(شارلوت اسم ايف المزيف)
“شارلوت! هل استيقظتِ الآن؟“
استفاقت إيف على صوت طرقٍ على الباب، لتنهض مترنحة من سريرها.
ارتدت معطفًا على عجل، ثم فتحت النافذة، فاندفعت نسمة من هواء الريف النقي إلى رئتيها بعمق، ثم خرجت بهدوء.
خارج النافذة، كان هناك بستان صغير زرعته بنفسها. حجمه لا يكفي ليُقال إنه مزرعة حقيقية، لكنه كان كافيًا ليمنحها شعورًا بالرضا.
‘ليتني انتقلت للعيش هنا منذ وقت طويل.’
كانت إيف تعشق هذه السكينة.
مر شهر منذ أن انتقلت إلى قرية “نادين” في الجنوب. صحيح أن والديها ونواع أبدوا قلقهم في البداية، لكنها، وبشكل مفاجئ، تأقلمت كما لو أنها وُلدت في هذه القرية.
كما أن استقبال سكان نادين الحارّ وعدم تحاملهم على الغرباء ساعد كثيرًا.
“صباح الخير.”
قالت إيف بابتسامة وهي تفتح الباب وتحيّي وجهًا مألوفًا.
“لكن ما الأمر في هذا الصباح الباكر يا مارغريت؟“
“تخيّلي! زوجي جلب هذا الصباح شتلات جديدة، ألا تريدين أن تلقي نظرة؟“
قالت مارغريت وهي تبتسم بود. لمعت عينا إيف على الفور. فبما أن أحدهم جاءها في هذا الوقت المبكر ليُريها شتلات، فلا بد أنها شتلات ذات جودة نادرة.
“لنذهب بسرعة!”
قالت إيف وهي تسير بحماس خلف مارغريت. وحين وصلا، لمحهم زوج مارغريت ‘بينلي‘ صاحب المزرعة، فأشار إليهما بيده.
اقتربت إيف منه، وما إن نظرت إلى الشتلات التي يحملها حتى اتسعت عيناها دهشة.
“ما هذه الشتلات؟“
كانت تبدو بجودة ممتازة من النظرة الأولى.
“شارلوت، انظري جيدًا. هذه شتلات الخرشينب (أو الخرشف الأرضي)! ذاك النبات النادر الذي يصعب الحصول عليه!”
نظرت إيف إلى الشتلات عند سماع الاسم. كانت قد تذوقته مرة أو مرتين في حياتها السابقة بمحض الصدفة، ولم تشعر وقتها أنه يختلف كثيرًا عن البطاطا.
قرأ بينلي تعبير وجهها، فاعتدل واقفًا وقال بنبرة من يشرح لعديم الخبرة:
“هل تعلمين كم يكون لذيذًا عندما يُطهى كحساء كريمي؟ أو يُهرس ويُقلى؟ وإذا قُدم كزينة مع طبق لحم العجل… يصبح طعمًا لا يُقاوم! نكهة فاخرة لا تجدينها في البطاطا أبدًا!”
“حقًا؟ طعمه مختلف عن البطاطا؟“
“بالطبع! خاصةً وأن هذه الشتلات جاءت من منطقة بريل.”
بمجرد سماع ذلك، ابتلعت إيف ريقها دون أن تشعر. فقد تهيأت في ذهنها صورة الطعم، وتسللت الشهية إلى قلبها.
“لم أكن أعلم أنه لذيذ إلى هذه الدرجة…”
نظرت إيف إلى الشتلات بعين لامعة. هي تحب البطاطا أصلًا، فكيف إذا كانت ألذ منها؟ لا يمكنها أن تفوّت فرصة تذوقها.
“وبالمناسبة…”
قالا بينلي ومارغريت وهما ينظران إليها بابتسامات طيبة، كأنهما يخططان لأمر ما.
“وبما أننا وصلنا إلى هذه النقطة…”
قالها بنلي ومارغريت وهما ينظران إلى إيف بابتسامة ودودة تحمل في طياتها نية خفية.
فهمت إيف المقصود دون حاجة للتوضيح، فرفعت أكمامها وبدأت بنقل الشتلات كأن الأمر بديهي. ورغم جسدها الصغير، لم يكن حمل كمية كبيرة من الشتلات دفعة واحدة يشكّل أي عبء عليها.
“أزرعها هنا، أليس كذلك؟“
“كما هو متوقّع من شارلوت! الشباب يعطي قوة لا تُضاهى!”
“فقط انتظروا لحظة، سأزرعها كلها بنفسي.”
أمسكت إيف المجرفة وبدأت بزرع الشتلات بمهارة. كانت حركاتها دقيقة وسريعة. فهي أصلًا قوية البنية وتتمتع بلياقة عالية، وكأن الزراعة خُلقت لها. بل وحتى يداها ماهرتان في العمل.
ولهذا السبب، لم يتردد أهل القرية في التقرب منها، خاصةً أنها دائمًا ما تبادر بمساعدتهم في الزراعة.
وكانت تملك قدرة أخرى أيضًا.
“الأرض جافة قليلًا اليوم، هل نسقيها؟“
سألت مارغريت، فأجابت إيف بهدوء وهي تهز رأسها:
“لا داعي. ستمطر هذا المساء.”
“حقًا؟ كدت أرهق نفسي بلا فائدة! شكرًا لك، شارلوت.”
“لا شكر على واجب.”
كانت إيف قادرة على التنبؤ بالطقس من خلال رطوبة الهواء وحدها.
وفي قريةٍ تعتمد على الزراعة، كانت شخصًا لا يمكن الاستغناء عنه.
“هاه…”
تنهّدت إيف وهي تمسح عرقها تحت شمس أوائل الصيف الحارقة، ثم رفعت نظرها نحو الظل القريب.
كان هناك شاب وسيم، بشعر فضي وعيون بنفسجية، يعبس من ضوء الشمس بينما يمسك بمظلة.
كان وجهًا مألوفًا جدًا لها… بل مملًا من كثرة رؤيته.
“ما الأمر؟“
“أنتِ هنا وتقومين بهذه الأشياء؟….مذهلة فعلًا…”
قالها وهو ينظر إليها من علٍ بنظرة مستنكرة.
ولأنها تعرفه منذ أكثر من عشر سنوات، كانت تدرك تمامًا أن هذا لم يكن مديحًا صادقًا.
أجابت وهي تمسك المجرفة:
“لماذا أتيت إلى هنا.”
“هل تظنين أني جئت برغبتي إلى هذا الريف البائس؟ أبي هو من أجبرني، قال لي أن أطمئن عليكِ.”
…يا لسوء أسلوب حديثه.
تجاهلت إيف أسلوب نواه الطفولي وأعادت سؤاله:
“حقاً؟ وهل والداي بخير أيضاً؟ لم يظهر أي شيطان في الجوار، أليس كذلك؟“
“لست أدري ما الذي يحدث بالضبط، لكن مجموعة من الفرسان المقدّسين يتناوبون على الحراسة هناك. ربما لهذا السبب لم تقع أي حوادث حتى الآن.”
يبدو أن باليريان قد أولى الأمر بعض الاهتمام.
تنهدت إيف بارتياح.
“شارلوت! من يكون هذا؟“
قالت مارغريت، التي كانت تفتش في الشتلات القريبة، عندما لمحت نواه فتقدّمت نحوه بعينين فضوليتين.
وكان بينلي، الذي بدا عليه الفضول نفسه، يراقب الوضع من بعيد متظاهراً بالانشغال.
“شارلوت؟“
قال نواه وهو يحدّق بإيف في حيرة.
“هنا اسمي شارلوت. والآن بما أنك تأكدت من أنني أعيش بخير، عد إلى المنزل فوراً.”
أشارت إليه بيدها التي تمسك بمِجرف الشتلات وكأنها تطرده.
“أوه، أهو شقيقك يا شارلوت؟“
قالت مارغريت وقد أدركت العلاقة بينهما من أول نظرة. لم يكن الأمر صعباً؛ لو كانت إيف وُلدت ذكراً، لكانت على الأغلب تشبه نواه تماماً.
‘تشبهني أكثر مما ينبغي…’
نظرت إيف إليه بنفاد صبر، أما نواه فردّ على نظرتها بنظرة حادة لا تقل عنها.
“ما اسمك؟“
“نواه… أآخ!”
كاد نواه أن يذكر اسمه الكامل دون تفكير، لكنه عض لسانه فجأة عندما ضغطت إيف على ساقه بمِجرف الشتلات.
“اسمه نواه، إنه أخي الأكبر.”
قالت إيف بدلاً منه، وأرسلت إليه نظرة حادة فيها تحذير صامت: “فهم الرسالة وتصرف بذكاء.”
فما من فائدة تُرجى إن كُشف أنها ابنة الكونت إستيلّا، بل ربما اضطرت للانتقال من جديد.
“لم تذكر شارلوت شيئاً عن عائلتها من قبل، لذا لم أتوقع أن يكون لها أخ بهذا الوسامة.”
قالت مارغريت وهي تمسك بذراع نواه وتبتسم بود.
“تعال، تناول بعض الفطور قبل أن ترحل.”
لم يستوعب نواه الأمر. كيف يمكن لأناس طيبين كهؤلاء أن يُعجبوا بأخته المتجهمة هكذا؟
لكن بينلي ومارغريت كانوا يحبون شارلوت.
صحيح أنهم ظنّوا في البداية أنها سيدة مدلّلة لن تصمد في الريف، لذلك لم يعلقوا بها عاطفياً. لكن على مدار شهر، أسرتهم بمساعدتها التي لا تنقطع في كل شؤونهم.
كانوا ممتنّين لها كثيراً، إذ لم يتوقعوا أن تعتمد على نفسها بهذا الشكل.
بالطبع، لم يكونوا يعلمون أن إيف كانت تسعى جاهدة لاكتساب خبرة زراعية بهدف الاستقرار الآمن هنا… كانت هذه نيتها الحقيقية، لكنها لم تُظهرها.
حتى لو عرفوا، لقالوا ببساطة إنها “فتاة ذكية تعرف كيف تعيش“.
“آه…”
قال نواه وهو يرسل نظرة حائرة إلى إيف.
لكنها لم تُعره أي اهتمام، وواصلت الحفر وزراعة شتلات الخرشوف المقدسي وكأن شيئاً لم يكن.
“… حَسناً، في هذه الحالة…”
لم يكن نواه بارعاً في رفض الدعوات، خاصة حين تأتي من امرأة في سن والدته.
* * *
“كيف يمكن للطعام أن يُقدَّم بلا توقف هكذا؟!”
قال نواه بدهشة عندما عاد إلى بيت إيف بعد الإفطار في منزل بنلي ومارغريت.
“هكذا تسير الأمور هنا، لا داعي للدهشة.”
ردّت عليه إيف بنبرة عادية وكأن سؤاله غريب.
استعاد نواه مشهد الأطباق التي كانت تتوالى واحدة تلو الأخرى، وعاد التعب لوجهه.
“وأنتِ تأكلين كل هذا فعلاً؟“
كان الطعام كافياً لينهار من تحته الطاولة، ومع ذلك أكلته إيف بالكامل بهدوء دون أن تتضايق.
“من يعمل في الزراعة لا بد أن يأكل جيداً.”
قالت وهي تربّت على بطنها الممتلئ.
“حقاً… وكأنكِ خُلقتِ لهذا العمل.”
تمتم نواه، ولم تعارضه إيف. بل كانت تفكر في الأمر نفسه.
“لكن، ما الذي جاء بك إلى هنا؟ لمَ لم تعد إلى البيت بعد الفطور؟“
“بصراحة؟ أردت أن أرى كيف تعيشين هنا، ولديكِ أيضاً خبر يجب أن تعرفيه.”
قال ذلك وهو يجلس بتراخٍ على الكرسي عند طاولة غرفة المعيشة.
نظرت إليه إيف مستغربة:
“خبر؟ أي خبر؟“
ما إن قالت ذلك حتى وقفت فجأة من مكانها.
“هل حصل شيء في المنزل؟ هل والدانا بخير؟ أم… هل انكشف أمري؟“
“لا، ليس هذا.”
قاطَعها نواه فوراً، فتنهّدت إيف براحة.
(“إذاً، لِمَ كل هذا التردّد؟“
“الأمر ليس خطيراً… فقط… هناك أخبار عن خطيبك السابق.”
لما ذكر الاسم الذي كانت تتجنبه طَوال الوقت، رمشت إيف ببطء.
“باليريان؟ ما الخبر؟“
“ما هذا؟ ألهذه الدرجة لا يهمّك؟“
قال نواه مستغرباً، وقد بدا عليه أنه شعر بالغباء لأنه تقلق من أجلها.
لوّحت له بيدها أن يسرع بالكلام، فما الجدوى من التعلّق بشخص لا يمكن أن يكون لها؟ لن يجلب ذلك سوى الألم.
“توقف عن المماطلة وتكلّم.”
“… حصلت حادثة كبيرة في الكنيسة الرئيسية.”
“حادثة؟ هل ظهر شيطان؟“
“لا، بل… نزلت القدّيسة.”
جمُدت ملامح إيف للحظة، ثم استعادت هدوءها المعتاد. لم يلحظ نواه ذلك التغيّر الخاطف، فأكمل قائلاً:
“القدّيسة نزلت داخل الكنيسة.”
ترجمة : سنو
واتباد :
@punnychanehe
الاحتياطي :
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 34"