3
“لم أتوقع أبدًا أن الشخص الذي تجاهل دعوتي، التي أرسلتها له بعناية، سيقول لي الآن إنه يريد رؤيتي. يا آنسة إيف إستيلّا.”
كان الرجل الذي مرّر يده على شعره الأسود المرتب بدقة وسامةً لا يرقى إليها الشك.
لكن الغريب أن ملامحه جمعت بين برودة قاتمة ودفء غامض، وكأن النقيضين اجتمعا في وجه واحد.
عندما كان يبتسم، بدا وكأنه أكثر الرجال وُدًّا، ولكن بمجرد أن تختفي ابتسامته، كان يصبح أشد برودة وحدة.
أما إيف، فقد كانت أكثر دراية بالوجه الثاني.
“ذلك العرض، لا يزال ساريًا، صحيح؟”
دخلت إيف في صلب الموضوع مباشرةً دون أي مقدمات، فالمماطلة في الكلام لم تكن سوى مضيعة للوقت.
“آه، ذلك العرض.”
لمعت عيناه بلون يشبه خضرة الصيف.
قبل شهر، استدعى هذه السيد، إستيلّا إلى القصر الإمبراطوري وطلب منها طلبًا واحدًا:
“أرغب في أن تفسخي خطوبتك من باليريان.”
في ذلك اليوم، استعاد كلماته بوضوح. كان يعلم تمامًا أن طلبه كان وقحًا ومتجاوزًا للحدود.
ورغم أن لديه أسبابه المقنعة، لم يرغب في شرحها لها.
لقد أشار لها بذلك بطرق غير مباشرة على مدار أربع سنوات، لكن إيف إستيلّا كانت تتجاهل الأمر باستمرار.
ولكن الآن، بعد فترة قصيرة من بلوغها سن الرشد، جاءت فجأة إلى القصر الإمبراطوري لتعلن موافقتها على طلبه.
أثار ذلك شكوكه.
“هل تقولين حقًا إنك ستفسخين خطوبتك من باليريان؟”
“نعم.”
أومأت إيف برأسها بهدوء وهي تحتسي الشاي.
للحظة، بدا الرجل الذي كان دائمًا أشبه بطائر الكركي المتعالي فاقدًا لاتزانه، مما جعل المشهد غريبًا بعض الشيء.
“هل تتذكر ما قلته لي عندما استدعيتني إلى القصر الإمبراطوري؟”
“…… نعم.”
رأت إيف أن الأمور تسير بسهولة أكثر مما توقعت، فارتسمت على وجهها ابتسامة راضية.
ما قاله لها في ذلك اليوم كان واضحًا:
“إذا انفصلتِ عن ليان، فسأمنحكِ ما تطلبينه في حدود استطاعتي.”
حينها، كانت ترى كلماته بلا قيمة، كنباح كلب لا يُلقى له بالًا. لكن الأمور تغيرت الآن.
‘إنها طوق النجاة الوحيد.’
لاحظ كلماته غير المعلنة، فبادر بالسؤال:
“هل لديكِ مطلب؟ أيا كان، سأدعمه بكل قوتي.”
عندها، سألت إيف بجدية:
“حتى لو كان مطلبي أنت نفسك؟”
“…… ماذا؟”
“كما سمعت.”
للحظة، احمر وجهه بشدة، حتى صار أشبه بحبة طماطم، رغم بياضه الشديد الذي يشبه الدقيق.
لكن الشخص الأكثر اندهاشًا كانت إيف نفسها.
‘ما هذا؟ لماذا تبدو ردة فعله بريئة جدًا؟’
لكنها لم تُظهر دهشتها، بل قالت ببرود:
“لا تأخذ الأمر على محمل الجد. كنت فقط أختبر إلى أي مدى يمكنك الذهاب.”
بدا وكأنه غير مقتنع تمامًا، لكنها كانت جادة. لم تكن تتوقع منه رد فعل كهذا.
فهو ولي العهد الذي يقضي أيامه في صراعات مع النبلاء، وكانت تظنه قادرًا على تقبل مزحة كهذه بسهولة.
“لم يسبق لي أن رأيت أحدًا يمزح بهذا الشكل.”
قالها بطريقة ملتوية تعني أنها شخص غريب الأطوار، فردت عليه بلا مبالاة:
“حقًا؟ ظننت أنك معتاد على هذا النوع من الأمور، نظرًا إلى مدى شعبيتك، لكن يبدو أنني كنت مخطئة.”
عندها، حدّق بها بنظرة حادة.
‘إنها حقًا تشبه قطة متقلبة.’
كان لطيفًا بلا حدود مع رجاله، لكنه كان ينصب أشواكه بالكامل عندما يتعلق الأمر بها، وهذا كان الأكثر وضوحًا.
لكنها لم تكن في مزاج للحديث عن أمور لا طائل منها، ولم يكن بينهما من الود ما يسمح بذلك، لذا فتحت فمها قائلة
“إذن، سأطلب ما أريده حقًا.”
ما إن نطقت بالكلمات حتى مرت في ذهن زافير عدة احتمالات لما قد تطلبه.
ربما المال، أو خطيبًا مناسبًا آخر.
لكن لو كان هذا ما تريده، لما احتاجت إلى فسخ خطوبتها من باليريان.
لذا، ظل صامتًا بملامح هادئة، منتظرًا سماع مطلبها.
التقت عيناه بعينيها الحمراوين، اللتين تأملته بوضوح.
لون جميل وأثيري، لكنه غريب، وكأنه لا ينتمي إلى عالم البشر.
كاد أن ينجرف في تأمل عينيها، لكنه عاد إلى وعيه فجأة عندما استوعب ما قالته تاليًا.
“إذن، أريدك أن تزوّر لي بعض الوثائق الرسمية، يا سموّك.”
“وثائق رسمية، تقولين؟”
خرج من شفتيها طلب لا يمت بصلة لأي من توقعاته.
تضيقّت عيناه بحدة أكثر. لوهلة، خشيت إيف أن يثقب وجهها بنظراته الحادة.
“نعم، الوثائق الرسمية.”
عند ردّها الحازم، زفر زافير أنفاسه بهدوء، ثم قال:
“ما الذي تريدين تزويره تحديدًا؟ وكيف؟”
من الواضح أنه كان يغلي من الداخل، ولم تحاول إيف حتى أن تتجاهل ذلك.
لكنها لم ترَ داعيًا لقول ذلك بصوت عالٍ.
“لا بد أن هناك وثائق مالية تتعلق بعائلة إستيلّا في القصر الإمبراطوري. أريدك أن تعبث بها قليلًا، لا، بل كثيرًا.”
“أنتِ تطلبين مني التلاعب بالوثائق المالية، إذن.”
نظر إليها وكأنه يتساءل: “ما الذي تخططين له بحق الجحيم؟”
فقالت بوضوح
“لأن عائلتنا يجب أن تنهار.”
عائلة نبيلة مرموقة مثل عائلة الكونت ستثير الضجة لفترة إن سقطت، لكن سرعان ما سيُنسى الأمر.
عندها، سيكون فسخ خطوبتها من باليريان، ونزولها إلى الريف لتعيش في الظل، أمرًا طبيعيًا.
“إذا كان هدفك التهرب الضريبي، فاطلبي المال بدلًا من ذلك.”
ضحك زافير بحدة. كان رد فعله متوقعًا تمامًا بالنسبة لإيف.
لم تكن بحاجة إلى النظر في عينيه لتعرف أن رأيه فيها قد بلغ القاع تمامًا.
“إذا لم تفعل، فلن يكون أمامي خيار سوى الزواج من ليان.”
قالتها وهي ترسم ابتسامة هادئة، وكأنها لا تملك ما تخسره.
“ولا أعتقد أن هذا ما تريده، أليس كذلك، سموّك؟”
أصبح بريق عينيه، الموجه نحوها، باهتًا تمامًا، كما لو كان يشاهد خيانة سافرة تحدث أمامه.
“بالطبع، فأنت ولي العهد النبيل.”
لكن إيف لم تكن تهتم برأيه فيها.
ما يهمها هو ما إذا كان سيلبي مطلبها أم لا.
والأغرب من ذلك، كيف يمكن لشخص طلب منها فسخ خطوبتها بكل هذه الوقاحة، أن ينظر إليها الآن بهذه الطريقة؟
“…… حسنًا. كل ما تريدينه هو تزوير الوثائق المالية، صحيح؟”
يبدو أن زافير كان يتمنى فسخ خطوبتها أكثر مما توقعت.
تساءلت عن السبب، لكن لم يكن الوقت مناسبًا الآن للفضول.
“نعم، والأهم من ذلك، لا تخبر ليان بأي شيء.”
كان هذا هو الشرط الأهم.
“إذا عرف ليان، فسينهار كل شيء.”
“…… مفهوم.”
هل هذا يعني أنها تريد أن تحتفظ بصورتها الجيدة أمام خطيبها حتى النهاية؟
‘ما الذي يعجبه فيها بالضبط، هذا الباليريان؟’
تنهد زافير بمرارة بينما ارتشف الشاي، متحسرًا في داخله على صديقه الذي يفتقر إلى أي حس في الحكم على الناس.
كانت إيف تدرك تمامًا ما يدور في ذهنه، لكنها لم تظهر ذلك، بل وقفت بهدوء.
وقبل أن تغادر غرفة الاستقبال، قالت
“وأخيرًا، أرجو منك أن تجتهد في نشر إشاعة انهيار عائلتنا، سموّك.”
* * *
كان الكونت وزوجته يتجولان أمام المنزل بقلق، يتساءلان عن ابنتهما التي غادرت فجأة دون أن تعود.
لكن سرعان ما انفرجت أساريرهِما حين لمحا العربة القادمة من بعيد.
“إيف!”
لحسن الحظ، بدت ابنتهما هادئة كعادتها.
نزلت إيف بخفة من العربة، ورفّت عيناها وهي تنظر إلى والديها المتجهين نحوها.
“لماذا أنتما بالخارج؟”
“إيف! كيف تخرجين دون أن تخبرينا؟!”
“لم أخبركما؟ لقد تركت رسالة.”
جاء صوتها حادًا رغمًا عنها، إذ كانت لا تزال غاضبة من والديها لإخفائهما حقيقة ولادتها.
“ولديّ أمر أود إخباركما به.”
عند نبرتها الباردة، تبادل الوالدان النظرات قبل أن يتبعانها بوجوه متوجسة.
عندما جلسا في غرفة الاستقبال، قالت إيف مباشرة
“بعد بضعة أيام، ستصدر مقالة في الصحف.”
“ماذا؟!”
نظر إليها والداها بملامح متوجسة، وكأنهما يخشيان ما قد تقوله.
لاحظت إيف الصدمة في أعينهما، فأوضحت
“لم أكشف حقيقتي بنفسي، لكن ما حدث هو—”
ثم اختصرت المحادثة التي دارت بينها وبين ولي العهد قبل قليل.
وكلما تقدمت في الحديث، ازداد اضطراب تعابير الكونت وزوجته.
“إذاً، ولي العهد بنفسه قرر مساعدتك؟”
“نعم.”
“لكن… كيف؟ ولماذا؟”
لم يكن بإمكانها إخبارهما أن ولي العهد كان يتوق بشدة لفسخ خطوبتها.
وإلا، فقد يسيئون الفهم.
‘ليس وكأن لديه أي اهتمام بي من الأساس.’
لو سمع أحد حديثهما، لظن أن ولي العهد واقع في حبها.
لكن نظراته كانت أشبه بعاصفة جليدية، بعيدة كل البعد عن أي مشاعر دافئة.
‘إن كان يحبني، كان يجب أن ينظر إليّ كما يفعل ليان…’
دون قصد، وجدت نفسها تفكر فيه، وشعرت بانقباض غير مريح.
كان ليان رجلاً ينظر إليها دومًا بعينين دافئتين جدًا.
“الأمر معقد بعض الشيء، لذا أرجو أن تتعاونا معي. أخبروا بقية أقاربنا أيضًا.”
حين أدرك الكونت وزوجته أن كل هذا كان مجرد خطة لفسخ خطوبتها، بدا عليهما الاضطراب.
“نحن آسفان، إيف… لم نكن نريدك أن تعاني بسببنا.”
لم تحاول إيف إنكار الأمر.
“لو أخبرتماني مسبقًا، لكان الأمر أسهل.”
حتى شقيقها، نواه، كان مصدومًا من اكتشاف أنها ساحرة.
لقد خدع والداها كليهما وأخفيا حقيقة كهذه… وكأنهما فجّرا قنبلة في حياتهما.
“… نحن آسفان. لم نرغب في أن تحملي هذا السر وكأنك مجرمة هاربة.”
“لكن لو علمت مسبقًا، لما وصلت الأمور إلى هذا الحد.”
“هل يعرف باليريان شيئًا عن هويتك الحقيقية؟”
سأل الكونت، متأملًا ابنته بنظرة مترقبة.
لكنها زفرت ببطء وهزّت رأسها، وكأنها تقول: “كيف له أن يعرف؟”
“سيعرف قريبًا… طالما بقيت بجانب ليان.”
“ماذا….؟! كيف!”
صُدم الكونت وزوجته بشدة، وشحب وجهاهما وكأن الدم قد تجمد في عروقهما.
“سيعرفون قريبًا على أي حال، عليّ مغادرة هذا المكان بسرعة.”
بعد أن استعادت الكونتيسة بالكاد وعيها من الصدمة، سألت ابنتها
“لكن… كيف ستُقنعين الناس بأن عائلة سليمة تمامًا قد انهارت؟”
“سأشيع ببساطة أن مزرعة العنب قد انهارت.”
كان المصدر الرئيسي لدخل عائلة إستيلّا هو صناعة النبيذ، حيث كانت جودة العنب السنوية تحدد مستوى النبيذ لذلك العام.
‘على أي حال، يمكنني التلاعب بسبب انهيار العائلة كما أشاء.’
حتى لو أوضحت سبب إفلاس العائلة بالتفصيل، فإن الألسنة المتطفلة ستعمل على تحريف القصة ونشرها بأسلوب مختلف في النهاية.
ملاحظة : ليان هو دلع باليريان .
~ ترجمة : سول.
~ انستا : soulyinl
~ واتباد : punnychanehe