في تلك الليلة.
عندما نقل الجاسوس الذي أُرسل لمتابعة إيف الخبر، تجمدت ملامح باليريان ببرود. ثم بدأ يسترجع ببطء ما قاله الجاسوس.
“دير الراهبات أنثيا؟“
“نعم، يبدو أنها أمسكت بإحدى الراهبات هناك وسألتها عن شيء ما.”
“ماذا سألتها؟“
“لم أتمكن من سماع ذلك. لو اقتربت أكثر كان هناك خطر أن تكتشفني الآنسة…”
أطبق باليريان شفتيه بصمت، بينما كان جاسوسه كاليب يراقب الدوق الصغير بحذر.
لقد تعرف على الدوق الصغير منذ عشر سنوات.
كاليب الذي ينحدر من جماعة “الصقر الأسود” المكلّفة منذ أجيال بأن تكون ظل وريث عائلة لودفيغ، التقى بالدوق الصغير بهذا السبب.
منذ صغره لم يكن يفصح عن مشاعره بسهولة حتى لمقربيه.
وعدم إظهار المشاعر كان يعني أيضاً عدم الاضطراب.
لكن هذه المرة كانت مختلفة.
فهي المرة الأولى التي يرى فيها الدوق الصغير يتزعزع بهذا الشكل.
جثا كاليب على ركبتيه بهدوء منتظراً الأوامر التالية.
“ظهر أمر عاجل يجب أن أتحقق منه. انتظر إلى أن تصدر التعليمات القادمة.”
“حاضر.”
أنهى باليريان تفكيره وتوجه بخطى سريعة نحو مكتب رئيسة الكهنة.
كانت أرييل تقرأ الإنجيل مرتدية نظارة أحادية العدسة، وعندما رأت باليريان يزورها في هذا الوقت من الليل، أشرق وجهها بسعادة.
“باليريان! جئت في الوقت المناسب!”
كان باليريان على وشك الدخول في صلب الموضوع، لكنه توقف عند كلمات أرييل.
“هل هناك أمر ما؟“
كادت تخرج من فمها عبارة: “هل هذا له علاقة بإيف؟“، لكنها كتمتها.
“هل فعلاً حدث شيء لإيف؟“
جعلته هذه الفرضية يتصلب من القلق وانتظر رد أرييل بعينين مشدودتين بالتوتر.
“إنها أخبار سعيدة جداً. كنت أود أن أخبرك بها أولاً ما إن سمعتها، لكن انتهى بي الأمر بتأخير ذلك حتى الآن.”
شعر باليريان براحة كبيرة داخله بعدما تأكد أنها ليست أخباراً سيئة.
بل إن ذلك يعني أنه لا يوجد ما يدعو للقلق بشأن إيف.
“قبل أيام، نزل وحي من السماء.”
“…وحي؟! تقولين نزل وحي؟“
بدت على باليريان ملامح دهشة نادرة، وهو يحدق بأرييل.
منذ مئة عام، حين تم استدعاء شياطين من العالم السفلي عبر دائرة سحرية ضخمة ظهرت في قلب العاصمة، توقف نزول الوحي تمامًا.
ومنذ ذلك الحين، بدأ الناس يتناقلون همسًا أن الحاكم قد تخلى عن البشر، مما أدى إلى تدهور مكانة الدولة المُقدسة بالكامل.
لو لم تُدرك العائلة الإمبراطورية التي كادت أن تسقط معها الإمبراطورية خطورة الوضع وتُبادر بدعم الدولة المقدسة، لما كانت الدولة المقدسة موجودة الآن.
وهكذا الكنيسة التي لم يتبقّ منها سوى العظام، نهضت من جديد على يد رجل واحد.
‘دييغو لودفيغ‘ الذي كان يُمتدَح بكونه الأقوى بين جميع من حملوا لقب “إيلا” عبر الأجيال.
وابنه باليريان لودفيغ امتلك قوة تفوق حتى قوة والده.
واهتزت الإمبراطورية بأكملها حماساً.
لقد وُلد بطل في زمن الفوضى، فعادت الكنيسة لتحتل موقعًا قويًا من جديد.
ولو ظهرت القديسة الآن، فستتمكن الدولة المقدسة من استعادة مجدها القديم بالكامل.
“إنه أول وحي منذ مئة عام.”
أدرك باليريان حينها سبب حماسة رئيسة الكهنة أرييل الواضحة منذ البداية.
“نعم، يبدو أن إخلاصنا وصل أخيراً إلى الحاكم.”
“وما مضمون الوحي؟“
“قيل إن القديسة ستنزل قريباً.”
“تقصدين بـ القديسة تلك المختارة من قبل الحاكم؟“
تفاجأ باليريان قليلاً من حقيقة أن القديسة التي لم يكن يعرفها سوى من الإنجيل وكتب التاريخ ستظهر فعلاً.
حتى في الحادثة قبل مئة عام، كانت هناك قديسة لكنها عادت إلى عالمها الأصلي بعد أن استُدعي الشيطان.
“نعم، وربما يكون هذا الوحي نذيراً بأن كارثة ما ستحل بالبشر مجدداً.”
“…هذا تفسير ممكن أيضاً.”
“لذا يا باليريان، لا تهمل تدريباتك حتى قدوم القديسة. أليس مرض إيف قد شُفي تماماً الآن؟“
“…مفهوم.”
أومأ باليريان برأسه.
ورغم أن ملامحه أظهرت بعض الدهشة، فإنه لم يشارك أرييل فرحتها.
لكن أرييل، وقد كانت غارقة في النشوة لفكرة نزول الوحي، لم تلاحظ ذلك مطلقاً.
“سأنصرف الآن، يا رئيسة الكهنة.”
وعندما خرج باليريان من غرفة رئيسة الكهنة، كانت على وجهه ابتسامة مرسومة كما لو كانت جزءاً من لوحة.
ابتسامة هادئة يظهرها دائماً للناس.
وأرييل، الذي لم يعرف حقيقتها، راقب ظهره برضا قبل أن يميل برأسه قليلاً متعجباً.
“أوه، بالمناسبة… لماذا جاء باليريان في مثل هذا الوقت؟“
في تلك الأثناء، كان باليريان يسير ببطء في الممر بعد مغادرته مكتب رئيسة الكهنة.
في الحقيقة، كان يعتزم سؤال أرييل عمّا إذا كان قد تم تسجيل راهبة جديدة مؤخراً في دير أنثيا.
لكن بخلاف البابا، كانت رئيسة الكهنة شخصًا يفصل بصرامة بين الأمور الشخصية والرسمية.
‘هل عليّ أن أذهب لرؤية البابا؟‘
لكن البابا على الأرجح منشغل الآن بالتقلب في فراشه بصحبة النساء، ولم يكن باليريان يرغب في رؤية ذلك بعينيه.
لم يكن يريد أن يلطخ عينيه بمشاهد قذرة كتلك.
‘سأضطر للتحقق بنفسي.’
تألقت عيناه الزرقاوان هذه المرة بحدة غير مألوفة.
وقد توجهت قدماه نحو الإسطبل دون وعي منه.
بعد بضع ساعات.
“ا–الأمر هو…”
فلور التي كانت راهبة عادية في دير أنثيا، وجدت نفسها في موقف محرج للغاية
والسبب كان أحد الفرسان الذين زاروا الدير.
ارتجفت يداها وهي تصرخ:
“…حتى لو كنتَ قائد فرسان الكنيسة الرئيسية، لا يمكنني تسليمك قائمة الراهبات الجدد بهذه السهولة!”
كانت قد لاحظت أن الدير الذي اعتاد أن يكون هادئاً صباح كل يوم، بدا صاخباً بشكل غير معتاد هذا اليوم.
والسبب كان أن أحد أشهر الشخصيات بين المؤمنين قد زار ديرهم فجأة.
بل ويُقال إنه يبحث عنها تحديداً.
‘لم أكن أريد لقائي معه أن يتم بهذه الطريقة!’
نظرت فلور بعينين قلقتين نحو اللورد لودفيغ الواقف أمامها.
كان يطلب منها الاطلاع على قائمة أسماء الراهبات الجدد.
تذكرت فلور الحوار الذي توسّلت إليها فيه إيف إستيلّا بشدة ليلة البارحة.
“أختي، أرجو أن تُبقي هذا الأمر سرًّا، وبالأخص عن اللورد باليريان لودفيغ.”
“لماذا؟ أليس من المفترض أن يكون هو أول من يُبلَّغ؟“
“أُفضّل أن أخبره بنفسي.”
كانت الفتاة التي تشبه الجنيّات تحدّق بها وأهدابها ترتجف بلطف.
عيناها الياقوتيتان المملوءتان بالدموع تتوسلتها أن تحفظ هذا السر.
“ستفعلين ذلك… أليس كذلك يا أختي؟“
“بالطبع، سأُبقيه سرًّا، أعدكِ بذلك يا أختي العزيزة.”
في اللحظة التي رأت فيها تلك النظرة، عقدت فلور العزم.
أنها ستحافظ على ذلك الوعد مهما كلفها الأمر.
“أنا آسفة يا سيدي الفارس. يمكنني تسليم قائمة الراهبات الرسميات، لكن قائمة الراهبات المستجدات محظورة لأسباب أمنية!”
“أمر يصعب عليّ فهمه.”
مرّت ابتسامة باردة على شفتي باليريان. وشعرت فلور بقشعريرة جليدية تسري في جلدها.
كان الجميع يتحدّث عن ذلك الفارس، ووصفوه دومًا بدفء الشمس.
لكنّ اللورد لودفيغ الواقف أمامها الآن، لم يكن فيه شيء من ذلك الدفء.
بل كان أشبه بعاصفة جليدية في ذروة الشتاء.
عيناه الزرقاوان وهما تحدّقان بها كانتا أبرد من الجليد وأحدّ من النصل.
“وإن كان بين تلك الراهبات المستجدات جاسوس، هل ستتحملين أنتِ المسؤولية؟“
“م–ماذا تقول؟ جاسوس؟!”
سألت فلور، وقد تملّكها الرعب، لم تفهم أبدًا ما يقصده أو أيّ جاسوس يعني.
“أعني أولئك الذين قد يُلحقون الأذى بالإمبراطورية، على سبيل المثال.”
“هـ…هذا أمر لا يُعقل! لا يمكن أن يكون شيء كهذا في دير أنثيا!”
وبينما أظهرت فلور رد فعلٍ دفاعيًا، خفّت حدة تعبير باليريان قليلاً.
“وأنا أيضًا أرجّح ذلك، لكن وصلتنا بلاغات مجهولة المصدر. ولهذا أطلب رؤية القائمة.”
قال ذلك بنبرة لطيفة، كما لو أنه يحاول إقناعها بهدوء.
“أ…أرجو الانتظار للحظة فقط.”
بعد صراع طويل في داخلها، أومأت فلور برأسها وغادرت.
بينما كان ينظر إلى ظهرها وهي تبتعد، صار وجه باليريان خاليًا تمامًا من التعبير.
فكلّ النظرات والكلمات التي صدرت منه لتلك الراهبة قبل قليل، كانت جزءًا من حساباته.
“ما الذي تفكرين به، يا إيف؟“
هذا السؤال وحده كان يشغل باله. كان متأكدًا أن امتناع الراهبة عن تسليمه القائمة بسهولة يعود إلى طلب من إيف.
ومنذ وقتٍ ما، صار عاجزًا عن فهم دواخلها كما كان من قبل، على الرغم من صدقها الدائم سابقًا.
بعد قليل، عادت فلور وهي تحمل القائمة، وقد بدا على وجهها الحرج الشديد وقدّمتها له.
أخذ باليريان القائمة وبدأ يطالعها ببطء.
كانت عيناه الزرقاوان أكثر حذرًا وهدوءًا من أي وقتٍ مضى.
وحين وصل إلى الاسم الأخير في أسفل الورقة… عثر على اسم مألوف للغاية.
اسمٌ لم يكن يجب أن يظهر هنا أبدًا.
“إيف إستيلّا.”
ما إن وقعت عيناه على ذلك الاسم حتى اضطربتا بشدّة، كما لو كان قاربًا في خضمّ عاصفة عاتية.
ودون أن يشعر، قبض باليريان على الورقة بكل قوته.
شعر وكأن قلبه قد تجمّد.
* * *
بعد عدة أيام عندما وصلته الأخبار، انتفض الكونت إستيلّا غاضبًا ووبّخ إيف.
“إيف! أتريدين الهروب من النمر بالدخول إلى عرينه؟!”
لكن إيف لم تُعر كلامه أي اهتمام.
كانت الكونتيسة ونواه يحدقان بها بصمت، ثم لم ينفكا عن التنهد.
فقد أدركا منذ زمن أن لا فائدة من النقاش حين تتخذ إيف قرارها.
“لذا سأذهب إلى الكنيسة الرئيسية اليوم أيضًا. لا بد أن أتصرف مؤقتًا وكأنني مؤمنة متدينة.”
قالت ذلك ثم نهضت من مكانها.
“وغدًا أيضًا عليّ الذهاب.”
“إييف…!”
تجنبت والدها الذي كان يحاول الإمساك بذيل تنورتها، ثم ركبت العربة وهي شاردة تحدّق من النافذة.
‘اليوم… سينتهي كل شيء فعلاً.’
بحسب ما قالت الراهبة فلور، فإن الأمر لا يستغرق أكثر من أسبوع لتصبح راهبة رسمية.
واليوم هو تمامًا اليوم السابع.
عندما استرجعت ماضيها لم تشعر إلا بالذنب تجاه باليريان.
وحين وصلت إلى الكنيسة الرئيسية، فوجئت بإيجاد باليريان بانتظارها مسبقًا.
“كيف عرفت أنني سأأتي وخرجت لتنتظرني؟“
اقترب منها وساعدها على النزول من العربة وهو يجيب:
“أنتِ تأتين في هذا الوقت كل يوم مؤخرًا.”
كان باليريان يبتسم بصفائه المعهود، مثل ضوء الشمس النقي. نظرت إليه وفكرت:
“نعم… ريان سيتفهم قراري حتمًا.”
ثم استجمعت شجاعتها، وقالت له:
“في الحقيقة… لدي شخص آخر الآن.”
لم تستطع أن ترفع عينيها إليه، وظلّت نظراتها تدور ما بين الأرض والفراغ.
“… من؟“
سألها باليريان بصوت منخفض وهادئ.
فأدركت إيف أنه أكثر هدوءًا مما توقعت، فشعرت بالارتياح.
“إنه الحاكم.”
ثم تابعت حديثها وفق ما كانت تخطط له تمامًا في ذهنها:
“بعد ما مررت به مؤخرًا، أدركت كم كنت أعيش مغمورة بنِعَمه دون أن أشعر.”
لكن الحقيقة كانت مختلفة تمامًا.
فحين أدركت أنها ساحرة، كان أول من لامتْه في قلبها هو الحاكم.
وحتى الآن، كلما تذكرت ذلك، تشعر وكأنها تائهة عن الواقع.
أغمضت عينيها ببطء.
“وحين مُنحتُ حياة جديدة، أدركت أن هذا هو الطريق الذي كُتب لي أن أسلكه.”
“… إيف.”
عندما ناداها باليريان، قاطعته.
وهذه المرة، واجهت عينيه بشجاعة.
“… لذلك، لننهِ الأمر بيننا يا باليريان.”
ترجمة : سنو
انستا : soulyinl
واتباد : punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 13"