“أهذا يعني أنه جاء في هذا الوقت المتأخر من الليل؟“
قال نواه وهو يشير إلى النافذة. كانت السماء قد أظلمت تمامًا، وساد صمت كثيف حتى إن صوت الحشرات الليلية لم يُسمع.
وعند رؤية ردّة فعل والدتها، أدركت إيف الحقيقة.
لابد أن باليريان قد عثر على دليل يربطها بالشيطانة.
تصلّب وجه إيف.
‘هل… وجد شيئًا؟‘
جثة الشيطانة… إن كان قد عثر عليها، فالموقف سيكون بالغ الخطورة بالنسبة لها.
“أجل، قال إن الأمر عاجل. بدا وكأنه يهمّ باقتحام المنزل، لكن لوڤين أوقفه عند الباب.”
حين علمت أن والدها هو من يعترض طريق باليريان، بدأت الأفكار تدور في رأس إيف بسرعة، ودقّ قلبها بعنف.
‘عليّ أن أخرج نفسي من هذا المأزق بأي طريقة…’
إن كان قد رأى فعلاً مشهدها مع الشيطانة، فالأرجح أنه لن يتراجع حتى يواجهها وجهًا لوجه.
وبعدما وصلت إلى هذا الاستنتاج، سارعت إيف إلى إخراج نواه ووالدتها من الغرفة وقالت:
“أخبروه أن ينتظر في غرفة الاستقبال.”
وبعد أن أغلقت الباب، وضعت المرهم الذي جلبته الكونتيسة على ذراعها بشكل سريع، ولفّت الجرح بشدة مستخدمة الضماد.
ثم ارتدت فستانًا طويل الأكمام يُخفي موضع الإصابة تمامًا.
وبعد أن تأكدت من مظهرها في المرآة، تنفست بعمق وفتحت الباب.
كل خطوة نحو غرفة الاستقبال بدت وكأنها تُجرّ بثقل حديدي.
لكن إن اختبأت الآن، فسوف تُثير الشبهات أكثر.
وقبل أن تطرق الباب، انفتح فجأة من الداخل.
“… إيف.”
نطق باليريان اسمها، وصوته بدا مبحوحًا، لا كمن أصيب بزكام بل كمن صرخ حتى تمزّق صوته.
وما إن نظرت إليه جيدًا حتى تبيّن لها أن حالته ليست طبيعية. عيناه محمرّتان ومنتفختان، وشفاهه مشققة دامية.
لم تستطع أن تنطق بما كانت ستقوله. الكلمات اختفت فور رؤيتها لتلك الحالة.
“باليريان… ما هذا الذي حلّ بك؟“
‘ما الذي حدث؟‘
لكنها لم تستطع إكمال جملتها، لأنه فجأة ضمّها إلى صدره بقوة.
كانت تنوي دفعه بعيدًا عنها ببرود، لكنها عجزت عن مقاومة ارتجافه وهو بين ذراعيها.
“أنتِ بخير… يا إيف. الحمد لله… كنت أظن أنني فقدت كل شيء.”
كان صوته المرتعش المملوء بالارتياح مؤثرًا وعاطفيًا.
‘لا، يا إيف إستيلا…’
عضّت شفتيها محاولة استعادة رباطة جأشها.
كانت تشعر وكأنها قارب صغير يتأرجح وسط بحر هائج دون شراع.
لكن هذا ليس وقت الانغماس في المشاعر أو عناق اللقاء. كان عليها أن تدفعه بعيدًا.
حاولت أن تبعده عنها، لكن احتضانه كان محكمًا، ولم تستطع الإفلات منه بسهولة.
فقالت مكرهة:
“أكاد لا أستطيع التنفس…”
عندها، ارتد بسرعة عنها. وحين التقت عيناها بعينيه الزرقاوين المليئتين بالقلق، شعرت وكأنها مذنبة.
“أنا آسف، يا إيف.”
“… ما الذي أتى بك في هذا الوقت المتأخر؟“
تجاوزته ودخلت غرفة الاستقبال، فلحق بها وجلس قبالتها.
وكان لا يزال يحدّق بها دون أن يحوّل نظره.
فرفّت إيف برموشها وسألت بنبرة طبيعية:
“سيد لودفيغ، نحن لسنا على علاقة تسمح بمثل هذه التصرفات، أليس كذلك؟“
“…….”
صمت باليريان. شعرت إيف بوخز في صدرها. لم يكن من السهل قول ذلك لشخص يبدو بهذا البؤس.
كانت تريد فقط أن تُنهي هذا اللقاء بسرعة.
“لقد تأخر الوقت، عد من حيث أتيت.”
نظر إليها طويلًا بنظرات مضطربة، ثم تحدث بنبرة هادئة:
“أين كنتِ هذا المساء؟“
كما توقعت. خرج السؤال من فمه مباشرة. تسارعت دقات قلبها، لكنها حرصت على إظهار الحيرة وقالت:
“كنت في المنزل. لماذا تسأل هذا السؤال؟“
لم يكن عليها أن تدعه يعرف بأنها حضرت طقوس التعميد.
‘لماذا ذهبت إلى هناك أصلاً؟‘
من المؤكد أن باليريان قد خاض في الرواية معركة صعبة ضد الشيطان هناك.
لكنها انخدعت بالرسالة التي وصلتها وذهبت بلا تفكير… والآن تندم.
‘لكن الحمد لله أنه بخير…’
ثم توقفت لحظة.
لا، لم يكن بخير تمامًا. مظهره كان يُظهر العكس.
صحيح أنه لا يبدو مصابًا، لكن…
‘إن لم يكن مصابًا، فلماذا يبدو بهذا السوء؟‘
هل حدث شيء أثناء التعميد؟
هل كان هناك شيطان آخر غير ليليث؟
هل فشلت في تغيير مجريات الأحداث الأصلية؟
وأثناء حيرتها، قال باليريان وهو يحدق بها:
“إذن، هلا كشفتِ عن ذراعك؟“
قال ذلك مشيرًا بدقّة إلى ذراعها اليمنى، حيث كانت الإصابة. ارتبكت إيف وتشنّج جسدها لحظة.
نظرت بلا وعي إلى ذراعها، فرأت أن كمّ فستانها الأزرق السماوي قد تلطّخ بالدم. رغم أنها لفت الجرح جيدًا بالضمادات، إلا أن الدم تسرب من بين الثنايا.
“آه…”
خرج الأنين من فمها دون أن تقصده. وكانت تعضّ على شفتيها بصمت، فيما أخذت ملامح باليريان تتصلب تدريجيًّا.
“لقد جرحت نفسي في المنزل.”
قالت بسرعة، وقد نسيت تمامًا أنها يجب أن تتحدث إليه بصيغة رسمية لتُبقي المسافة بينهما.
“لم أسألكِ أين جُرحتِ يا إيف.”
نظراته أصبحت حادة.
“لكن ردك كان وكأنك كنتِ تعرفين مسبقًا ما سأقوله.”
“… إذن أنت لا تسأل؟“
“أتعرفين؟ حين تتوترين، تعودين إلى طريقتك المعتادة في الحديث.”
عندها، التزمت إيف الصمت. شعرت أن كل كلمة تنطق بها تزيد الوضع سوءًا. ونظرات باليريان أصبحت أكثر قتامة.
“إيف، حان الوقت لتكوني صادقة معي.”
رؤية ذلك الإصرار في عينيه جعلت قلبها ينقبض. لم تعد تملك مهربًا.
‘لم يعد من خيار سوى الاعتراف…’
حتى وإن حاولت الإنكار، فهو رأى عينيها مباشرة في المملكة المُقدسة أثناء طقوس التعميد، وسيزداد شكّه.
قررت أن تعترف… لكن مع قليل من الكذب.
“حسنًا… نعم، ذهبت إلى المملكة المُقدسة حينها.”
“… إيف.”
اهتز صوته عند سماع ذلك، وكأن اعتقاده لم يكن وهماً. عينا باليريان الزرقاوان، الصافيتان كالسّماء، ارتجفتا بشدة.
نظرت إليه مباشرة وقالت:
“صحيح أنني مررتُ ببعض الأمور الغريبة هناك… لكنها لم تكن خطيرة.”
“… لم تكن خطيرة؟“
قبض يده بقوة. كلماتها لم تتوافق مع ما يراه أمامه.
“أجل، كما ترى… أنا حيّة أمامك، أليس كذلك؟“
قالتها وكأن الأمر بسيط وواضح، لا يستحق كل هذا القلق.
فأجاب بنبرة جامدة:
“لكنني لا أرى أن حالتك هذه تُعدّ بخير على الإطلاق.”
رفض باليريان ردّها فورًا دون تردد، فتنهّدت إيف بوجه متجهم وقالت:
“هل يبدو شكلي وكأنني مررتُ بشيءٍ فظيع؟“
رغم نبرتها الهادئة، كانت النار تشتعل في داخلها.
هل يمكن أن يكون باليريان قد رأى ذلك أيضًا؟
ماذا لو كان قد شهد لحظة اختفائها مع الشيطان؟ سيكون الوضع في غاية السوء.
إن كان الأمر كذلك، فعليها أن تغيّر منحى الأكاذيب التي ستطلقها من الآن فصاعدًا. ازدادت نظراتها حذرًا ويقظة.
يبدو عليه وكأنه جاء من مكانٍ ما.
ثيابه كانت ملطّخة بالتراب، وهو أمر غريب أن يحدث في الكاتدرائية أثناء مراسم التعميد.
وهذا يعني أنه خرج إلى مكان آخر، وعلى الأرجح أنه ذهب إلى الغابة ذاتها التي كانت فيها. ثم أتى مباشرة إلى منزلها.
إذًا، كان يعلم أنها في الغابة، وذهب هناك بنفسه.
ظنّت أنه تلقّى تقريرًا عنها، لا أنها ستكون مفاجأة بهذا الشكل.
شعرت بأن لسانها يتجمد، لكنها حاولت تغيير مجرى الحديث:
“حسنًا… في الواقع، كنت أتابع مراسم التعميد، وفجأة رمشت بعيني للحظة، وإذا بي أجد نفسي في غابة غريبة. كانت تجربة عجيبة جدًا.”
“…هل كنتِ مع أحد؟“
“لا، كنتُ وحدي.”
هزّت إيف رأسها نافية.
“كنتُ وحدي، تُركت في غابة غريبة، واضطررت للبحث عن مخرج حتى وجدت طريقي للخروج. وهكذا أُصبت.”
قالت وهي تلقي نظرة سريعة على ذراعها.
“ارتبكت قليلًا، وسقطت على الأرض هناك.”
“……”
ظل باليريان صامتًا، يتأمل كلماتها بتمعّن. ونظراته هذه لم تكن مريحة لإيف، بل زادت من قلقها.
لو كان هذا هو باليريان الذي كانت تعرفه سابقًا، لصدق كلامها دون شك.
لكن هذا الذي أمامها الآن لم يعد كما كان، ولن يصدّقها بسهولة.
‘لماذا يتصرّف هكذا؟!’
بدأ التوتر يتصاعد بداخلها. الكذب كلما طالت خيوطه، كلما صار من السهل كشفه. وكانت تدرك ذلك جيدًا، مما جعل القلق يعصف بها أكثر فأكثر.
“إيف، دعيني أعاين الجرح قليلًا.”
اقترب منها بخطى ثابتة.
“…ماذا؟“
“أريد فقط التأكد من أنه لم يُصاب بالتهاب أو عدوى.”
“لا داعي لذلك. الطبيب سيأتي لاحقًا وسأريه. لستَ مضطرًا للتدخل.”
كانت تعلم أن كشف الجرح الآن يعني أن كذبها سيفتضح فورًا.
لكن باليريان أخرج زجاجة صغيرة شفافة من جيبه، كان بداخلها سائل بلون السماء، وعلى الزجاجة نقش دقيق لصليب شعار الكنيسة.
“أحضرت ماءً مقدّسًا.”
تجمدت إيف في مكانها من الصدمة.
‘ماءٌ مقدّس؟ حتى البابا نفسه لا يستخدمه إلا في حالات نادرة!’
“لا… لا تستخدم شيئًا ثمينًا كهذا عليّ. هذا كثير، لا أستطيع تقبّله.”
“إيف، لو أصيب الجرح بعدوى، قد يودي بحياتك. أعرف الكثير من الفرسان الذين ماتوا لهذا السبب.”
قالها بوجه جاد مليء بالقلق. وما إن ذكر الموت حتى بدأ الخوف يدبّ في قلبها.
فمن يضمن أن مخالب الشيطان كانت نظيفة ومعقّمة؟ على الأرجح كانت مغطاة بالسم أو الجراثيم.
لاحظ باليريان ارتباكها، فباغتها بسحب كمّها ليرى الجرح.
“باليريان…!”
لم تتح لها فرصة لتوقيفه، لقد فعلها في لحظة واحدة.
بمهارة، فكّ الضماد الذي لفّت بها الجرح، وما إن رأى الجرح، حتى تصلّب وجهه تمامًا.
وفي اللحظة التي التقت فيها عيناه الزرقاوان، الباردتان كالجليد، بعينيها… شعرت إيف بوضوح:
‘آه، انتهى أمري.’
ترجمة : سنو
واتباد
@puunychanehe
الاحتياطي :
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 32"