“لـ… لماذا… لماذا مزّقته…؟“
لعلها كانت شديدة الارتباك، فلم تستطع إيف إتمام عبارتها.
وعينا باليريان وهما تحدّقان بها كانتا هذه المرة أكثر ظلمة وهدوءًا من المعتاد.
نظراته الحادة التي تشبه نصلًا من الجليد جعلت إيف تحاول أن تنكمش لا إراديًّا، لكنها تماسكت وأبقت ظهرها مستقيمًا.
“لا بأس، افعل ما تشاء. لم يعد لي علاقة بأي شيء بعد الآن. إلى اللقاء.”
أدركت أنها طرحت سؤالًا لا طائل منه، فقطعت الحديث على الفور. لكنها فوجئت مرة أخرى بسؤاله التالي.
“ولِمَ تظنين أنني فعلت ذلك؟“
لم تعد تدري إلى أين يقود هذا الحوار، فتملكها الارتباك، لكنها سرعان ما تخلّصت من ارتباكها وحافظت على رباطة جأشها.
“… لا أريد أن أعرف.”
فحتى لو حصلت على إجابة منه، فلن يكون بيدها ما تفعله في هذا الموقف.
ثم حاولت تجاوز باليريان والمضيّ في طريقها، لكنه تكلم مرة أخرى:
“تخلّيت عن كل شيء… لقد سئمت من كل هذا.”
“…….”
توقفت إيف في مكانها.
“وإذا خطوتِ خطوة واحدة أخرى، فلا أعلم هذه المرة عمّ سأتخلى أيضًا.”
عند كلماته، التفتت إليه ببطء، وحين نظرت في وجهه، بدا هادئًا تمامًا كأنه لم يقل شيئًا غير معتاد. شعرت بالارتباك، كأنها لا تفهم ما تسمعه.
“تتخلى… عن ماذا بالضبط؟“
“أخيرًا… نظرتِ إلي.”
ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة، واهتزّت أهداب إيف برقة.
‘ما الذي يقوله؟‘
لم تكن كلماته مفهومة حتى الآن.
كانت ترغب في تجاهلها تمامًا، ولا تحاول فهمها.
لكن عقلها الذي فقد تماسكه، راح يفسّر كلماته دون إرادتها.
ظنت أنها بدأت تدرك ما كان يعنيه… فلم تستطع تجاهله أكثر.
تكلمت بوجه متجمد:
“… لا تقل شيئًا كهذا ساخرًا.”
“إذًا، فهمتِ ما أعنيه.”
في الحقيقة، لم تكن إيف قادرة على فهمه أبدًا. فكما تعرفه، لم يكن باليريان أبدًا من الرجال الذين يلقون بالكلمات عبثًا.
“باليريان…”
“نعم يا إيف.”
ردّ عليها بصوته المعتاد، بنبرة هادئة طبيعية، لدرجة جعلتها تظن للحظة أن كل ما يحدث مجرد وهم.
لكنها سرعان ما استعادت وعيها وسألته:
“هل تعني أنك ستتخلى فعلًا عن كل مسؤولياتك وواجباتك؟ من أجلي أنا؟“
لم تجد كلمات تصف صدمتها من إعلانه هذا. أما هو، فحدّق بها ببرود قاتل.
“حين يخونك الشخص الذي كنت تثق به أكثر من أي أحد… فماذا يمكن أن تثق به بعد ذلك؟“
“… باليريان…”
“إن كان ما فعلتِه في قاعة الحفل هو طريقتكِ في التعبير عن صدق مشاعركِ نحوي، فدعيني أقول لكِ… لقد كانت تجربة ممتعة يا إيف.”
رغم أن نبرته ظلت هادئة، فإن نظراته كانت باردة حدّ التجمد.
رغم أن نبرته بدت عادية، إلا أن النظرة في عينيه كانت باردة إلى حد لا يوصف.
“لبرهة، لم أعد أعلم إن كنتُ قد حضرت إلى حفلة… أم إلى مسرحية رخيصة من الدرجة الثالثة.”
كانت عيناه توجّهان إليها نظرات لوم قاسية لا ترحم. فشعرت إيف بأن قلبها هبط في مكانه من الخوف، وأخفضت نظرها دون أن تدرك.
‘لا أستطيع حتى النظر في عينيه…’
‘هكذا إذًا يكون شعور من يُبغَض من قِبل من يحبّه أكثر من أي أحد.’
صدرها ضاق وثقل، كأن أنفاسها لا تجد لها مخرجًا.
“أنتَ… لن تستطيع أن تفهمني أبدًا يا باليريان.”
قالتها إيف بشفاه مرتجفة، بعد أن كانت تعضّ عليها بصمت.
“…….”
ظلّ فاليريان يراقبها في صمت، لكنه في قرارة نفسه أيقن من شيء واحد:
أن مشاعرها نحوه… لم تختفِ بعد.
فرغم تصرفه البارد والمتجاهل عمدًا، لم تبدُ عليه أي علامة تدل على أنها تجاوزته.
‘لن تستطيع أن تفهمني؟‘
هو التقط على الفور النبرة الخفية في كلماتها. لقد بدت مختلفة عن كل مرة نطقت فيها بذلك من قبل.
لكن إيف، التي لم تنتبه إلى اللمعان الحاد في عينيه، تابعت كلامها…
“صحيح، أنا شخص سيئ. وإن كنت سأختفي من حياتك، فلا بأس أن ترى الأمر جيدًا بطريقتك.”
كانت تود إنهاء هذا الحديث بسرعة.
“إيف.”
“لكن لا تقل كلامًا كهذا. لا تقل إنك ستتخلى عن كل شيء بسبب امرأة واحدة.”
وهو في الحقيقة، لم يكن ينوي التخلي عن شيء.
حتى في الرواية الأصلية، كان باليريان يكبح مشاعره من أجل مسؤولياته تجاه الأمة ويوري، ولم يكن ليسمح لنفسه أن يتخلّى عن واجبه.
ولهذا، شعرت إيف بشيء من الحنق تجاه كذبه، كذبه الذي يريد أن يُثقلها بالذنب.
واغرورقت عيناها بالدموع.
فهي أكثر من يعرف ماذا سيفعل إن اكتشف الآن، في هذه اللحظة أنها ساحرة.
‘وتلومني بهذا الشكل؟‘
لو أنه واجهها بما فعلت ووبخها مباشرة لكانت قبلت بذلك. لكنها لا تستطيع تقبّل أنه يهاجمها بالكذب.
‘وإن كنت شيطانة؟ أو ساحرة؟ هل كنت ستمسك بيدي حقًا؟‘
كادت أن تسأله هذا السؤال مباشرة.
لكن الجواب كان واضحًا.
لو نطقت به، لسحب سيفه المقدّس المعلّق على خصره وضرب عنقها.
حين نظرت إلى سيفه، رأته مسحوبًا قليلًا من غمده.
‘… ما هذا؟‘
أرادت أن تقنع نفسها أنه محض صدفة.
لكن باليريان لا يجرّد سيفه المقدّس إلا حين يواجه شيطانًا.
‘… لا يمكن…’
وتذكرت جبين زافيير، الذي كان مغطى بالعرق البارد قبل قليل.
كان من الغريب أن تسوء حالة باليريان الجسدية فجأة، رغم أنه كان يبدو بخير تمامًا في قاعة الحفل.
لكن إن كان قد استلّ السيف المقدّس أمام زافيير… فالأمر يصبح مختلفًا تمامًا.
“لا تقل لي… باليريان، هل استخرجت السيف المقدس؟“
“……”
صمته كان كافيًا ليُفهم أنه يعترف، فتنهّدت إيف بسخرية خافتة.
“أنت مجنون فعلاً.”
“لا أحد يمكنه الحفاظ على هدوئه في مثل هذا الوضع.”
قال كلماته وعيناه تتوجه مباشرة نحوها.
“إلا إيف… ربما أنتِ الوحيدة التي تستطيعين.”
حين تغضب حقًا، تصبح أكثر برودًا واتزانًا من أي شخص، وتخفي مشاعرها بإتقان.
ولذلك، خمّن باليريان أنها غاضبة منه. وكان حدسه في محلّه.
“إيف، إذا كنتِ غاضبة مني… فقوليها بصراحة.”
“…أنا؟ ولماذا أغضب من باليريان؟ أساسًا لا يحق لي أن أغضب منك من الأساس، أليس كذلك؟“
ردّها هذا جعل النظرة في عينيه تتغير. تأكّد في تلك اللحظة أنها غاضبة… وأنها تخفي شيئًا.
ثم فتحت شفتيها ببطء وقالت:
“…المكان الذي يجب أن تكون فيه… ليس هنا. بل في الكنيسة الرئيسية.”
بمعنى أدق، مكانه ليس إلى جوارها، بل إلى جانب القديسة يوري.
رغم أن كلماتها كانت تحمل معنًى آخر، إلا أن نظرة عينيها الجادة قطعت كل تردد. فانطفأ التعبير على وجه باليريان شيئًا فشيئًا.
لقد أدرك… أنها تعني ما تقول.
لا، هو كان يعرف منذ البداية أنها لن تتراجع عن قرارها.
لقد كان فقط يتظاهر بعدم الفهم.
هو يعرف الحقيقة جيدًا.
“…إيف.”
“لا أريد التحدث أكثر.”
قاطعت كلماته بنبرة حادة.
كلما طال هذا الحديث، زادت احتمالية انكشاف أمرها.
كان باليريان أذكى مما توقعت، ومن يدري متى قد يكتشف سرّها؟
تذكرت أولئك الذين قتلهم بيديه… الشياطين ومن تبقى من أتباعهم.
‘إيف إستيلا، سنبدأ مراسم الإعدام.’
كأن صوته لا يزال يرن في أذنيها.
شدّت قبضتها على فستانها بقوة. نظرة باليريان تعلّقت بها للحظة، شعر أن هناك شيئًا غير طبيعي.
لم يكن لديه شك بأنها تخفي شيئًا.
وقبل أن يفتح فمه ليواجهها، سبقت وقالت:
“…الحديث أكثر من هذا لا طائل منه. دعنا ننهيه هنا.”
“إيف…”
“مهما قلت الآن، لن أجيبك.”
وأدارت ظهرها له ببرود دون تردد. لم يستطع باليريان أن يمسك بها.
وما قالته له كان بمثابة إعلان <لن تستطيع انتزاع الحقيقة منها>
‘في هذه الحالة، سأكتشفها بنفسي.’
توهّجت عيناه بنظرة حادة حاسمة.
* * *
عندما عادت إيف إلى المنزل، توجّهت مباشرة إلى والديها وقالت:
“إن جاء باليريان لزيارتنا مجددًا، لا تفتحوا له الباب.”
“…حسنًا.”
أومأ كلا الوالدين بصمت، لكن في عينيهما شيء من الحذر والقلق، ما جعل قلبها ينقبض.
“هل حصل شيء وأنا لست هنا؟“
“لا يا عزيزتي، فقط…”
نظر كلاهما إلى بعضهما بصمت وملامحهما تشي بالضيق.
“إيف، هل ستكونين بخير حقًا؟“
لقد خانت خطيبها الذي أحبّته لسنوات، وخُطبت لصديقه، فقط لأنها ساحرة.
كان التفكير بمدى ما عانته يجعل قلبهما يتمزق.
“ما فائدة التعلّق بما مضى؟ أنا بخير الآن.”
كانت تشعر بأنها أفضل قليلاً.
سابقًا، كان قلبها يهوي كلما صادفت باليريان صدفة.
لكن الآن، بعدما قابلته وأنهت كل شيء، شعرت وكأنها تحررت.
‘المكان إلى جوار ريّان لم يكن لي أبدًا.’
حين اعترفت بذلك داخليًا… شعرت براحة حقيقية.
رغم ما بدا على وجهها من ارتياح، لم يستطع والداها التخلص تمامًا من قلقهما.
خلفهما، أشار نواه إليها بإيماءة سرية.
“تعالي، أريد أن أريكِ شيئًا.”
“ماذا هناك؟“
ذهبت خلفه إلى غرفة الاستقبال، حيث كان صندوقٌ وُضع على الطاولة.
“وصل صندوق جديد… لكن هذه المرة، الأمر مختلف.”
كانت ملامحه أكثر جدية من المعتاد.
فتحت إيف الهدية دون اكتراث. توقعت أن يكون كالسابق، تهديدًا متنكرًا في هدية. لكن لم يكن كذلك هذه المرة.
كان في الصندوق رسالة واحدة فقط.
<…سأثبت لكِ ولائي بموت إيلا.>
رسالة قصيرة، بكلمات ثقيلة.
“ولاء… لي؟“
“بدت غريبة، ففحصت الرمز المرسوم أسفل الرسالة… انظري.”
أخرج نواه كتابًا وفتحه أمامها، مشيرًا إلى رمز مطابق تمامًا لذلك الموجود في الرسالة.
وكان وصف الرمز في الكتاب يتلخّص بكلمة واحدة فقط:
[علامة الشيطان]
ترجمة : سنو
واتباد : punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 26"