرها على الفور، وقد ارتسم الارتباك على وجهها.
‘ها أنا أتناقض مع نفسي…’
كانت قد أقسمت أن لا تطأ العاصمة مجددًا ولو على جثتها، لكنها الآن متجهة إليها بنفسها! كم يبدو الأمر سخيفًا. وشعرت بالحرج الشديد وهي تصعد إلى العربة مسرعة.
لكنها ما إن استقرت داخلها حتى فوجئت بشخص آخر يدخل خلفها.
“أنت؟! ما الذي تفعله هنا؟!”
لقد كان باليريان.
“همم؟”
أجابها بنظرة مستغربة. ثم صعدت يوري إلى العربة بعدها بلحظات، ورأت إيف بداخلها فبدت على وجهها ملامح الدهشة:
“آه! إيف أوني، هذه عربتي…”
آه! الآن فهمت إيف الموقف وأحسّت بالإحراج.
كل العربات كانت بيضاء، فاختلط الأمر عليها.
‘كنت أستغرب لماذا كانت الوسائد مريحة إلى هذا الحد…’
على ما يبدو، هذه عربة مخصصة للقديسة.
“آه، آسفة، يبدو أنني أخطأت. سأخرج حالًا…”
وما إن بدأت بالنهوض حتى أمسك باليريان بمعصمها وقال:
“بما أنك ركبتِ، فلتبقَي معنا.”
لكن إيف لم تكن مرتاحة للفكرة إطلاقًا. الجلوس في عربة واحدة مع باليريان ويوري؟ وهي تعرف مشاعر يوري تجاهه؟ لا، هذا آخر ما تريده.
“أجل! إيف أوني، ابقي معنا!”
قالت يوري بابتسامة مشرقة.
“لكن… ألن يشعر آرون بالوحدة وهو وحده؟“
قالت ذلك محاولةً التهرّب.
رفع باليريان حاجبه فجأة، وبدت نظراته وكأن شرارات انطلقت منها… لكن لا، لا بد أنه مجرد وهم.
“في هذه الحالة، ليدخل آرون معنا أيضاً.”
قالها باليريان وهو يبتسم بلطف.
نظرت إيف نحو يوري مترددة، فهذه العربة مخصصة للقديسة، ومن الواضح أن وجود هذا العدد فيها سيجعل الأمر غير مريح.
لكن يوري لم تبدُ منزعجة إطلاقًا، بل أجابت بحيوية:
“فكرة رائعة! سنقضي الطريق معًا ولن نشعر بالملل!”
كانت فتاة إيجابية لأقصى حد.
تنهدت إيف وجلست من جديد بغير اقتناع. ثم صعد آرون إلى العربة أيضًا.
“آه! الجميع هنا! حتى السيد إيلا!”
نظر إلى باليريان بنظرات إعجاب وانبهار.
أما باليريان، فابتسم باحترافية وأشار له بالجلوس بجانبه:
“تفضل بالجلوس هنا.”
“هل أنا في حلم؟”
قال آرون وهو يقرص خده، غير مصدّق.
تنهدت إيف وقالت:
“كفى ضجة، واجلس.”
“حاضر!”
أجاب آرون فورًا.
وما إن جلس الجميع حتى بدأت العربة تتحرك. كانت إيف تنظر من النافذة، تستوعب تدريجيًا أنها في طريقها إلى العاصمة.
‘تركتها سابقًا وأنا أقسم ألا أعود… لكن ها أنا أعود.’
حقًا، لا أحد يعلم ما تخبئه الحياة.
“بالمناسبة، هل يجب أن نستمر في مناداة شارلوت أوني بهذا الاسم حتى في العاصمة؟“
سألت يوري وهي تميل برأسها بحيرة.
فقال آرون باستغراب:
“ماذا تقصدين؟“
“أمم… أقصد…”
نظرت يوري نحو إيف مترددة. فتحدثت إيف بهدوء، وقد بدا عليها الحسم:
“لن أستطيع إخفاء اسمي الحقيقي إلى الأبد، لذا ناديني باسمي فقط.”
“حسنًا، كما تشائين، إيف أوني.”
فجأة، تسمرت نظرات آرون عليها.
“…إيف؟ لا تقصدين… إيف إِسْتِيلا؟“
اتجهت إليه نظرات إيف ببرود، مستعدة لسماع أول عبارة لوم أو اتهام.
(اذا كان فيه اشيا مو مفهومه في الترجمة نبهوني بليز لان الايام هاي مشغولة البال واترجم بدون ما انتبه)
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
قناتي تيليجرام للروايات :
@snowpunny
التعليقات لهذا الفصل " 49"