‘إلى متى سيبقى باليريان هنا؟‘
لم تستطع إيف أن تُبعد هذا السؤال عن ذهنها، بينما كانت تحدق في آرون الممدد على السرير داخل غرفة التمريض في بيت الحكيم.
قال آرون، الذي تبيّن لحسن الحظ أنه يعاني فقط من ارتجاج خفيف، وهو يلف ضمادة حول رأسه:
“تبدين شاردة، هل يشغلك أمر ما؟“
هزّت إيف رأسها وقالت:
“ليس أمرًا مهمًّا. ماذا عن رأسك؟ هل ما زال يؤلمك؟“
ابتسم آرون ابتسامة باهتة وقال:
“أنا بخير، المهم أنني لم أتحول إلى طعام للوحوش. لا أصدق أن السيد إيلا كان يمر من الجبل في تلك اللحظة! كنت أود أن أشكره، لكنه على الأرجح رحل، أليس كذلك؟“
حكّ رأسه بأسف واضح. كان من كبار المعجبين بـ إيلا، وكان يراه بطل يُقاتل في الصفوف الأمامية ضد الشياطين، تمامًا مثل باليريان. (باليريان يلقب إيلا لان يحمل نفس القوة وهو من سلالته)
كان حزنه ظاهرًا بوضوح، حتى أنه لم يكن كعادته المبتهجة، وزادت رطوبة عينيه مما أوضح كم كان يود رؤيته حقًا.
أشفقت إيف عليه وترددت للحظة، ثم قالت بصوت خافت:
“في الحقيقة، إيلا جاء إلى هنا مجددًا اليوم.”
“حقًا؟! أأنت جادة؟!”
انتفض آرون بحماس ورفع جسده عن السرير، مما جعل إيف تسرع في إيقافه.
“إلى أين تظن نفسك ذاهبًا بهذه الحالة؟“
ردّ وكأنه يسأل عن أمر بديهي:
“لأشكر السيد إيلا، طبعًا!”
كانت عيناه تتلألأ بالفرح والانفعال، بينما أمسكت به إيف بوجه مرتبك، متذكرة تحذير الطبيب من ضرورة الراحة التامة له.
“شارلوت! ماذا لو لم أتمكن من رؤيته مجددًا؟ كنت أتمنى قبل أن أموت أن أراه مرة واحدة على الأقل!”
كان احتجاجه عنيفًا ومليئًا بالإلحاح. قطّبت إيف حاجبيها وقالت بصوت صارم:
“سأُحضره إليك، فقط ابقَ مكانك ولا تتحرك!”
كانت تخشى أن يؤذي نفسه إن أصر على الخروج. زفرت تنهيدة طويلة وغادرت منزل الحكيم.
‘كان عليّ ألّا أخبره.’
ندمت على قولها، وكان الأفضل لو لم تذكر مجيء باليريان أبدًا. ولكن بما أنها فعلت، فلو لم تُحضر له إيلا فعلًا، فلن يهدأ له بال، وستقع فوضى.
‘هربت من باليريان بكل مشقة، وها أنا مضطرة للبحث عنه مجددًا!’
‘يا لسخرية القدر!’
اتجهت إيف إلى مزرعة الخوخ، لكن لم تجد له أثرًا هناك. لم يكن سوى هيليوت ينجز بعض المهام المتبقية.
سألت بينلي، الذي كان يرفع صناديق فارغة بجانبها:
“عذرًا، أين ذهب الفارس الذي كان هنا؟“
“آه، تقصدين السيد إيلا؟ أنهى عمله منذ قليل وغادر. هل هناك شيء طارئ؟“
“لا… لا شيء مهم.”
هزت رأسها بتردد، وتساءلت.
‘هل تستمر في البحث عنه أم تتوقف؟‘
‘آه، لا يهم.’
قررت التوقف. ليس من واجبها أن تحقق أمنية آرون. وإن تدهورت حالته، فذاك ذنبه، لا ذنبها!
سمعت صوت مارغريت القريبة تقول لها:
“أظن أنه اتجه نحو الجبل. لم لا تذهبين إلى هناك؟“
“شكرًا…”
أومأت إيف لها بابتسامة متكلفة، إذ شعرت بثقل نظرات مارغريت التي بدت وكأنها تنتظر شيئًا بالمقابل.
“ألا تحتاجين للمساعدة في شيء آخر؟“
“لا، لقد أنهيتِ كل شيء.”
لوّح العاملون بأيديهم، يحثّونها على الانصراف.
أمالت إيف رأسها بتساؤل، إذ كانت ترى أكوامًا من الخوخ لم تُجمع بعد!
“لكن، لا يزال هناك خوخ هناك…”
“سنقوم بجمعه نحن.”
“لنعمل عليه معًا!.”
وحين عرضت إيف مساعدتهم، أجابوا بسرعة:
“نحن سنتولى الأمر. ثم إن الفارس ما زال هنا معنا، أليس كذلك؟ شارلوت، اذهبي وابحثي عن السيد إيلا.”
جلس هيليوت في الجوار، يحدق بمن قال ذلك بعينين متسعتين من الذهول، وكأنهم قالوا شيئًا لا يُعقل.
قال:
“ليس بالأمر العاجل، يمكنها البحث عنه لاحقًا.”
لكن مارغريت تدخلت هي الأخرى ودفعت إيف بلطف لإخراجها من العمل.
وهكذا، وجدت إيف نفسها تُغادر المزرعة دون أن تدري كيف حدث ذلك، بينما يلوّح لها القرويون ويحثّونها على الذهاب.
تنهدت وهي تبدأ السير نحو الجبل الذي كانت قد ذهبت إليه ذات مرة للقضاء على خنزير بري.
‘كيف سأواجهه؟‘
ما إن شرعت في البحث عن باليريان حتى شعرت بثقل في صدرها.
لم تفهم حتى الآن لمَ عاد مجددًا إلى هنا. بدا عذر “القضاء على الشياطين المتبقية” واهيًا جدًا.
‘لو كنت مكانه، لأرسلت فرسانًا آخرين بدلاً من المجيء بنفسي.’
هي نفسها، لو اضطرت للانفصال عن من تحب بهذه الطريقة، لما رغبت في رؤيته مجددًا.
أم أنه لم يعد يشعر بشيء اتجاهها حتى أن رؤيتها باتت لا تعنيه؟
لو كان لا يحمل أي مشاعر تجاهها، لما طلب منها أن تعود للعاصمة.
‘أم أنه عاد خصيصًا ليعذبني؟‘
لم يعد هناك تفسير آخر. عضّت إيف شفتها بقلق. وإن كان هذا هو قصده، فقد نجح تمامًا. فهي ترتجف داخليًا كلما التقت به، ولو أنها تصرفت وفق مشاعرها فقط، لواجهت نهايتها مرات عديدة.
“أتمنى فقط أن يكون سعيدًا مع يوري…”
“يوري؟“
سمعت صوتًا مألوفًا خلفها. توقفت إيف فجأة في منتصف الطريق، وقد جفلت من سماع اسم يوري بصوت غير صوتها.
خطوات ثقيلة اقتربت من خلفها. لم تتوقع أن يسمع أحد حديثها مع نفسها، فاستدارت ببطء، وبدت على وجهها ملامح الارتباك.
رأت باليريان يتأملها بتعبير متفكر، وقد تكرّر على لسانه:
“تقصدين القديسة، صحيح؟“
سارعت إيف بالحديث، إذ لم ترغب أن يتمادى في التفكير.
“باليريان، هل يمكن أن تأتي معي إلى مكانٍ ما؟“
نظر إليها باستفهام، وعينيه تلمعان بفضول، فتابعت على الفور:
“هل تذكر الصبي الذي كان معي آخر مرة؟ اسمه آرون.”
بمجرد أن سمع الاسم، فهم فورًا من تقصد.
“آرون يريد أن يشكرك. لكنه لا يستطيع الحراك من سريره.”
‘من هو آرون، ولماذا تهتمين لأمره هكذا؟!’
عبرت الغيرة بوضوح في عيني فاليريان، لكنه سرعان ما أخفاها خلف ابتسامة هادئة.
“حسنًا.”
شعرت إيف بشيء غريب وهي تنظر إلى باليريان الذي أومأ برأسه دون تردد.
لو كان من أبناء العائلات الرفيعة كما يبدو، لكان من المتوقع أن يتردد قليلاً أمام مثل هذا الطلب. لكن باليريان لم يُبدِ أدنى تردد.
بل بدا كأن ذهابه واجب لا جدال فيه، ومن شدة حرصه واستعداده، جعل الآخرين يقتدون به تلقائيًّا. كان بحق نموذجًا لتأثير إيجابي يحتذى به.
‘حتى قبل قليل، ساعد في أعمال المزرعة بنفسه…’
تذكرت إيف لقائهما الأول، قبل زمن طويل. في البداية، لم تكن سوى مفتونة بمظهره، لكنها كلما قضت وقتًا معه، كلما كشفت عن جوانب شخصيته تلك، حتى وقعت في حبه بصدق.
شعورها بات مشوشًا الآن، خاصة وقد رأت فيه مجددًا ما كانت تحبه.
أما باليريان، فابتسم في نفسه ابتسامة ماكرة وهو يفكر بلقاء ذلك الرجل الذي جعل إيف تتحرك لأجله.
‘كيف ينبغي أن أُبعده عن طريقها؟‘
بدأ يفكر بجدية في طريقة لفصل ذلك الرجل عنها. أفضل سيناريو في نظره أن يأخذها إلى العاصمة، وهناك ستنقطع صلتها به تدريجيًّا.
فهو بالتأكيد لن يتبعها إلى هناك.
‘لكن إن قال إنه سيتبعها…’
حينها سيحرص على أن يجعل ذلك مستحيلاً عليه. لكن المشكلة تكمن في أمر أكبر: إيف نفسها لا تريد الذهاب إلى العاصمة.
‘لمَ ترفض الذهاب؟‘
استغرب باليريان من الأمر مجددًا. فقد عرف عن إيف أنها لا تهتم كثيرًا بآراء الناس من حولها. لم تكن تستمتع بالحفلات من الأساس، وحتى إن واجهها أحد بكلمات جارحة، كانت تتجاهلها ببساطة.
‘إن أردت أن تدمر سعادتي، فافعل. خذني إلى العاصمة إن شئت، يا باليريان.’
“…….”
‘إن كان موتي لا يعني لك شيئًا…’
لم تكن تلك كلمات تقولها عبثًا. وإن كان فعلاً ينوي أن يسحبها معه إلى العاصمة…
تجمد باليريان في مكانه، إذ تخيّل إيف جثة باردة هامدة، وسرَت في جسده قشعريرة، كأن دمه كله قد نزف دفعة واحدة.
ترجمة : سـنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي :
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 43"