حين وصلت يوري إلى الحديقة خلف الكنيسة، فتحت ذراعيها وأخذت نفسًا عميقًا.
“آه… كنت سأختنق من شدة الضيق!”
ثم قفزت بخفة والتفتت إلى الخلف، إن يتمايل شعرها الأسود اللامع مع حركتها بانسيابية.
“أنت دائمًا في الخارج يا ريان، فلا يمكنك أن تفهم شعور من يظل محبوسًا بالداخل طوال الوقت، أليس كذلك؟ تِس! لا، مستحيل أن تفهم.”
أمالت شفتيها بضيق وضاقت عيناها بنظرة تدل على الغيرة، وكأنها قطة صغيرة لطيفة. كان منظرها هذا محببًا للغاية.
ابتسم باليريان ابتسامة خفيفة وقال بهدوء:
“إذا رغبتِ يا صاحبة القداسة، يمكنني التقدُّم بطلب إذنٍ للخروج.”
“إذا رغبتُ، يمكنني التقدم بطلب؟“
قلّدت يوري نبرة صوته بنوع من السخرية، ثم تنهدت بانزعاج.
“أنت تلازمني طوال اليوم، ومع ذلك حديثك دائمًا رسمي وجاف. ريان، نحن لسنا مختلفين كثيرًا في العمر. كم عمرك قلتَ أنك؟“
“… سأبلغ الثانية والعشرين هذا العام.”
“إذًا بيننا ثلاث سنوات فقط.”
لقد تمكنت من مناداته باسمه فقط بعد إصرار منها، مؤكدة أن من المعتاد في كوريا مناداة الناس بأسمائهم الثنائية.
ثم صفقت بيديها وقد خطرت لها فكرة:
“ما رأيك أن نتحدث بدون تكلف عندما نكون بمفردنا؟ أعني، فارق السن ليس كبيرًا، والطريقة الرسمية في الحديث تجعلني أشعر بعدم الارتياح.”
“… هذا صعب.”
رغم ملامحه اللطيفة، فإن رده كان حازمًا أكثر مما توقعت.
فأطلقت يوري صوتًا خفيفًا من أنفها وقالت:
“إذا كان السبب أنني أصغر سنًا، فلا بأس أن تكلمني أنت وحدك بطريقة غير رسمية.”
“هذا يتعارض مع قوانين المملكة المقدسة.”
أجاب باليريان بهدوء وثبات.
تحركت يوري بخطوة صغيرة لتقف في موضع أقرب لمستوى نظره، فتلاقت عيناهما بطبيعية.
“هل تعرف يا ريان كيف هو الشعور بأن تُلقى فجأة في عالم غريب؟“
“…….”
“كان شعورًا مخيفًا ووحيدًا جدًا… لأنني فقدت كل ذكرياتي السابقة منذ أن وصلت إلى هنا. وكل من حولي غرباء تمامًا.”
لأول مرة، خفتَ النور عن وجه يوري المتقد بالحيوية.
“لكنني أدركت الآن كم هو مطمئن أن يكون هناك شخص بجانبي و يحميني.”
“… أفهم.”
استمع باليريان لكلماتها بوجه جاد، بينما ضربت “يوري” الأرض بطرف قدمها في خجل وتابعت:
“هل سيكون من الصعب أن تكون صديقي يا ريان؟“
“…….”
حين توسلت إليه بنظرة صادقة، لمعت في عيني باليريان الزرقاوين لمحة من التردد.
‘… تُرى، ماذا كانت إيف ستفعل لو كانت مكاني؟‘
كانت إيف ضعيفة أمام المشاعر.
رغم مظهرها المتعالي وابتسامتها المتغطرسة، إلا أنها كانت تلين سريعًا إذا رأت شخصًا يعاني، فتجد نفسها تمد له يد العون رغمًا عنها.
لم تكن تستطيع تجاهل من يحتاج إلى المساعدة، وهذا كان يزعجه في البداية.
رغم أن الناس وصفوه دائمًا باللطف، إلا أنه كان يشكّ دومًا في نوايا الآخرين إذا طلبوا منه معروفًا.
هذا التوجس كان متأصلًا فيه منذ نشأته كابن لعائلة لودفيغ النبيلة، وكونه إيلا.
ولكن، منذ أن التقى بـ إيف، تبدلت طباعه دون أن يدرك.
أصبح يُفرّق بين حياته قبل وبعد إيف، حتى في أبسط العادات.
حين مر طيفها في ذهنه، بدت في عينيه لمحة ألم.
في البداية، كان يكفيه فقط أن يراها من بعيد، لكن مع مرور الوقت، بدأ يشتهي أكثر… أراد أن يكون الشخص الوحيد الذي تنظر إليه بتلك النظرة الحنونة، وأن يكون سبب ابتسامتها.
لكن تلك المشاعر كانت خاطفة، وحين التقت نظراته بنظرات يوري، لم يكن في وجهه سوى ابتسامة هادئة مألوفة.
أومأ برأسه.
‘حسنًا، لنجعلها هكذا إذن.’
ربما لو كانت إيف، لقبلت على الفور أن تكون صديقة القديسة.
ابتسم باليريان بعينين تنضحان باللطف، بينما كانت يوري تحدّق بوجهه الوسيم بدهشة قبل أن تنتبه لنفسها.
احمرّ وجهها كالتفاحة من الخجل، لكونها انساقت للحظة وراء مظهره الجذاب. ومع ذلك، بدت تصرفاتها تلك ملائمة تمامًا لها.
“حقًا؟ شكرًا لك يا ريان!”
ارتسمت على وجه يوري ابتسامة مشرقة، وكأنها أسعد شخص في العالم، وانعكست الفرحة في عينيها المتألقتين.
“إذًا، ناديْني فقط بـ يوري أيضًا!”
عادت يوري إلى الكنيسة وهي في مزاج جيد بعد نزهتها مع باليريان، تغني لنفسها بينما توجهت إلى قاعة الصلاة.
‘كم أنا سعيدة…’
كانت سعيدة فقط لأن المسافة بينها وبين باليريان أصبحت أقرب قليلاً.
لاحظ بعض المؤمنين والكهنة وجودها، فأقبلوا للسلام عليها:
“ليرافقك دومًا بركة الشمس، أيتها القديسة.”
“يا له من شرف عظيم أن أراك أمامي…”
وبعضهم، وقد غمرت مشاعر التقديس عيونهم، بكوا وهم ينظرون إليها.
ابتسمت يوري في حرج، ومدت يدها بمودة لتصافح من اقترب منها.
“شكرًا لقدومكم إلى هنا.”
راقبها الكهنة بنظرات فخر ورضا، فقد بدت فتاة شابة تنبض بالحيوية، ومع ذلك تمتلك حضورًا هادئًا. لم تكن بعيدة عن الصورة المثالية التي تخيلوها للقديسة.
“إنه لنعمة كبرى أن تكوني بجوار السيد إيلا ولو في هذا الوقت المتأخر.”
قال أحد المؤمنين بصدق وارتياح.
ولكن، فجأة، انقلبت تعابيره الهادئة إلى حقد دفين.
“تلك المرأة السابقة… ارتكبت أمرًا لا يُغتفر بحق السيد إيلا…”
“أيها المؤمن!”
أسرع الكهنة لإسكاته بدهشة، بينما انتبه هو لما تفوّه به وبدأ يعتذر بتوتر.
“أ… أنا آسف! لا يجوز أن أتحدث هكذا أمام قديسة الله وفي كنيسة مقدسة… لقد غضبت دون أن أشعر…”
“لا بأس… لا تقلق.”
أشارت يوري بيديها وهي تطمئنه، لكن في قلبها بدأت الشكوك تدور.
‘… “تلك المرأة“؟ ارتكبت أمرًا فظيعًا؟‘
لم تكن تفهم ما المقصود، لكن شيئًا ما جعلها تشعر أن للأمر علاقة بـ باليريان.
ولم تكن قد سمعت أي شيء عنه بعد.
راقبت يوري المؤمن وهو يغادر بعد تدخل الكهنة، ثم استدارت إلى أحدهم ممن شهدوا الموقف.
“يا حضرة الكاهن، هل لك أن تمنحني بعضًا من وقتك؟“
“بالطبع! بكل سرور!”
بالنسبة له، لا شيء يعلو على خدمة القديسة. وقد أشرق وجهه فرحًا لمجرد أنها تحدثت إليه.
دخلت يوري برفق معه إلى غرفة التعليم، مبتعدة عن الأنظار.
كان البابا ورئيسة الكهنة آرييل منشغلين بأمور أخرى، لذا كانت الغرفة خالية.
“هل هناك أمر يزعجكِ؟ هل تشعرين بعدم الراحة في شيء؟“
بدا القلق على وجه الكاهن فورًا، فأشارت يوري برأسها نفيًا، ثم قالت:
“كلام ذلك المؤمن قبل قليل… لا أستطيع التوقف عن التفكير فيه.”
“آه… بالفعل، كانت كلماته فظة وغير لائقة. سأحرص على ألا تتكرر مثل هذه الأمور.”
قطّب الكاهن جبينه من مجرد تذكر ما قيل، وكأن الأمر لا يزال يثير اشمئزازه.
“ليس هذا ما أقصده… فقط شعرت أن هناك شيئًا ما حصل في الماضي يخص ريان، وأنا لا أعلم عنه.”
“آه… ذاك الأمر.”
مرَّت نظرة ازدراء في عيني الكاهن، كانت نفس النظرة التي رأتها في عيني المؤمن قبل قليل.
كان من المؤكد أن هذا الكاهن يعرف تلك القصة أيضًا. أمسكت يوري بذراع الكاهن وقالت:
“من فضلك، أخبرني بما حدث.”
رد الكاهن بوجه متردد وكأنه يشعر بالحرج:
“لكنها ليست قصة طيبة، وهي أمر شخصي… أعتذر يا قديسة.”
ابتسمت يوري بخجل وكأنها أدركت خطأها:
“ربما أسأت التعبير بدافع جهل، وخفت أن أجرح مشاعر ريان، لذلك سألت… لم أكن أتوقع أن أضعك في موقف محرج. لقد كنت ساذجة بحق.”
ظهرت على وجهها تعابير الأسف والندم.
“يا قديسة…”
تأثّر الكاهن بصدقها حتى تكاد الدموع تلمع في عينيه. يا لها من طيبة ورقة في المشاعر!
ثم قال متردداً بعد لحظة تفكير:
“في الحقيقة…”
انصتت يوري بفضول وانتباه، لكنها كلما استمعت أكثر، اختفى الابتسام عن شفتيها.
“هل تقول إن خطيبته خانته وهربت؟“
“نعم، اللورد لودفيغ كان يحبها كثيرًا… من المؤسف أن الأمور انتهت هكذا.”
تنهد الكاهن بعمق وهز رأسه.
تنفست يوري بامتعاض وسألت بدهشة:
“ما اسمها بالضبط؟“
في تلك اللحظة، امتلأ قلب يوري بالشفقة تجاه باليريان، واندفع الغضب في داخلها تجاه خطيبته السابقة التي لا تعرف وجهها.
“هي ابنة الكونت إستيلا، إسمها إيف إستيلا.”
“…إيف إستيلا؟“
بدت يوري مذهولة، واعتبر الكاهن رد فعلها طبيعيًا. كيف يمكن لقديسة نبيلة أن تتخيل أن امرأة من طبقة النبلاء تفعل شيئًا كهذا؟
كان الكاهن قلقًا من أن تسمع القديسة تلك القصة فتُصدم.
“ثقة الإنسان بأقرانه هي أهم شيء، فكيف يمكن لأحد أن يخون تلك الثقة بهذه السهولة؟“
تنهدت يوري بأسى كما لو كانت تشفق على باليريان.
ةحقًا، أشخاص مثلنا لن يفهموا ذلك أبدًا.”
هز الكاهن رأسه موافقًا على كلامها.
تذكرت يوري الوقت الذي قضته مع باليريان.
رغم قضائهما شهرًا معًا، إلا أن باليريان لم يكن يفتح قلبه بسهولة كالبقية، وهذا أمر طبيعي بعد ما مرّ به مؤخرًا.
فكرت يوري بحزم:
‘يجب أن أواسي باليريان جيدًا!’
أعادت يوري في ذهنها أحداث الشهر الماضي التي توافقت كقطع الأحجية، واتخذت قرارها.
احلا فصلين لاحلا ناس
ترجمة : سنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد احتياطي :
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 36"