“إذن… كيف حاله الآن؟“
كان أمام إيف الآن هيليوت، رفيق باليريان في المهمة الأخيرة.
لقد كان أحد الفرسان المقدّسين الذين اعتادوا الوقوف لحراسة الكنيسة في كل مرة كانت تذهب فيها، لذا كان وجهه مألوفًا لها جدًا.
عندما أخبرها بأنه جاء لينقل لها أخبار باليريان، شعرت بجسدها يبرد فجأة، ووجهها أصبح شاحبًا.
‘لا يكون باليريان قد…’
‘أصابه شيطان؟‘
راودها هذا الاحتمال المرعب، ولم تستطع التفكير في أي شيء آخر.
لكن الخبر الذي سمعته بعد ذلك لم يكن عن وفاته، ولحسن الحظ، كان لا يزال حيًّا.
“حالته ليست جيدة. بعض أضلاعه مكسورة وقد تعرّض لسمّ أحد الوحوش وفقد وعيه.”
يبدو أن إصابته كانت خطيرة.
كادت إيف تقول دون تفكير إنها ستذهب معه إلى الكنيسة، لكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة، وأغلقت شفتيها.
‘لو ذهبت الآن… فكل ما فعلته من قبل لن يكون له معنى.’
فقد كانت طوال الوقت تدفعه بعيدًا، ولو ذهبت إليه الآن فستبدو كأنها تتراجع عن كل شيء.
‘فاليريان قوي… سيستعيد عافيته من هذا النوع من الإصابات.’
قالت بصوت هادئ لـ هيليوت:
“أخبره أنني أتمنى له الشفاء السريع، وأن يكون بخير.”
“…لن تذهبي لرؤيته؟“
نظر إليها هيليوت بذهول.
فلو كانت إيف كما يعرفها، ما كانت لتبقى هنا بينما باليريان طريح الفراش. لم يكن هذا ما توقّعه.
بل حتى حين مرضت هي ذات مرة، ألم يذهب القائد بنفسه ليحضر لها دواءً نادرًا لا يُقدّر بثمن؟
ومع كل ما بينهما من مواقف مؤثرة… كانت كلماتها الآن باردة بشكل يصعب تصديقه.
تردده جعل إيف تُنهي الحديث بنفسها.
“نعم، لا أرى أي سبب يجعلني أذهب الآن. إلى اللقاء يا هيليوت. واعتنِ بنفسك هناك.”
ثم أغلقت باب غرفتها من الداخل. كانت متوترة لدرجة أنها أغلقته بسرعة، وقلبها يخفق بعنف.
فذلك الباب الذي أغلقته الآن… لم يكن مجرد باب.
بل كان إعلانًا بأن علاقتها مع باليريان قد انتهت بالكامل.
وربما… لن ترى حتى وجه هيليوت مجددًا.
* * *
“إذًا… على ما يبدو، لا بد أن الآنسة إيف إستيلّا كانت منشغلة بأمر عاجل.”
قال هيليوت الذي وصل لتوّه إلى الكنيسة، وهو يهرش رأسه بارتباك ويحدّث باليريان عن غياب إيف.
كان يحاول التخفيف من وقع الأمر بالتلميح إلى أن لديها عذرًا قاهرًا، لكن المعنى كان واضحًا تمامًا:
رغم معرفتها بإصابة خطيبها، لم تأتِ لرؤيته.
حتى هيليوت، الذي لا علاقة له مباشرة بالأمر، فهم أن العلاقة بينهما تمرّ بأزمة حقيقية.
“… إذًا، أتمنى لك الراحة، سيدي القائد.”
قال ذلك بسرعة وغادر غرفة العلاج، بعدما لاحظ ملامح باليريان المتجمّدة من شدة البرود شعر أنه قال ما لا يجب قوله.
بقي باليريان وحده ووجهه لا يُظهر أي علامة لانفراج.
لقد فهم تمامًا ما كانت إيف تحاول إيصاله.
“فلننهِ كل شيء هنا يا باليريان.”
كأن صوتها كان يتردّد بوضوح ويزعج أذنيه.
في تلك اللحظة، ذاب الشاش في يده فجأة، بفعل طاقته التي انفلتت دون وعي.
قوة الشمس إيلا ليست في الأصل قوة نار، بل تُجسّد حرارة الشمس نفسها، ولهذا فإن استخدام هذه القوة يجعل معظم الأشياء تذوب وتختفي بسرعة. باستثناء السيف المقدّس.
“وهذه هي القوة التي قيل إنها خُلقت لتنقذ الناس؟“
ابتسم بمرارة.
منذ صغره، كان الناس يمدحون قوّته الفريدة.
في البداية، ظنّ أنها نعمة عظيمة.
“لقد وُلد السيد الشاب بقوة قادرة على إنقاذ العالم!”
كانوا يردّدونها بثقة.
وحين بدأت تلك القوة تظهر فعليًا، بدأت الحيرة تتسلل إليه.
ففي كل مرة يغضب، كانت الأشياء من حوله تذوب بحرارة تلك الطاقة.
حينها بدأ يسأل نفسه.
‘أهذه قوّة للإنقاذ؟ أم للهدم؟‘
وهكذا، راح يضيع بين ما يقال له وبين ما يراه بنفسه من قوّته المدمّرة.
لكن كل ذلك تغيّر بعد أن التقى بإيف.
لم تحبّه لأنه بطل أو صاحب قوة عظيمة. لم تضع له أسبابًا عظيمة لتبرير حبها.
بل كانت تحبّه كما هو.
كانت تشجّعه مهما فعل.
‘أنا حقًا أحبك يا ريان… حتى قوتك هذه، أحبها أيضًا.’
‘إنها تشبهك، دافئة مثلك تمامًا.’
كانت تفتخر به أكثر مما يفتخر بنفسه، كلما عاد من قتال ضد الشياطين.
بفضلها، بدأ يشعر أن ما يفعله ليس واجبًا فقط، بل شيئًا يحبه ويؤمن به.
وصار مع الوقت يرغب بأن يصبح الرجل الذي تريده وتثق به.
لأجلها، حاول أن يكون لطيفًا مع الجميع، وأن يعيش بشخصيّة دافئة ومشرقة.
ومع الوقت، بدأ يظن أنه امتلك أخيرًا شيئًا يخصّه، شيئًا يُعبّر عنه.
لكن كل ذلك بدأ ينهار فجأة…
تمامًا قبل حوالي شهر.
“……..”
وبينما كان غارقًا في ذكرياته، وهو يعضّ شفته بصمت، سُمع طرق على الباب، ودخل أحدهم.
بسرعة التفت باليريان نحو الباب، وظن للحظة أن إيف قد جاءت. لكن ما إن رأى من هو حتى خف بريق عينيه.
لم تكن إيف.
“هل أنت بخير؟“
كان القادم هو زافيير، صديقه المقرب.
كان زافيير يعمل في القصر، وعندما سمع أن الشياطين ظهرت في الغابة القريبة، توجّه فورًا إلى مقر قيادة الجيش الإمبراطوري.
ظنّ أن الأمور ستُحل بسرعة، خصوصًا بعد أن علم أن باليريان خرج بنفسه.
لكن بعد فترة قصيرة، سمع بخبر إصابته الخطيرة.
في البداية، لم يصدق.
“باليريان أُصيب؟! مستحيل!”
ذلك الشخص الذي كان منذ صغره يتمتع بقوّة مذهلة وردود فعل خارقة وبنية جسدية لا تقل عن الوحوش…
كان من الصعب تصديق أن مخلوقًا شيطانيًا تمكّن من إصابته.
لكن عندما رآه بنفسه، لم يعد بإمكانه الإنكار.
“سمعت أنك أُصبت خلال معركة في غابة ديلرينو في وقت متأخر من الليل… يبدو أن الأمر كان أسوأ مما توقعت.”
“ليست إصابة كبيرة. سأتعافى خلال أسبوع، فلا داعي للقلق.”
أجابه باليريان وهو ينظر إليه بنظرة هادئة، وكأن إصابته لا تعنيه.
ظل زافيير يحدّق به قبل أن يقول:
“هذه الإصابة لا تشبهك أبدًا… ما الذي حصل بالضبط؟“
نظر إليه باليريان للحظة، لكنه لم يجب.
وصمته هذا… كان كافيًا لزافيير ليفهم.
فطالما لم يكن يُظهر التردد أو الحزن إلا عندما يكون الأمر متعلقًا بإيف.
أغمض زافيير عينيه، وكتم تنهيدة ثقيلة.
ثم نظر إلى صديقه بنظرة أكثر جديّة من أي وقت مضى.
“باليريان، حتى إن كانت الظروف من حولك سيئة، لا يجوز أن تنسى ما يجب عليك فعله. أنت تمسك بمصير شعب الإمبراطورية بين يديك.”
كان إيلا هو أول من امتلك قوة الشمس “إيل“.
قبل أكثر من مئة عام، حين غزا الشياطين الإمبراطورية، لو لم يتدخل إيلا في ذلك الوقت، لكانت الإمبراطورية قد سقطت بالكامل في أيديهم، وما كنا لننعم بالسلام الذي نعيشه اليوم.
تلك الأحداث الجهنمية دوّنت بوضوح في كتب التاريخ.
قبل خمس سنوات، حين اختير زافيير وليًا للعهد، قرأ في مكتبة القصر الخاصة بولي العهد نسخة نادرة من كتب التاريخ، تختلف عن باقي الكتب المتداولة.
كانت تحكي عن حادثة استدعاء الشياطين قبل قرن، وفيها وُصفت بالتفصيل جرائم القتل والتعذيب الوحشية التي ارتُكبت آنذاك.
تذكّر زافيير شعوره حين قرأها لأول مرة، وكان وجهه قد شحب حينها.
ومنذ ذلك الحين، كان مقتنعًا تمامًا بضرورة ضمّ عائلة دوق لودفيغ بالكامل إلى صفوف فرسان الإمبراطورية.
لأن ذلك كان واجبًا لا مفرّ منه، يقع على عاتق كل من عليه مسؤولية حماية هذا الشعب مستقبلاً.
لم يأتِه رد.
كان باليريان غارقًا في صمته، وهذا الصمت بدأ يخنق زافيير من الداخل.
كان يريد أن يقول له: “تخلَّ عن تلك الفتاة التي تُضعفك“،
لكنه لم يستطع التفوّه بكلمة.
لو قال ذلك الآن، فلن يكون سوى اعتراف ضمني بأن زافيير ولي العهد، كان له يد في قرار إيف بإنهاء علاقتها.
‘يبدو أن كسور أضلاعه قد مرّ عليها وقت،‘
تذكّر زافيير ما قاله الطبيب الذي فحص باليريان منذ قليل.
“باليريان، كيف أصبت بكسور في أضلاعك؟ فقط أجبني على هذا وسأرحل.”
لم يكن باليريان مهتمًا بأسئلته، لكنه أجاب على مضض:
“سقطت عن ظهر الحصان.”
“أنت؟ تسقط عن الحصان؟“
“…لا.”
ثم صمت، مما دفع زافيير للقول وقد بدأت الشكوك تساوره:
“هل كانت الآنسة إستلّا؟“
“أنت أذكى مما توقعت يا زافيير.”
لأول مرة، التفت باليريان إلى زافيير، وكان في عينيه بريق حاد، فأكمل زافيير حديثه:
“كيف سقطت عن الحصان؟ لا أذكر أني سمعت من قبل أنها تجيد الفروسية.”
لم تكن إيف من النوع الذي يحب ركوب الخيل، أو هكذا بدت له.
“فجأة غمر المطر غابة ديلرينو، فاضطررنا إلى ركوب الخيل للخروج منها.”
“صحيح، حصل ذلك. كان أمرًا غريبًا أن تُغرق المياه الغابة فجأة…”
تذكّر زافيير الأخبار التي وردت من غرفة القيادة عن تغيّرات الطقس الغريبة، تزامنًا مع ظهور الشياطين.
الأحداث كانت كلها غير مفهومة.
ثم عاد إلى صلب الموضوع.
“إذاً، تقول إن الآنسة إستلّا هي من سقطت عن الحصان، وأنت أصبت عندما أمسكت بها، أليس كذلك؟“
أومأ باليريان برأسه، فشعر زافيير بالذهول.
“وهكذا، وبجسد مصاب، خضت معركة ضد الشياطين؟“
“هذا واجبي في النهاية.”
“باليريان، جسدك لم يعد ملكك وحدك. فكّر بالإمبراطورية.”
حدّق باليريان في عيني زافيير بصمت، وفي تلك النظرة فهم زافيير أن كلامه لا فائدة منه.
لم يكن هناك من هو أكثر تعلقًا بـ إيف من هذا الرجل.
“…كنت أظن أن إيف ستأتي لرؤيتي.”
قالها وهو يبتسم بمرارة، ثم استلقى مجددًا على السرير.
“لو كنت أعلم أن الأمر سينتهي هكذا… لما تركت جانبها أبداً.”
صمت زافيير.
لقد فهم ما يعنيه باليريان جيدًا.
لقد دخل ساحة القتال وهو مصاب، فقط لأنه كان يظن أن إيف ستقلق عليه وتأتي إليه.
وبالتالي، من المحتمل أن إصابته أثناء قتاله مع الشيطان كانت متعمدة.
‘كنت أعلم أن باليريان لا يمكن أن يُهزم على يد مخلوق تافه كهذا،‘
تأمل زافيير صديقه الملقى أمامه بنظرات مشوشة، وأدرك شيئًا واضحًا:
صديقه فقد صوابه بسبب خطيبته.
لم يكن أمامه خيار، سوى أن يعيد النظر بجدية في فكرة الخطوبة المزيّفة التي اقترحتها الآنسة إستلّا.
ترجمة : سنو
انستا : soulyinl
واتباد : punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 18"