تصلّب وجه إيف فجأة.
ليليث…؟
لم تتوقع قط أن ترى شيطانة وجهًا لوجه، فصُدمت لدرجة أن عقلها توقف عن العمل لبرهة.
لكنها استعادت هدوءها بصعوبة، وحدّقت في ليليث.
عيناها اللتان كانتا قبل قليل بلون غريب، عادتا الآن إلى لونهما البنفسجي الجميل كأن شيئًا لم يكن.
ابتسمت ليليث ابتسامة مشرقة ولمست شعر إيف برقة.
“لون شعركِ رائع، كأنه خُلق من ضوء القمر… كما توقعت.”
أبعدت إيف يدها عنها وقالت:
“أنتِ من أرسل تلك الرسالة، أليس كذلك؟“
تساءلت في نفسها إن كانت تستطيع حتى اعتبارها “شخصًا“.
نظرت إلى ليليث بعينين ضيقتين، فلم يكن هناك ما يدلّ على كونها شيطانة.
‘لكن تلك العينين قبل قليل…’
حدقة طويلة ممدودة أفقياً وسط عيون حمراء… كان ذلك بالضبط ما وصفه باليريان كعلامة مميزة للشيطان.
وإذا كانت قد تعرّفت عليها رغم أنها مغطاة بالكامل بردائها، فليس مستبعدًا أن تكون هي فعلاً المرسلة.
“نعم يا إيف. أنا من أرسلها.”
لم تحاول ليليث حتى الإنكار. ولو كانت تنوي الإنكار، لما ظهرت أمامها أصلاً وأظهرت حقيقتها.
ابتلعت إيف ريقها الجاف.
وإن كانت هذه الشيطانة بالفعل المرسِلة، فلم يكن هناك سوى خيار واحد أمام إيف.
“ما معنى ما كتب في تلك الرسالة؟“
“كما كُتب تمامًا، لا أكثر.”
“لا تحاولي كسب ولائي بمثل هذه الأمور.”
قالت إيف بحدة:
“لن تنالي ثقتي بهذا النوع من الأفعال.”
لم تكن واثقة إن كانت كلماتها ستؤثر في شيطانة كهذه، لكنها على الأقل كانت تُحاول منع اندلاع أي معركة في هذا المكان المكتظ بالناس.
‘إن حدث ذلك، فستكون الكارثة مروّعة.’
أما وقد كشفت عن هويتها وسط هذا الحشد… فلا يمكن تفسير ذلك سوى بنية إحداث دمار واسع.
كان وعيها المتقد سببًا في أن تزداد قلقًا مع مرور اللحظات، حتى أنها بدأت تضغط على أسنانها محاولة إخفاء توترها.
حينها، همست ليليث بهدوء وهي تراقبها:
“ما رأيك أن نتحادث قليلًا؟ في مكان هادئ، بعيدًا عن أنظار الناس.”
ترددت إيف.
‘اتباع شيطانة إلى مكان معزول؟ حتى أحمق سيدرك أن ذلك جنون.’
‘ولكن…’
إن رفضت، فقد تُعرّض من في المكان للخطر، بما فيهم باليريان.
تذكرت إيف التعاويذ التي كانت تراجعها طوال الليل، ثم أومأت برأسها.
‘بوسعي الفرار إن لزم الأمر.’
فالشيطانة بحاجة إليها حاليًا. وبالتحديد، لأنها آخر ساحرة متبقية في هذا العالم.
‘ولهذا السبب أرسلت تلك الرسالة.’
ما دامت تحتاج إليها، فلن تؤذيها بسهولة. وبينما كانت إيف تفكر في ذلك، كانت ليليث تُلقي نظرة سريعة على المنصة.
وفي تلك اللحظة، التقت عينا باليريان بعيني ليليث ثم إيف.
وما إن التقت أعينهم، حتى أمسكت ليليث بذراع إيف فجأة، وتلفظت بتعويذة غريبة.
“مهلاً لحظة…!”
كانت قبضتها رغم جسدها الصغير قوية للغاية. فلم تستطع إيف حتى المقاومة، وسرعان ما سُحبت خلف الشيطانة.
وسرعان ما رأت العالم أمام عينيها يتشوه ويتبدل، ويتحول تدريجيًا إلى مشهد مختلف تمامًا.
“…….!؟“
فتحت فمها بذهول مما حدث، ولم تلبث أن أدركت أنها سقطت وسط غابة ما.
“أهذه… غابة؟“
لم يكن حلما ولا مجرد وهم… بل كانت غابة حقيقية. عبق الأعشاب الحية تسلل إلى رئتيها بوضوح.
“أعتذر لإحضارك بهذه الطريقة، يا آنسة إيف إستيلّا.”
جاءها صوت امرأة من الخلف، كانت ليليث.
“بما أنك لا تحبين لفت الأنظار، آثرت إحضارك بسرعة.”
“…حسنًا.”
ورغم ارتباكها من الوضع، حاولت إيف التظاهر بالهدوء وأومأت برأسها. لم يكن من المريح أن تكون وحدها مع شيطانة، لكن في المقابل، شعرت بالارتياح لأن أحداث الرواية الأصلية لم تقع بعد.
‘لن يُصاب باليريان بأذى، إذًا.’
وذلك كان الأهم لدى إيف.
“ما الذي تريدين الحديث عنه؟“
سألتها إيف، بينما كشفت ليليث عن لون عينيها الحقيقي، وقد بدا أنها لم تعد ترى داعيًا لإخفائه.
‘إنها نفس عيناي…’
رغم أن لون عيني ليليث كان أقرب إلى الأحمر الدموي، إلا أنهما كانتا بنفس درجة العتمة، مما جعل إيف تشعر بعدم الارتياح.
بدا الأمر وكأنهما من نفس الفئة.
“أردت أن أطلب منكِ شيئًا، يا آنسة إيف.”
“…وما هو؟“
“نحن نعلم أنكِ ساحرة.”
نظرت إيف مباشرة إلى عيني ليليث بوجه جامد.
وكما توقعت، كانت تعرف منذ البداية.
“لا بد أنكِ عانيتِ كثيرًا وأنتِ تتخفين في هذا الإمبراطورية. فهم لا يشعرون بأي ذنب في نبذ من يختلف عنهم.”
قالت ليليث وهي ترتجف حاجبيها بتأثر، كأنها تشفق على إيف.
“ألم تعيشي في خوف دائم من أن يقتلك من تحبين؟ أو من أن يتحول أفراد عائلتك إلى مطاردين؟“
اهتز قلب إيف دون أن تدري. كانت تلك المرة الأولى التي تسمع فيها شخصًا ينطق بما يختلج في صدرها بهذه الصراحة.
رأت ليليث نظرة التردد في عينيها، فارتسمت على شفتيها ابتسامة هادئة.
“نحن لسنا مختلفين عنكِ. هل تظنين أنني لا أملك مشاعر؟ نحن نُبغَض فقط لأننا وُلدنا شياطين، ونتعرض للمطاردة والقتل… كم كان ذلك مرعبًا ومؤلمًا.”
ثم أمسكت ليليث يد إيف فجأة. وكانت حرارتها دافئة، كيد أي إنسان، مما أربك إيف للحظة.
“نحتاج فقط إلى القليل من مساعدتك. إن اتحدنا معًا، يمكننا إنهاء هذه الحياة المليئة بالكره والاحتقار.”
كادت إيف أن تنخدع. أن تُصدق أن هذه الكلمات صادقة.
لكنها كانت قد قرأت الرواية الأصلية… وتعلم جيدًا مدى دناءة الشياطين.
ما فعلوه بـ باليريان هناك لم يكن شيئًا يمكن نُطقه، فقد كان خبيثًا ووحشيًا إلى درجة لا تُحتمل.
قتلوا وهددوا كل من يحيط به ليصلوا إليه. وفي النهاية، اختطفوا يوري ليضغطوا عليه.
وبقيت يوري في غيبوبة خلال ذلك. وحين فشلوا في قتلها، عبّروا عن خيبة أملهم بلا مواربة.
كان لديهم هدف واحد فقط.
الطمع.
أرادوا الاستيلاء على عالم البشر، وتحويل الناس إلى عبيد بين أيديهم، لا لشيء إلا ليستمتعوا بتعذيبهم بوحشية.
بصفتها ساحرة، لم يكن من الممكن أبدًا أن يكون طريقها مشتركًا مع ما يريده أولئك الشياطين.
‘هل يحاولون إغرائي بهذه الطريقة؟‘
كانت إيف ترى نوايا الشيطانة أمامها بوضوح، فشعرت بالذهول. بل وحتى بالقشعريرة. لو أنها لم تكن قد قرأت القصة الأصلية… لربما كانت ستنخدع بكلمات هذا الشيطان.
شكل ليلِيث المرتجف وهي تكاد تبكي، مع ارتجاف حاجبيها بأسى، بدا صادقًا لا زائفًا.
‘الآن أفهم ما معنى التحذير من الوقوع تحت تأثير الشياطين.’
فإحدى قدرات الشياطين من الدرجة العليا هي “الرياء“، وقد ظهرت بوضوح في هذه اللحظة.
دفعت إيف يد ليلِيث التي كانت تمسك بها، وقالت ببرود:
“فما الذي تريدينه حقًا؟“
ربما شعرت ليلِيث بتغير في نبرة إيف، إذ بدا وجهها مضطربًا للحظة، لكنها سرعان ما أخفت مشاعرها وقالت بنبرة هادئة:
“نحتاج إلى المزيد من الحلفاء.”
“آه، وتريدين مني أن أفتح بوابة تربط بين الأرض والعالم السفلي؟“
فهمت إيف فورًا ما كانت الشيطانة تسعى إليه، واكتفت ليلِيث بإيماءة خفيفة تؤكد.
هذا تمامًا ما ورد في كتب التاريخ التي تتحدث عن أحداث قبل مئة عام.
فهل يعني هذا أن السحرة في ذلك الوقت وافقوا فعلًا على هذا الطلب وفتحوا البوابة؟
عضّت إيف على شفتيها بقلق.
‘إن كان الأمر كذلك، فلا يمكن حتى أن نلوم الإمبراطورية على سعيها لاجتثاث السحرة.’
أرادت أن تسأل ليلِيث ما إن كانت تلك الحادثة حقيقية، لكنها لم تكن واثقة من أن الشيطانة ستجيب بصدق.
لذا، من الأفضل إنهاء هذا الحديث بأسرع وقت.
“الجواب هو لا. ولن أوافق أبدًا.”
ردّت إيف بحسم، وسرعان ما تخلّت ليلِيث عن تمثيلها للحزن، لترتسم على وجهها ابتسامة مستفزة.
“هل يعني هذا أنك لا تمانعين في كشف حقيقتك؟“
“… ماذا؟“
هل تنوي ابتزازها الآن باستخدام سرّها؟
“البشر… مخلوقات سطحية للغاية. يكفي أن يُثار الشك حول كونك ساحرة، حتى يسارع الجميع لإثبات صحته أو نفيه.”
لكن إيف لم تُظهر أي انزعاج، وردّت ببرود:
“… وبأي وسيلة سيثبتون ذلك في رأيك؟“
“ألا تعلمين؟ قريبًا ستحلّ القدّيسة. وجميع القدّيسات عبر التاريخ امتلكن القدرة على تمييز الطاقة السحرية.”
ثم ضحكت بخفّة، وقالت:
“هاه، لم تكوني تعرفين؟“
شعرت إيف بلسانها ينعقد. لم تكن تتصور أن خبر قدوم القدّيسة قد وصل حتى إلى الشياطين.
‘هل يمكن أن يكون هناك خائن أو شيطان متخفي داخل المملكة المقدسة؟‘
فالشياطين من الدرجة العليا قادرون على تغيير طبيعة طاقتهم السحرية، ويمكنهم التظاهر بأنهم بشر في أي وقت.
‘… لكنهم لن يكشفوا هويتي بسهولة.’
هم بحاجة إلى مساعدتها، بصفتها آخر ساحرة متبقية، ولا يمكنهم السماح بوضعها في خطر.
لاحظت ليلِيث ما فكرت به إيف، وابتسمت بسخرية أنيقة:
“أنت أذكى مما ظننت. لكن، هل تعتقدين أن إيلا سيكون بأمان؟“
من الواضح أنها أدركت مدى أهمية إيلا بالنسبة لإيف. فكونها حضرت إلى هذا المكان بعد قراءة الرسالة، يدل على قلقها عليها.
اقتربت ليلِيث من إيف، وكأنها توشك على التهديد بحياة باليريان هذه المرة. لكن إيف تراجعت خطوة وردّت بثقة:
“أجل، أعتقد أنه بخير.”
إن لم يكن في مكان يعج بالناس، فبإمكان باليريان التعامل مع شيطان من الدرجة العليا.
“همم، تتحدثين بثقة كبيرة. لكن هل تعلمين؟ إيلا تعرّض لإصابة خطيرة… على يد شيطان من الدرجة المتوسطة.”
“… ماذا قلتِ؟“
صدمت إيف من الخبر. لم تسمع بهذا من قبل.
كانت تعتقد أن الضرر كان بفعل شيطان من الدرجة العليا، لكن أن يصاب باليريان على يد شيطان متوسط؟!
‘لا بد أنها تكذب!’
فالشياطين من الدرجة المتوسطة لا يمكنهم إخفاء طبيعة طاقتهم، لذا ينكشف أمرهم بسهولة، وباليريان قضى على العديد منهم من قبل.
لم يكن الأمر سهل التصديق.
لكنها تذكرت في تلك اللحظة نظرة هيليوت المرتبكة وهو يخبرها عن إصابة باليريان… تلك النظرة لم تكن معتادة.
إن كان باليريان قد أُصيب فعلًا على يد شيطان متوسط… فلا بد أن هناك خللًا في قوته.
رأت ليلِيث نظرة التوتر في عينيها، فارتسمت على وجهها ابتسامة خبيثة.
“ما أقوله حقيقي تمامًا، لا كذبة فيه.”
“إذًا، تنوين استغلالي لعرقلة باليريان هذه المرة؟“
“إن فسّرتِ الأمر بهذا الشكل، فأنا أبدو وكأنني شريرة لا ترحم. لكنه كان مجرد اقتراح لمساعدة متبادلة.”
أمالت عينيها قليلًا وابتسمت بسحر قاتل.
“ما رأيكِ يا أيتها الساحرة؟ لا تملكين خيارًا أليس كذلك؟ إن كُشف أمرك فمصيرك الموت مثلنا تمامًا.”
نظرت إيف إليها ببرود، وعضّت على شفتيها.
كانت ليليث تهددها بشكل واضح: إما التعاون، أو فضح السر.
“لن يحدث ذلك أبدًا.”
مدّت إيف يدها وبدأت تردد تعويذة قرأتها في كتاب السحر.
‘أرجوك، فلينجح…’
لم تكن تتوقع أن تقضي على شيطان من الدرجة العليا بتعويذة تمرّنت عليها ليلة واحدة.
لكنها لم تكن تهدف لقتل ليلِيث، بل لتقييدها مؤقتًا، بما أن ليليث تحتاج إليها ولا يمكنها قتلها.
[إييلو]
ما إن نطقت إيف بالتعويذة، حتى تغيّر الجو الجاف فجأة، وبدأت الرطوبة تتكثف وتتجمع.
ثم تحوّلت هذه الرطوبة بسرعة إلى جليد حادّ كالخناجر، واندفعت نحو ليلِيث قبل أن تتمكن من تفاديها.
بوم بوم بوم!
كانت قوة التجميد عنيفة لدرجة أن الأرض اهتزت تحتها.
‘ماذا…؟‘
نظرت إيف بذهول إلى الأرض المتشققة والجافة وقد غطاها الجليد المدمر. فتحت فمها بدهشة وهمست:
“… كنت فقط أريد أن أهددها.”
لم تستطع إخفاء ارتباكها من الدمار الذي أحدثته في الغابة.
يبدو أن جرعة الإكسير التي أعطاها لها باليريان قد كان لها مفعول هائل.
كل عام وأنتم بخير ⭐️ عيد أضحى مبارك
ترجمة : سنو
واتباد : punnychanehe
حساب الواتباد الاحتياطي : punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 29"