رغم التناقض الظاهر بين هاتين الكلمتين، لم يكن هناك وصف أنسب من هذا لتجسيد الأجواء في قصر الدوق لودفيغ.
أما باليريان، الذي لم يكن يعلم أن إيف سمعت حديثه مع نفسه، ولا أن ولي العهد قد أرسل لها رسالة، فكان يشعر وكأنه يسير فوق طبقة رقيقة من الجليد تغطي سطح بحيرة.
“إيف، هل حدث شيء؟“
‘ترى، هل وقع أمر ما أثناء غيابي؟‘
لم يجد ياليريان بُدًّا من التفكير في هذا الاحتمال.
“لا. لم يحدث شيء.”
أجابت إيف بوجهها الهادئ المعتاد، إلا أن الدفء قد اختفى تمامًا من ملامحها، حتى إنه لم يكن له أثر. ولم يكن من الممكن أن يفوته ذلك.
ومنذ تلك اللحظة، لم يستطع باليريان أن يتناول طعامه براحة.
شعور بارد كالإبر تسلل إلى صدره، وقشعريرة خفيفة اعترته.
بعد انتهاء الوجبة.
وبينما كانت إيف قد خرجت لبعض الوقت، استدعى باليريان كبير الخدم إلى مكتبه وبدأ في استجوابه:
“هل حدث شيء في القصر أثناء غيابي؟“
“كنت على وشك رفع تقرير بذلك يا سيدي. قبل عشرة أيام، زارنا السير أوين ماتياس.”
“أوين ماتياس؟ ولماذا جاء؟“
أوين ماثيس لم يكن متزوجًا، وفور سماعه الاسم، ومضت شرارة خفية في عيني باليريان الزرقاوين.
وبينما كان يسأل، شعر باليريان أن هناك أمرًا غير منطقي.
فهو نفسه من أرسل باليريان إلى المملكة المُقدسة، فكيف يُعقل أن يرسل أوين رسالة إلى قصر الدوق ليبلّغه بأمر يعرفه مسبقًا؟
“لا يا سيدي. بما أنه لم يُترك أي خطاب لك، يبدو أن الغرض من الزيارة كان يخص السيدة.”
‘كما توقعت.’
ذلك الجواب أثار في صدر باليريان شعورًا بالاختناق.
زافيير لو هيليوس…
صديقه المقرب، لكنه أيضًا الشخص الذي تظاهر ذات يوم بخطوبة كاذبة مع إيف.
لم يكن باليريان قادرًا على نسيان تلك الحقيقة.
‘حتى لو كان التقبيل حينها تمثيلًا فقط…’
بمجرد تذكره لما جرى، بدأ الغضب يغلي في أعماقه.
لقد علم أن زافيير لم يتواصل مع إيف أبدًا بعد زواجها من باليريان، كما لو أنه اختفى تمامًا.
لكن أن يرسل لها رسالة بينما هو في المملكة المُقدسة، وكأنه ثعبان يتسلل من تحت الأعين؟
“وأين الرسالة؟“
“السيدة تحتفظ بها يا سيدي.”
وما زاد الطين إلا بلّة… كيف لم تتخلص منها؟!
امتلأ صدر باليريان بالضيق، فنهض من مقعده وغادر المكتب على الفور.
كان يعرف جيدًا المكان الذي تحتفظ فيه إيف بأشيائها.
صحيح أنهما زوجان، لكن أن يعبث أحدهم بممتلكات الآخر دون إذن… أمر لا يُغتفر.
…أو ربما يُغتفر.
لم يكن في نظرات باليريان حينها ذرة من أصبح عاقلًا. وما إن دخل غرفة النوم، حتى توجّه مباشرة إلى الطاولة الجانبية المصنوعة من خشب الماهوغني بجوار النافذة.
طن.
أو على الأقل، حاول فتحها… لكنها كانت مقفلة.
اهتزت يده للحظة في الهواء.
‘لم تكن تُقفلها من قبل.’
حينها، بدأ الشك ينمو في أعماقه كجذر خفي.
في العادة، كان سيسألها مباشرة، لكن هذا الصباح تصرّفت وكأن شيئًا لم يحدث.
وذلك التباين زاد من غرابتها… بل بدا له أن من الأفضل أن تُبدي غضبها علانية بدلًا من هذا الصمت المريب.
وسط دوامة أفكاره، سُمع صوت طرق على الباب.
توقّف… وجمدت يده في مكانها.
“سيدي، السيدة قد عادت.”
كان قد طلب من كبير الخدم أن يراقب تحركاتها مسبقًا.
لم يكن هناك وقتٌ كافٍ، فبما أنه لم يجد المفتاح، لم يبقَ أمامه سوى أن ينهض خالي الوفاض.
وفي تلك اللحظة، انفتح الباب فجأة.
“باليريان، ماذا تفعل هناك؟“
سألته إيف وهي تحمل ملفًا بيدها. وكان منظره، واقفًا على نحو مريب أمام الطاولة الجانبية، كافٍ ليبدو مشبوهًا لأي ناظر.
رمقته بنظرة مليئة بالشك.
عندها شدّ باليريان شفتيه معًا بصمت.
كاد لسانه ينطق بالحقيقة…’بأنه لا يعرف من الذي يجب أن يشك في الآخر الآن.’
‘صحيح… لا يُمكن أن تكون إيف قد فعلت هذا.’
ظل باليريان يهمس لنفسه بهذه العبارة مرارًا، وكأنه يحاول أن يغسل بها عقله عشر مرات ليقنع نفسه.
لكن بينما كانت تنظر إليه بصمت، خفضت إيف عينيها.
مرّت مشاعر كثيرة في عينيها الحمراوين، كأنها تنقّبت داخل قلبها.
ثم، كما لو أنها اتخذت قرارها أخيرًا، فتحت فمها:
“حسنًا، لا داعي لأن تجيب عن سؤالي.”
“…إيف.”
“لكن، أجبني عن هذا على الأقل.”
كان في نظراتها وضوحٌ مؤلم، حادٌّ إلى حدٍّ يثير القلق.
“هل تأخرت حقًا بسبب مسألة تنازل الإمبراطور عن العرش؟“
“ما هذا الكلام المفاجئ يا إيف؟“
“أجبني بصدق.”
رغم هدوء صوتها، إلا أنه بعث في قلبه شعورًا خانقًا، كما لو أنه يقف وحده في عين الإعصار.
‘لايعقل…’
لم يكن أمامه سوى أن يفهم مما سألته… أنها اكتشفت كذبه الساذج.
وأنه إن لم يكن صريحًا معها الآن، فلن تكون هناك عودة بعد ذلك.
وحين همّ بأن يفتح فمه بعد تنهيدة ثقيلة ومسح على وجهه اليابس…
“لا تعتذر.”
لكنها سبقته بالكلام.
ابتلع باليريان ريقه جافًّا، يشعر بأن مجرى الحوار يسير في اتجاه لا قدرة له على السيطرة عليه.
لم يشأ أن يستمر، لكنه لم يستطع صرف نظره عنها.
“لقد كذبت عليك… ومن الطبيعي أن أعتذر يا إيف.”
“لكن الاعتذار لا يُجدي نفعًا… إلا حين يكون هناك ما يمكن إصلاحه.”
قالت ذلك بابتسامة باهتة، ثم دفعت نحوه الملف الذي كانت تحمله.
“لا داعي لأن تتكلف عناء ذلك. سأعتني بالأمر بنفسي.”
“……..بأيأمر؟“
شعر باليريان بالحيرة. كان منشغلًا بحديثها لدرجة أنه لم ينتبه حتى لما كانت تحمله. ولم يخطر بباله أبدًا أن الملف موجه إليه.
أخذت نظرة إيف تتجه نحو الملف الذي صار بين يديه.
نظرتها كانت باردة، خالية من أي إحساس.
رغم أنه مجرد مجموعة أوراق، شعر باليريان وكأن ما بين يديه صندوق باندورا، يخشى فتحه لأنه يعلم ما ينتظره بداخله.
وحين تردد في فتحه، قطبت إيف حاجبيها بنفاد صبر:
“افتحه يا باليريان.”
لكنه بقي واقفًا كجذع شجرة، متسمّرًا في مكانه، ثم سأل بصوت خافت عما كان يشعر به منذ الصباح:
“إيف، لماذا تنادينني بـ باليريان؟“
“وما الذي عليّ أن أناديك به؟ هذا اسمك.”
“لكنك تعلمين جيدًا أنني لا أعني الاسم فقط.”
“لا أعلم.”
نظرت إليه بثبات لم يعتده منها.
لو كانت إيف كما كانت دائمًا، لاكتفت بقراءة ملامحه وابتعدت عنه بنظراتها، لكنها لم تفعل.
كان واضحًا أن شيئًا ما قد انكسر.
“إن لم تفتح الملف، فسأفتحه بنفسي وأريك محتواه.”
قالت ذلك وهي تقترب منه، ثم انتزعت الملف من بين يديه.
وفي اللحظة التي شعر فيها أنفاسها تلامس الهواء من قربه، تراجع لا إراديًا خطوة إلى الخلف.
حينها، بردت نظرة عينيها على الفور.
مزّقت الملف بيد متوترة قليلاً، وأخرجت ورقة قدّمتها مباشرة أمام وجهه.
وحين قرأ الكلمة المكتوبة في أعلاها، شحب وجهه كأن الدم انسحب منه بالكامل.
شعر بطعنة حادة في صدره، وكأن خنجرًا غُرس في قلبه.
تجمّد في مكانه لوهلة طويلة، ثم تمتم باسمها بصوت مبحوح:
“……إيف.”
“نعم؟“
“هذا… مجرد مزاح، أليس كذلك؟“
“أنت تعرف جيدًا يا باليريان. أنا أبغض هذا النوع من المزاح أكثر من أي شيء في هذا العالم.”
ما يعني أن هذا ليس مزاحًا.
إنها ورقة اتفاق طلاق.
توقّف قلبه للحظة، ثم بدأ يخفق بشدة.
فتح فمه بصعوبة وقال:
“إيف، على الأقل قولي لي لماذا؟“
أجابت وهي ترمش ببطء، وبهدوء قاتل:
“ألم تكن هذه هي النتيجة التي كنت تتمناها؟“
وكأنها تقول لا جدوى من سؤالك عن شيء تعرفه مسبقًا.
“لم أتمنَّ يومًا أن نصل إلى هذا الحد.”
“كذبة أخرى.”
قالتها بصوت خافت، لكنه كان واضحًا بما يكفي ليصله.
“كذبة؟“
“هل تعرف يا باليريان؟ منذ زواجنا، ازدادت أكاذيبك. أليس ذلك أمرًا غريبًا؟“
“وأي كذب تقصدين…؟ قولي لي يا إيف أرجوكِ.”
“أنك تأخرت بسبب تنازل الإمبراطور… كانت كذبة، أليس كذلك؟“
سكت.
وتوقف تنفسه.
كانت إجابته الصامتة كافية لها.
أطلقت ضحكة صغيرة فارغة:
“إذا كان كل شيء سيتحطم بهذا الشكل، لماذا أمسكت بي حينها؟ لماذا لم تتركني أرحل؟“
قالتها بنبرة مخنوقة، تقاوم فيها دموعًا كادت أن تخرج مع كل حرف.
“إيف، أنتِ مخطئة…”
قالها على عجل، لكن إيف لم تعد تريد سماع شيء منه.
رغم ذلك، كانت ملامحها هادئة… وباردة.
“ما أعلمه الآن هو أنك كذبت عليّ. وأنا لا أؤمن بشيء سوى الحقيقة.”
لقد أعطته بالفعل فرصة لشرح نفسه، لكنه دمّر تلك الفرصة بكذبة أخرى.
“وحتى لو كان هناك سوء فهم… لم أعد أرغب في إصلاحه.”
“ماذا…؟“
“لأن الثقة التي كانت بيننا، قد تلاشت بالكامل.”
وما إن أنهت عبارتها، حتى تلألأت عند قدميها أنوار بيضاء.
أدرك باليريان فورًا أنها تستعد لاستخدام السحر، فاندفع نحوها محاولًا الإمساك بها، لكن…
“سنلتقي في المحكمة، في الموعد المكتوب في الاتفاق.”
قالتها، ثم اختفت من أمامه بلحظة.
سقطت يده المرتجفة للأسفل، وراحت ورقة الطلاق تتهادى في الهواء قبل أن تهبط على الأرض بصوت خافت.
كانت الورقة البيضاء الملقاة أرضًا صورةً صادقةً عن حاله الداخلي… ممزقًا، مهزومًا، فارغًا.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 106"