في تلك الأثناء، كان بوناد أول من بادر بتحية شارلوت.
“شارلوت! صباح الخير!”
“آه، عمي بوناد. هيه… صباح الخير لك أيضًا.”
كانت إيف تكدّ في تقطيع الحطب بفأسٍ ضخم، فمسحت العرق عن جبينها واعتدلت في وقفتها.
“ما الذي تعملين عليه بكل هذا الجدّ؟“
“كنا نجهّز بعض الفخاخ، لكننا احتجنا لحطب للطهي.”
“أوه… هل هو ذلك الراكون مجددًا؟“
“نعم، دائمًا ما يسبب المشاكل في مثل هذا الوقت من السنة.”
قالت ذلك بابتسامة مرحة، فبدت وكأنها مزارعة مخضرمة قضت أكثر من عشر سنوات في هذا المكان.
ظل هيليوت يحدّق بها بشرود قبل أن ينتبه لنفسه ويحول نظره إلى قائده.
لكن عينا باليريان الزرقاوان لم تفارقاها قط.
كان هيليوت على وشك أن يكلم باليريان، إلا أن نظرته المتسمّرة على إيف جعلته يتردد.
‘همم…؟‘
هل من الممكن أن القائد لا يزال يحمل شيئًا من المشاعر تجاه الآنسة إستيلّا؟
فكرة مفاجئة راودته للحظة، فتنهّد ساخرًا من نفسه.
‘لا، لا يمكن. بعد كل ما جرى، لا يعقل أنه لا يزال معجبًا بها.’
صحيح أن باليريان رجل لطيف وودود، لكن ما يقدّره فوق كل شيء هو الثقة والصدق بين الناس.
‘قائدنا ليس أحمقًا ليقع ضحية الحب هكذا.’
هزّ هيليوت رأسه ملامًا نفسه على تفكيره السخيف، بل شعر أن مجرد تخيّل هذا الأمر فيه قلة احترام تجاه قائده.
في تلك اللحظة، نادى بوناد من داخل المزرعة:
“سيدي الفارس! هل يمكنك المجيء لمساعدتنا هنا؟“
كان هيليوت قد انحنى ليلتقط بعض الحطب المتساقط عند قدميه، وهمّ بأن يعتذر، لكنه تجمّد وقد فغر فاهه عندما رأى ما حدث
لقد سبقه القائد بخطوات سريعة.
“سيدي القائد…!”
ركض هيليوت خلفه مندهشًا، وما إن التفتت إليه آنسة إستيلّا حتى ابتسم لها ابتسامة محرجة.
أما إيف، التي رأته أيضًا، فقد تجمّدت في مكانها، غير قادرة حتى على الابتسام.
‘ماذا…؟ ما الذي يفعله هيليوت هنا؟‘
لم تكن تتوقع أن تصادف شخصًا تعرفه في هذا المكان. ونظراتها المتفاجئة انتقلت تلقائيًا إلى باليريان، الذي بدا وجهه هادئًا كعادته.
‘ربما جاء معه أثناء جولة التفقد؟‘
في النهاية، من الغريب أن يقوم القائد بنشاط شخصي بمفرده. في الواقع، بدا من غير المألوف أن يحضر فقط مع هيليوت.
‘يا لي من حمقاء.’
لم تستطع أن تبادر بالكلام أو تُظهر معرفتها به.
“مرحبًا، اسمي شارلوت.”
قالت إيف بعد أن ضغطت على غطاء رأسها كأنها تحاول أن تخفي نفسها، ثم ألقت التحية.
التقط هيليوت الإشارة وردّ عليها بتحية مماثلة ومحرجة.
“أه… هيليوت بيرينو… تشرفت بمعرفتكِ.”
ثم قدّم لها الحطب الذي كانت تقطّعه سابقًا.
تناولته منه وشكرته بنبرة فيها شيء من التحفظ.
“هاها، لم أكن أتوقع أن تتكرم بالمساعدة بهذه البساطة، شكرًا جزيلًا لك.”
ضحك بوناد من أعماقه وشكرهم مرة أخرى، أما صاحب المزرعة الذي كان يقف إلى جانبه، فنظر إليهم بعينين مليئتين بالامتنان، لكنه بدا مترددًا قليلًا وهو يقول:
“هل نكون قد أزعجناكم دون داعٍ، سيدي الفارس…؟“
أجاب باليريان بابتسامة دافئة:
“لا بأس، لا يوجد ما يشغلنا في الوقت الحالي. أخبروني فقط كيف يمكنني المساعدة؟“
وعندما تزينت ملامحه بابتسامة هادئة على وجهه الوسيم، لم يستطع بعض العمّال القريبين منه أن يرفعوا أنظارهم عنه، وقد بدوا وكأنهم مسحورون به.
“آه! هناك بعض المحاصيل خلفنا تحتاج للفرز والتغليف، إن أمكن مساعدتنا بذلك.”
نظر باليريان وهيليوت إلى حيث أشار صاحب المزرعة، فشاهدوا العشرات من الصناديق الممتلئة بالخوخ. فقامت إيف بقرص بوماد في خاصرته وهمست محتجة وهي تضيق عينيها:
“أليس من غير اللائق أن نطلب من فارس أن يصنّف الفاكهة؟“
لكن الحقيقة أنها لم تكن تهتم كثيرًا بمكانة الفارس، بل شعرت بعدم الارتياح لفكرة العمل معهم في نفس المساحة.
…خصوصًا بجانب باليريان. وجوده قربها هو أكثر ما يزعجها.
“هل هناك عمل آخر يمكنني القيام به؟“
سألت إيف، علّها تتفادى الجلوس والعمل بجواره.
“آه، لا تقلقي. لقد أنجزنا كل الأعمال البارحة. عندما علم الناس بإصابتك يا شارلوت، جاء الجميع ليساعد مسبقًا.”
قالها صاحب المزرعة مبتسمًا وهو يهز كتفيه.
شعرت إيف بالحيرة، لا تدري هل تضحك من هذه اللفتة اللطيفة أم تبكي. فالعمل الوحيد المتبقي الآن هو فرز هذه الخوخات.
‘من الأفضل أن أنهي الأمر بسرعة.’
رأت أن إتمام المهمة بأسرع ما يمكن هو الخيار الحكيم لتجنب هذا الوضع.
كان العمل يتطلب فرز الخوخ الجيد عن التالف أو المصاب.
“وهذا… هل يُعتبر صالحًا؟“
سأل باليريان وهو يشير إلى ثمرة خوخ يتفحصها. لم تكن تبدو تالفة ظاهريًا، باستثناء أن الجزء عند العنق يختلف قليلًا عن البقية.
“لا، يجب أن تُصنّف مع الخوخ التالف.”
أشارت إيف إلى صندوق الفاكهة المتضررة.
“انظُر، الجزء العلوي من هذه الفاكهة مفتوح تمامًا. هذا يعني أنها تالفة، وغالبًا ما تتكاثر حشرات الفاكهة داخلها.”
كانت تشرح دون أن تشعر، بانسيابية وتفصيل. ولما لاحظت نظرة غريبة من هيليوت الواقف بقربها، شعرت بالحرج والتزمت الصمت على الفور.
“وهذه؟“
سأل فاليريان وهو يرفع خوخة أخرى. فأجابت إيف:
“تلك ناعمة وسليمة، وخطها الوسطي عميق… إنها من الدرجة الممتازة.”
أوشكت أن تضرب فمها، من كثرة ما تكلمت بلا قصد. ورغم أنها شعرت بالضيق، إلا أنها رأت بوضوح باليريان يقاوم الابتسام. حدّقت به وكأنها تسأله:
هل ما يحدث الآن يضحكك فعلًا؟
ثم تناولت صندوق الفاكهة وهمّت بالانصراف بسرعة، وقد قررت أن تبتعد قدر الإمكان عن باليريان أثناء العمل.
“لِمَ تتبعني؟“
سألته بحدة.
“ما زال لدي الكثير لأتعلمه، ولن أتمكن من ذلك وحدي.”
قال ذلك وهو يتناول منها الصندوق دون تردد.
حدّقت به مذهولة، ثم حاولت استعادته.
“هناك أناس غيري، يمكنك سؤالهم.”
ضيّقت عينيها ونظرت إليه بنفاد صبر.
“لكنهم مشغولون، ولن أجرؤ على إزعاجهم.”
قال ذلك وهو يلقي نظرة خاطفة على الجهة التي أشارت إليها. وبالفعل، كان الجميع منشغلًا بنقل الصناديق وتصنيف الخوخ دون توقف.
وكأنني أنا فقط المتفرغة هنا.
تمتمت إيف في داخلها متضايقة. فإن أصرت على أن يذهب ويسأل غيرها، فستبدو وكأنها تشير إلى أن أولئك الناس أكثر فراغًا منها.
“حسنًا، كما تشاء.”
وافقت أخيرًا، على مضض. فابتسم باليريان، ووضع الصندوق أمامها بلطف، وجلس بجوارها على كرسي أتى به مسبقًا، وقد رتّبه بمحاذاة كرسيها.
‘يا إلهي، ما قصته بالضبط؟‘
تنهدت إيف بعمق وجلست إلى جواره.
كان عمال المزرعة والمزارعون يراقبون من بعيد المشهد الذي بدا غريبًا لهم، حيث جلست شارلوت والفارس جنبًا إلى جنب يعملان سويًا.
أما هيليوت، فكان منهمكًا في تصنيف الخوخ بصمت، لكنه لم يستطع إلا أن يرهف السمع لما يُقال قربه.
“أليس واضحًا أن الفارس مهتم بشارلوت؟“
“قولي السيد إيلا! لكن نعم، يبدو كذلك.”
“بصراحة، هما يبدوان لطيفين معًا.”
كاد هيليوت ينفجر من الغضب عند سماع ذلك. لو كانوا يعرفون ما فعلته تلك المرأة بالقائد، لما تجرأ أحدهم على قول كلمة واحدة!
‘أي نوع من التوفيق هذا؟‘
ربما بسبب قلة الشباب في هذه القرية، أي رجل وامرأة يظهران معًا يُظن فورًا أنهما مرتبطان.
أدار هيليوت رأسه ونظر إلى باليريان والسيدة إستيلّا الجالسين معًا.
‘… لا عجب أن يُساء الفهم.’
اعترف بذلك بصراحة. فقد كان الاثنان يعملان جنبًا إلى جنب، يتحدثان بهدوء، ويبدوان كزوجين حميمين. ومع أن هيليوت يعلم جيدًا ما حصل بينهما، إلا أنه شعر بالاختناق.
‘القائد هذا… قلبه واسع جدًا!’
أما هو، فلو كانت شريكته قد فعلت به ما فعلته إستيلّا، لما استطاع البقاء هادئًا بهذا الشكل. بل وكان يرى أن إستيلّا نفسها تملك وقاحة خارقة، لدرجة أنها تتصرف وكأن شيئًا لم يحدث.
‘ما هذا؟‘
شعرت إيف بنظرات مركزة نحوها، فالتفتت فجأة. كان سكان القرية وهيليوت يحدقون بها، لكنهم تظاهروا بأنهم لم يفعلوا حالما التقت أعينهم بعينيها.
شعرت إيف بقشعريرة تسري في جسدها.
‘سيؤدي هذا إلى سوء فهم بلا شك…’
فالتفتت إلى باليريان وقالت:
“أظن أن الشرح كافٍ الآن، صحيح؟ إن لم تفهم بعد، فاسأل غيري.”
ثم وقفت. كان باليريان يتأملها بصمت، وعيناه الزرقاوان لا تفارقانها.
“إلى أين تذهبين؟“
“هناك مكان يجب أن أذهب إليه.”
في الحقيقة، كانت تنوي المغادرة بعد إنهاء العمل، لكن الآن أصبحت رغبتها في الابتعاد عن باليريان أقوى من أي سبب آخر.
“شارلوت، إلى أين؟“
سألها بوناد الذي كان يكنس بجوارها.
“أريد زيارة أحد المرضى.”
“آه، ذاهبة لرؤية آرون؟“
“نعم.”
“إذا عدتِ، أخبريني كيف حاله، حسنًا؟“
“حسنًا.”
أومأت إيف برأسها، ثم نظرت دون وعي إلى باليريان.
لكن وجهه كان قاتمًا، وكأن صقيعًا حلّ عليه فجأة.
غير أن تلك النظرة اختفت في لحظة، وكأنها لم تكن، وعاد تعبيره هادئًا كالمعتاد.
‘هل كنت أتخيل؟‘
شعرت بشيء غريب في صدرها، لكنها تجاهلت إحساسها وخرجت من المزرعة دون أن تلتفت.
ترجمة : سـنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي :
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 41"