عند كلام إيف، شحب وجه نواه وتجمد في مكانه.
“ماذا…؟“
توقّف عن الحركة تمامًا، وتذكّر ما فعلته إيف سابقًا ثم شهق وقد تملّكه الذهول.
“هل كنتِ تعلمين وفتحتِ الهدية رغم ذلك؟! هل جننتِ؟!”
“السموم لا تؤثر عليّ كثيرًا. أظنني أتمتع بمناعة طبيعية.”
ازداد ذهول نواه، فتملّكتها الحرج وهي تراقب وجهه المتشنج.
‘ما باله يبالغ هكذا؟‘
‘أنا أيضًا لم أكن أعلم في البداية.’
عندما وصلتها أول هدية تهديد، تركتها بلا اهتمام قرب النافذة ولم تلقِ لها بالًا، لكن النبتة الموضوعة بجانبها ذبلت وتعفّنت فجأة.
في البداية ظنّت أن السبب هو إهمالها في سقيها، لكن الرائحة الكريهة التي انبعثت منها لم تكن عادية ومن هنا بدأت تشعر أن هناك شيئًا غير طبيعي.
حينها أخضعت تلك المادة لفحص سري، واكتشفت أنها سم شديد السمية ذو تأثيرات مهلوسة، يمكنه أن يُفقد الشخص اتزانه العقلي وقد يؤدي إلى الموت إذا استنشق لفترة طويلة.
ومنذ أن سمعت بهذا، أصبحت تخبئ الهدايا المريبة في صناديق محكمة الإغلاق تحت سريرها، حرصًا على ألا يلمسها أحد.
ومن خلال تلك التجربة، أدركت أنها تملك مقاومة طبيعية ضد معظم أنواع السموم ولهذا لم تكن تتعامل مع الأمر بجدية.
‘طالما أنني أتخلص من هذه الأشياء بعيدًا عن أي فرد من العائلة، فلا حاجة للقلق.’
لم تجد داعيًا لتثير المخاوف بلا سبب.
‘ثم إن من يقرّر أن يُبقي باليريان إلى جانبه، عليه أن يتوقّع مثل هذا الخطر.’
في القصة الأصلية، أيضًا، تعرّضت يوري للتهديدات والمضايقات عندما اقتربت من باليريان، حتى بلغ الأمر التهديد بالقتل.
لكن باليريان لم يقف مكتوف اليدين بل تتبّع الشخص المسؤول وكشفه أمام الجميع ورفعه للمحاكمة بنفسه.
لقد تصرّف كما يفعل بطل القصة ونظّف الفوضى تمامًا.
“من الغريب أن تمتلكي مناعة ضد سمّ من هذا النوع… هل كل السحرة كذلك؟“
همس نواه لنفسه، فأفاقت إيف من شرودها.
‘نعم، كان عليّ أن ألاحظ هذا الأمر منذ البداية…’
فمقاومة كهذه لسم قاتل ليست أمرًا عاديًّا.
بل إنها ليست حتى من إيلا كما هو حال باليريان.
أدركت أن ثقتها المفرطة كانت خطأ.
وهذا ما أوصلها إلى أن تصبح الآن إحدى شخصيات مسرحية عبثية تتخللها الغيرة والمكائد.
غمرها الإحباط فصعدت إلى سريرها ببطء راغبة في النوم ولو قليلاً… لكن ذهنها كان يقظًا أكثر من اللازم.
‘كل هذا بسبب الإكسير الذي أعطاني إياه فاليريان…’
أخذت تلقي اللوم عليه في سرّها، دون أن تعرف كيف انقلبت الأمور بهذا الشكل.
تذكّرت آخر مرة التقت فيها بعينيه… تلك النظرة الحزينة وتلك الابتسامة المكسورة.
* * *
دخل باليريان مقرّ الدوقيّة برفقة والده، دون أن يردّ على تحيّات الخدم، واتّجه مباشرة إلى مكتب والده.
بدا وجهه بارداً تماماً خالياً من أي دفء وهو يحمل بقايا ما حدث في الحفلة.
وحين أمسك بمقبض باب المكتب، ذاب المقبض كلياً دون أن يترك أثراً.
لم يُعر باليريان ذلك اهتمامًا، ودفع الباب بقوّة ودخل.
انكسر القفل بصوتٍ مدوٍّ، لكن لم يجرؤ أحد على التعليق.
“لماذا منعتني؟“
قالها بحدّة وهو يواجه الدوق، وجهه ممتلئ بالتوتّر والقلق المكبوت.
ضيّق الدوق لودفيغ عينيه، وسأله بهدوء:
“ولو لم أمنعك، ماذا كنت ستفعل؟“
وكان كلامه في محلّه. عضّ باليريان على شفتيه وقال بإصرار:
“أنا وإيف… لم نُعلن فسخ الخطوبة بعد.”
أجاب الدوق بهدوء وهو يفتح أحد أدراج مكتبه، ثم أخرج رسالة ووضعها أمامه على الطاولة.
“لم تعُد هناك أي علاقة بين عائلة إستيلا وعائلة لودفيغ.”
تناول باليريان الرسالة بسرعة وقرأها.
كانت أوراق فسخ الخطبة مرسلة من عائلة إستيلا.
وقد كُتب فيها أن جميع الهبات التي تلقّتها العائلة من لودفيغ ستُعاد أيضًا.
في تلك اللحظة، لمع الغضب في عيني باليريان الزرقاوين.
وفي نفس اللحظة، احترق الطرف الذي كان يمسك به من الورقة حتى اسودّ تمامًا.
قال الدوق ببرود وهو يراقبه:
“أنت حتى الآن غير قادر على ضبط قواك. ولهذا، ففسخ الخطوبة هو القرار الصائب.”
لمعت نظرة خافتة من خيبة الأمل في عيني الدوق الزرقاوين وهو ينظر إلى ابنه.
“فكّر جيّدًا، ما الذي كنت تفكّر به؟ ما الذي كنت تنوي فعله تحت تأثير فتاة واحدة؟“
وبينما كان باليريان ينظر إلى توقيع والده أسفل الوثيقة، ارتسمت على وجهه ابتسامة مائلة حزينة.
“…ظننت أنك ستتفهمني. أنت الذي ضحّيت بحياتك لإنقاذ والدتي.”
ما إن ذكر اسم والدته ميلين، حتى تلبّدت ملامح الدوق بالعتمة، وحدّق عبر النافذة.
لقد كان لا يزال يندم على زواجه منها.
لو لم يتزوجها، لربما كانت لا تزال على قيد الحياة في مكانٍ ما تحت هذا السماء.
“ما دامت الخطبة لم تصل إلى مرحلة الزواج، من الأفضل أن تتوقّف هنا.
هذا هو القرار الأنسب لمستقبلك.”
قال الدوق ذلك وأغمض عينيه للحظة، غارقًا في التفكير.
لو كان باستطاعته إعادة الزمن، لما أقدم على الزواج أبدًا.
لو كان في ذلك خلاصٌ لميلين، لما سمح لابنه بتكرار خطيئته.
“هاه…”
ضحك باليريان ضحكة تحمل من التأوّه أكثر مما تحمل من الفرح.
ضحكة لا تليق بالموقف، وكانت نذير شؤم.
كان أحد جوانب مكتب الدوق قد ذاب واختفى بفعل حرارة قوته.
نظر إليه الدوق لودفيغ، رافعًا حاجبًا بدهشة.
“باليريان، تمالك نفسك.”
“لن أتخلى عن إيف بهذه الطريقة أبدًا. وإن كانت سمعة العائلة هي ما يقلقك…”
مزّق فاليريان الوسام المثبّت على صدر زيه الرسمي كفارس، وألقاه على مكتب الدوق.
“فلن يكون هناك ما يُقلق بشأنه، سأتخلى عن كل شيء.”
“ما الذي تظنه نفسك فاعلًا؟ باليريان!”
دوى صوت الباب وهو يُغلق بعنف، وحدقت عينا الدوق في مكانه بدهشة.
كل شيء حدث بسرعة جعلته عاجزًا عن الإمساك به أو منعه.
لم يكن للباب مقبض، وقفلُه قد تحطم وتدلى كأنما كان ورقة ممزقة.
تنهّد الدوق بعمق وجلس من جديد.
“هفف…”
مرّر يده فوق جبهته وكأنّ الصداع بدأ يثقل رأسه، ثم استدعى مساعده.
“هل من أمر يا سيدي الدوق؟“
“… لا، لا شيء.”
تردّد الدوق لحظة حين رأى المساعد أمامه، فآثر الصمت.
رمقه راين بيدرو بنظرة متفحّصة بين حيرة وقلق.
باب المكتب المهشّم، وتردّد الدوق في الحديث…
كان مشهدًا غريبًا لم يعتد عليه راين، لكنه لم يُظهر دهشته وانتظر بصمت.
وبعد لحظة، قال الدوق:
“إن وصلتك أي أخبار من القصر الإمبراطوري، خصوصًا ما يتعلق بـ باليريان، فابلغني بها فورًا دون تأخير.”
“حاضر.”
في تلك الأثناء، كان حرس القصر قد تفاجؤوا عند رؤيتهم وجهًا مألوفًا.
باليريان لودفيغ.
لم يكن هناك أحد في الحرس لا يعرف وجهه.
فهو لم يكن فقط أعلى رتبةً بين الفرسان في مجلس النبلاء، بل أيضًا القائد المستقبلي للحرس الإمبراطوري.
لكن ما أربكهم لم يكن ظهوره المفاجئ ليلًا، بل الهالة الحادة والعنيفة التي بدت تحيط به.
“لا يعقل…!”
كانت شائعة ما حدث في الحفل قد وصلت إلى آذانهم، لكنهم لم يروه بأعينهم لذا لم يصدّقوها.
إلا أن الأمر تغيّر بعدما تلقّوا أمرًا صريحًا من ولي العهد:
– في الوقت الراهن، امنعوا باليريان لودفيغ من دخول القصر.
كان أمرًا غير مسبوق، وأثار الكثير من الهمسات.
‘هل يعقل أن تكون الشائعات صحيحة؟‘
لقد سمع الجميع عن تضحية باليريان من أجل خطيبته المريضة، وكيف دخل غابة التنانين لجلب الأعشاب النادرة لإنقاذها.
قصة رومانسية أثارت إعجاب الجميع في العاصمة.
تلك القصة الشهيرة كانت منتشرة في أرجاء العاصمة، لذا لم يكن من السهل على أي أحد أن يصدق أن خطيبة كهذه قد تتخلّى عن خطيبها وتُعلن خطوبتها لوليّ العهد.
لذلك، لم يصدّق أحد الشائعات… حتى وصل أمر ولي العهد.
وعندما وصل باليريان، قال لهم بهدوء:
“لدي أمر في القصر.”
“نعم، بالطبع…”
لكنهم ترددوا حين رأوا صدر بدلته وقد خلا من الوسام.
فلما لاحظ باليريان نظراتهم، ابتسم بإحراج.
“أظن أن الخياطة لم تكن متقنة، فسقط الوسام.”
“آه، فهمنا! علينا أن نكون أكثر حذرًا أيضًا!”
وبينما كانوا على وشك أن يفسحوا له الطريق، تذكّروا الأمر مجددًا، فاعترضوه.
“آسفين يا سيدي، لكن دخولك ممنوع في الوقت الحالي.”
“ممنوع؟ هل هو أمر من ولي العهد؟“
لمعت عيناه الزرقاوان ببريقٍ حاد كعينَي صقر يصطاد فريسته.
ارتبك الحراس وتلعثموا:
“ن–نعم… أوغ!”
وقبل أن يُكملوا حديثهم، سقطوا على الأرض فاقدين الوعي.
لم يُصبهم بأذى جسيم، فقط ضغط بخفة على مؤخرة أعناقهم.
ثم بكل بساطة، حملهم وألقاهم في العشب المجاور، وتابع طريقه داخل القصر دون أن يوقفه أحد.
فأوامر المنع لم تصل إلا لحراس البوابة.
أما من في الداخل، فلم يكونوا على علم بأي شيء، فتركوه يعبر دون اعتراض.
لكنهم لاحظوا أن هناك شيئًا مختلفًا.
فمن اعتادوا على إلقاء التحية عليه من قبل، لم يجرؤوا حتى على الحديث معه هذه المرة، بسبب نظراته الباردة القاسية.
عندما وصل إلى مكتب ولي العهد، نظر باليريان للحظة إلى مقبض الباب.
لم يكن يريد تكرار ما حدث في منزل والده، حين ذابت المقابض بسبب قوته. لم يكن هناك مجال لأي فوضى الآن.
فكبح قواه، ثم فتح الباب دون أن يطرق.
“… باليريان؟ كيف دخلت؟“
كان ولي العهد قد أوعز للحراس بمنعه، لذا رؤيته الآن جعلت الدم يتجمد في عروقه.
الأمور بدت خارجة عن السيطرة.
ازدرد خفيةً ريقه، وعيناه لا تبتعدان عن نظرات ياليريان.
‘إنه ليس بكامل وعيه…’
قوة إيلا التي تسري فيه جعلت حرارة الغرفة تزداد بشكل خانق.
حتى حين سمع سابقًا بمرض الآنسة إيف، لم تكن طاقته بهذا الاضطراب.
ومع ذلك، تمالك ولي العهد نفسه وقال:
“اجلس، دعنا نتحدث بهدوء.”
دخل باليريان وأغلق الباب خلفه. ثم أقفل الباب بالمفتاح.
تسلّل العرق البارد إلى ظهر ولي العهد.
تخيّل سيناريوهات مختلفة وهو يراقب قفل الباب يُدار.
لا يدري إن كان عليه أن يشعر بالراحة أم الخوف.
تذكّر الخبر الذي وصله منذ قليل من رسول القصر:
<الآنسة إيف ستزور القصر بعد لحظات.>
وكانت أسباب زيارتها واضحة له.
على الأرجح، تريد الحديث عن خطبة التظاهر التي أعلناها.
لكنه لم يكن يعلم إن كانت زيارتها ستحل الأزمة… أم تزيدها سوءًا.
“كم أنت هادئ يا زافيير… كيف تستطيع التفكير بشيء آخر وسط هذا الوضع؟“
قال باليريان بابتسامة لطيفة، لكنها كانت تحمل خلفها قسوة قاتلة.
كانت عيناه الزرقاوان تضجّان بنية القتل بعدما كبحها طويلًا.
شعر ولي العهد وكأنّ أنفاسه توقفت في حلقه.
(كل تفاعل او كومنت يسعدني ويخليني استمر💋)
ترجمة : سنو
واتباد : punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 24"
والله حمااااااس🔥🔥🔥شكرا على الترجمه
الله يعطيك العافية على الترجمة الجميلة💗💗