في اليوم التالي، توجّهت إيف فورًا إلى القصر الإمبراطوري بعد أن وصلتها رسالة من هناك.
ورغم أنها زارت ولي العهد دون رسالة مسبقة، إلا أنه كان جالسًا في قاعة الاستقبال، يشرب الشاي بوجه هادئ كأنه كان يتوقع قدومها.
‘يا له من شخص مغرم بالشاي فعلاً.’
كان يجلس منتصبًا كالخيزران، يشرب الشاي بانضباط لا يضاهى، خالٍ تمامًا من أي طابع إنساني.
قالت وهي تجلس أمامه دون تكلف:
“لم أتوقع أن تقبل بهذا العرض، يا صاحب السمو.”
فردّ ببرود:
“لم أكن أعلم أننا صرنا في علاقة نتجاوز فيها التحية.”
وعندما أشار زافيير إلى عدم التزامها بالآداب، ردّت إيف دون أن ترمش حتى:
“أليس جلالته من وافق على أن تكون علاقتنا بهذه الصورة؟“
عندما لمّحت إلى أنه هو من وافق على خطوبة مزيفة، حدّق فيها زافيير طويلًا وهو يرفع فنجانه. كانت نظرته وكأنه يرى أمامه إنسانة في منتهى الوقاحة، أما إيف فاكتفت بتجاهل تلك النظرة، ورفعت فنجان الشاي بدورها.
“رائحة الشاي جميلة جدًا.”
“… هذا مطمئن.”
جلس الاثنان متقابلين، لا يتبادلان سوى رشفات صامتة، تملأ الفراغ بينهما أصوات الملاعق فقط. في هذا السكون، كانت إيف أول من كسر الصمت:
“هل جلالتك واثق من قرارك؟ قد يعني هذا الدخول في صراع مع عائلة لودفيغ.”
“الدوق لودفيغ شخص يفصل بين العمل والمشاعر أكثر مما يظن الناس.”
‘ما لم تتعلّق المسألة بالنساء.’
كاد يقولها، لكنه كتمها في صدره.
قبل خمسة عشر عامًا، وقعت حادثة لم يكن يعلم بها إلا قلة قليلة في البلاط الإمبراطوري.
كان الدوق لودفيغ وقتها زوجًا عاشقًا، يكرّس حياته لزوجته ما دامت على قيد الحياة. لكن تلك السعادة لم تدم طويلًا.
فقد اختُطفت زوجته، ميلين لودفيغ على يد شياطين، ثم قُتلت بطريقة مأساوية.
ومنذ ذلك الحين، لم يتعافَ الدوق من الصدمة، فأعلن اعتزاله من منصبه كـ إيلّا، وتراجع عن المشاركة في حملات إبادة الشياطين.
لكن لا بدّ أن يقوم أحدٌ بدوره، وكان ذلك الشخص ابنه باليريان، بطبيعة الحال.
استحضر زافيير تلك الذكرى، وثبّت عزيمته.
‘لا يمكن أن نسمح بتكرار تلك المأساة.’
لقد جاء الوحي مؤخرًا ليحذر من احتمال تكرار حادثة استدعاء الشياطين التي وقعت قبل مئة عام.
ولو حدث أمر طارئ للآنسة إستيلّا، ثم أعلن باليريان اعتزاله فجأة، فذلك سيعني نهاية الإمبراطورية.
‘الدوق حتمًا يدرك مقصدي.’
وبعد اعتزاله، لم يكن الدوق لودفيغ جالسًا مكتوف اليدين. بل ركّز كل جهده على توسيع نفوذ العائلة، ونجح في ذلك إلى درجة جعلت اسم عائلة لودفيغ يبلغ ذروته.
“يعلم الدوق جيدًا أن هذا الزواج سيكون لصالح العائلة، ولصالح مستقبل باليريان أيضًا. لا أظنه يرضى أن يعيش ابنه المصير ذاته.”
لم تكن إيف تعرف عن مأساة ميلين لودفيغ، لذا لم تفهم مغزى حديثه تمامًا، لكنها أومأت برأسها.
عندها، نظر إليها زافيير من جديد وعيناه تحملان تساؤلًا غامضًا أثار في قلبها شعورًا غير مريح.
“أودّ أن أطرح عليك سؤالًا واحدًا.”
“… تفضّل.”
“لماذا ترغبين بهذا الإصرار في فسخ خطوبتك من باليريان؟“
‘لماذا يسأل هذا الآن؟‘ تساءلت إيف في نفسها، ثم أجابت بوجه خالٍ من التردد:
“ألم أجبك من قبل؟ لقد تعبت من العيش كخطيبة لريان…”
“وهل العيش كخطيبتي لن يكون متعبًا؟ لن يكون هذا أقل إجهادًا.”
سارع زافيير إلى الإشارة إلى تناقض كلامها. ضحكت إيف ضحكة خفيفة محرجة، إذ لم تجد ما ترد به، فقد كان كلامه منطقيًا.
“على أية حال، مدة الخطوبة لن تتجاوز الشهرين.”
“هذا وقت قصير جدًا.”
رفض زافيير بصرامة، وأردف:
“لإقناع فاليريان بالتخلي عنك، نحتاج على الأقل إلى نصف عام.”
نصف عام؟ هذا أمر مستحيل بالنسبة لإيف. فحينها ستكون قد غادرت العاصمة، تعيش في الريف، تزرع الأرض وتبتعد عن البشر.
“هذا مستحيل تمامًا.”
“ولمَ لا؟“
“وهل من الضروري أن تعرف السبب يا صاحب السمو؟“
أصلاً، مرور ستة أشهر أمر غير وارد نهائيًا، فما الفائدة من إطلاعه على السبب؟ حين أشارت إلى ذلك، ارتسمت على وجه زافيير ابتسامة خفيفة، تشبه تلك التي ارتسمت على وجه إيف قبل قليل.
“أظنني أصبحت في موقع يسمح لي بمعرفة السبب، فأنا خطيبك القادم، كما تعلمين.”
“… أتعلم أن هذا يبدو شديد الوقاحة؟ أنا كنت يومًا ما خطيبة صديقك.”
“وكذلك أنتِ لستِ في موقف نزيه تمامًا.”
“… على أية حال، لن أقبل بنصف عام. الشهران كافيان تمامًا.”
“………”
سكت زافيير، ينظر إليها بعين هادئة، كأنه ينتظر منها أن تبرر كلامها.
“خلال شهرين، سأكون قد جعلت ريان يتراجع عن مشاعره.”
لم يتبقَ سوى أقل من شهرين على نزول يوري إلى الكنيسة الرئيسية. وكما هو الحال دائمًا، فإن الفارس الذي يحرس القديسة يتولاه تقليديًا أقوى فرسان المعبد.
ومن الطبيعي أن يتولى باليريان هذه المهمة.
وبحسب مجريات الرواية الأصلية، فإنه بعد أن يصبح فارس يوري المخصص، سيقع في حبها.
“……..”
“لا تقل شيئًا، ولكن لماذا تنظر إليّ بتلك النظرة…”
رغم كلامها، بقي على حاله دون أن يتحرك. بدا كأنه لا يصدق ما تقوله.
تنهدت إيف بخفة ثم فتح زافيير فمه أخيرًا.
“مشهدٌ مألوف… ألستِ من قالت نفس الشيء بكل ثقة في المرة السابقة أيضًا يا آنستي؟“
شعرت إيف بالانزعاج وأغلقت فمها، إذ تذكّرت كم كانت واثقة عندما تحدثت مع ولي العهد في السابق عن هذه المسألة.
“لم أكن أعلم أيضًا… أن ريان سيجلب نصف ثروة عائلته ويقدم لي شيئًا يُدعى إكسير كابيل أو ما شابه…”
راحت ذكريات ما فعله باليريان من أجلها تمرّ أمام عينيها كالشريط. ومع حديثها، بدأ شعور ثقيل يعتريها.
“عندما أتحدث بهذا الشكل… أشعر وكأنني حثالة… أو ربما أكون كذلك فعلًا.”
وضعت إيف فنجان الشاي من يدها بوجه كئيب. ولما رآها زافيير تتنهد، وضع هو الآخر فنجانه بهدوء.
ثم نظر إليها، وتردد لحظة وكأنه يفكر ثم قال أخيرًا:
“…لكلٍّ ظروفه. لا تُقصي نفسك بهذا الشكل.”
“……”
“فقط… آنستي تملكين قلبًا أكثر قسوة من غيرك، لا أكثر.”
نظرت إليه إيف بدهشة، غير متأكدة إن كان يواسيها أم يهينها.
“هل هذا عزاء… أم إهانة؟“
“عزاءٌ، بالطبع.”
لكنها لم تشعر بذلك إطلاقًا. بل راودها الشك في أنه يُهاجمها بطريق غير مباشر.
مع ذلك، كان وجهه جادًا للغاية، لدرجة جعلتها تدرك أنه يعني كل كلمة.
‘لأنه صادق، فهو أكثر إزعاجًا…’
أن يقول لها وجهًا لوجه إنها إنسانة باردة، لم يكن بالأمر البسيط.
في الرواية الأصلية، لم يكن يتحدث بهذه الصراحة الفائضة. لا تدري لماذا يتصرف بهذا الشكل معها وحدها.
“إذًا، ما علينا تحديده الآن هو موعد إعلان الخطوبة… وهو أشبه بيوم الإعدام الاجتماعي بالنسبة لك يا آنستي.”
“طالما أنني لن أُعدَم فعليًا، فلا بأس.”
قالت إيف ذلك بنظرة ثابتة نحوه.
“أتمنى أن يتم الإعلان في أقرب وقت. في النهاية، مدة عقدنا لا تتجاوز شهرين.”
“فلنقم بذلك غدًا.”
“حسنًا، نعم… ماذا؟!”
‘بهذه السرعة؟!’
أغلقت إيف شفتيها بصمت وارتباك. صحيح أنها طلبت تسريع الإعلان، لكنها لم تتوقع أن يتم الأمر بهذه العجلة.
وحين قرأ زافيير الحيرة في عينيها، تحدث بهدوء:
“غدًا هو حفل ميلاد جلالة الإمبراطور. إنه أنسب وقت لإثارة ضجة أو إعلان كبير.”
وفي تلك اللحظة، عادت إلى ذهنها كلمات باليريان في بداية السنة:
“إيف، هل ستحضرين حفل ميلاد الإمبراطور هذا العام؟“
“أكره الأماكن الصاخبة مثل تلك، لن أذهب.”
في ذلك الحين، رفضت الحضور لأن الحفلات دائمًا ما تكون مكتظة… و…
‘أفضل فرصة لصنع ضجة.’
لكن الوضع تغيّر الآن، بعد أن كُشف سرّها.
ومع انتهاء كلماته، التزمت إيف الصمت، بللت شفتيها برشفة من شاي أصبح باردًا.
“هل تخيفك فكرة الإقدام على هذا الأمر؟“
“…لا.”
لكن الحقيقة أن كلماته أصابت كبد الحقيقة.
فكرة تنفيذ الخطة بثقلها، جعلت صدرها يضيق.
إذا مضت بالأمر، فستُوجِع باليريان جرحًا لن يندمل، وقد ينتهي به الأمر إلى احتقارها.
‘لكن الأمر لا يتعلق بحياتي وحدها، بل بحياة عائلتي، وكل من يعيش تحت رعاية عائلتي أيضًا.’
كان عليها أن تتماسك وتواجه ببرود.
‘لكن لماذا يساعدني زافيير أصلاً؟‘
هو أيضًا، كفاليريان، يُعلي من شأن الثقة بين الناس.
ومع ذلك، وافق على عرضها دون تردد… وهذا ما كان يثير الريبة.
‘هل هناك سبب يمنعه من السماح باستمرار علاقتي مع باليريان؟‘
تساءلت إيف فجأة عمّا يخفيه.
لا بد أن هناك سببًا عظيمًا خلف هذا الإصرار على تفريقها عن باليريان.
لكن حتى لو سألته، لن يجيب.
تعرف إيف جيدًا من هو زافيير. رجل مغلق القلب، يحافظ على مسافة بينه وبين الجميع.
والوحيدة التي استطاعت اختراق هذا الجدار كانت يوري.
بطلة الرواية الأصلية، التي ستحلّ في الكنيسة بعد أقل من شهرين.
حينها، ربما يندم زافيير على هذه الخطوبة.
لقد كان يعشق يوري بجنون. حتى أن الكثير من القرّاء راهنوا على زافيير.
لكن تلك الآمال باتت علي وشك الأنهيار…
أما هي، فقد راهنت بكل ثقة في باليريان.
فمنذ البداية، كان شخصًا مشرقًا ومحببًا، وهو ما ناسب ذوقها تمامًا.
ولهذا ألححت إيف على الخطوبة منه بمجرد أن التقيت به.
الآن وهي تتذكر، لا شك أن باليريان كان في موقف محرج. فتاة غريبة تطلب الخطوبة فور لقائهما الأول.
أي رجلٍ آخر كان سيرفض دون تردد.
‘لكن لماذا قبل بالأمر، بحق خالق السماء؟!’
‘أنت لست من هذا النوع!’
وهذا ما قادها إلى هذا المأزق.
‘لو أنه رفض من البداية، لما وصلت الأمور إلى هذا الحد.’
‘في الرواية الأصلية، لم يُذكر قط أن له خطيبة قبل يوري!’
كلما فكرت بالأمر أكثر، زادت قناعتها بأن القصة خرجت عن مجراها.
“آه، سيكون ذلك أيضًا حفل ظهورك الرسمي إلى المجتمع يا آنستي.”
وفي عيني زافيير الخضراوين، لمعت مشاعر معقدة.
“…وقد تتعرضين هناك لأمور مزعجة. هل أنتِ واثقة من قرارك؟“
“لن أموت بسبب ذلك.”
“لكن في المجتمع المخملي، هذا بمثابة الموت—”
“جلالتك، لقد أخبرتكم مسبقًا. أنا لا أخاف من الإدانة أو الشتائم، ما أخشاه حقًا هو الموت.”
“……”
بدأ زافيير يشعر أن كلماتها تحمل معنىً خفيًّا.
كأنها تقول… إنها ستموت إن بقيت إلى جانب باليريان.
لكنه سرعان ما اعتبرها مجرد هواجس.
‘أن تموت بالقرب من باليريان؟ هذا هراء.’
‘ليست شيطانة بعد كل شيء.’
‘والشياطين لا يهتمون بمشاعر البشر بهذا الشكل.’
الشياطين الذين يتخفون في هيئة بشر، تختلف طبيعتهم كليًا. لا يملكون ذرة من الشعور بالذنب حين يؤذون الآخرين لتحقيق رغباتهم.
قد يكون بين البشر من يشبههم…
لكن المرأة التي أمامه، تخشى إيذاء باليريان، حتى ولو بكلمة.
“حسنًا، إذًا أراكِ غدًا.”
ثم وضع فنجانه جانبًا، وابتسم بخفة وهو يغلق عينيه بهدوء وأناقة.
ترجمة : سنو
انستا : soulyinl
واتباد : punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 19"