1
الفصل الأول
“جيد، لا بأس بهذا.”
تفحّص راديوس مظهره بعناية.
كانت ساعته الفاخرة وأزرار أكمامه منسّقة الألوان مع الأحجار الكريمة، وارتدى بدلة رمادية أنيقة بخطوطٍ رفيعة على أحدث طراز.
كان اليوم موعدًا ليتعرّف على الرجل الجديد الذي تواعده والدته.
لقد أنهكته خيباتها المتكرّرة مع رجالٍ لا يملكون سوى وجوهٍ وسيمة وطباعٍ قذرة، حتى بات يُلحّ عليها دومًا بأن تُعرّفه على أيّ رجل قبل أن ترتبط به جديًّا.
وأخيرًا استجابت لطلبه.
‘من الجيّد أنّها قرّرت أن تُعرّفني به قبل أن تتورّط معه هذه المرّة.’
كانت والدته – التي خدمت طويلًا في البحرية قبل أن تتقاعد – أو ربما لأنها من أسرة لورباكير النبيلة التي تجمع بين المجد والثروة، لا تنظر في علاقاتها إلا إلى المظهر الخارجي.
“لكن هذه المرة لم أختره لجماله فقط. أتذكر أني أُصبتُ في آخر معركة وصرتُ أعرج قليلًا؟ في كل مرة كنا نذهب إلى المطعم، كان يطلب الإذن مني أولًا ثم ينحني ليُربط رباط حذائي بنفسه.”
لو سمع أحدٌ قصتها لظنّ أنه رجل نبيل مثالي.
لكن راديوس يعلم أنّ والدته دائمًا ما ترى في أكثر الرجال جنونًا أشخاصًا طيبين لمجرّد أنهم يُجيدون الكلام.
لهذا لم يستطع أن يثق في كلامها، ولا في صدق نوايا الرجل الذي اختارته.
ولذلك حرص اليوم أن يهتمّ بمظهره أكثر من المعتاد.
أراد أن يُظهر للرجل الفارق بينهما بوضوح، وأن يجعله يُدرك ما معنى أن يقف أمام نبيلٍ حقيقي.
ولهذا حجز مقعدًا في أرقى مطاعم العاصمة.
‘بما أنه يعمل مديرًا في مطعم، فربما يدرك الفارق حين يرى هذا المكان. مدير فقط، لا مالك حتى.’
كبح رغبته في هزّ رأسه سخرية.
“همم.”
أصلح نبرة صوته، وتأكد من العطر الذي يضعه.
وفي طريقه بالسيارة الفاخرة نحو المطعم، ظلّ يُردّد في نفسه أنّه مهما بدا الرجل ناقصًا، فعليه أن يحافظ على هدوئه وأدبه أمامه.
‘حتى لو شممتُ رائحة الاحتيال منه، لا يجب أن أكون فظًّا. قد تأتي النتيجة عكسيّة.’
كان واثقًا أنّه مهما بلغ ذلك الرجل من وسامة، فلن يكون أكثر منه أناقة أو جاذبيّة.
فقد ورث عن والده ملامح وسيمة متناسقة، وعينين بلونٍ مزيج بين الأخضر والأزرق، وشعرًا أشقر داكنًا كوالدته، مما جعله منذ طفولته يبدو كأميرٍ من قصص الخيال.
وفوق ذلك، كان وريثًا مباشرًا للّقب النبيل لعائلة لورباكير، وتلقّى تعليمًا أرستقراطيًا صارمًا.
ولذا، حتى لو أراد أحدهم استغلال والدته، فلن يكون هو من يُخدع بسهولة.
“تشرفت بلقائك، أنا فيتو مارتينيز.”
كان الرجل الذي تُواعده والدته هذه المرة عاديًّا إلى درجة غير متوقعة.
‘يا للعجب، حتى وجهه ليس وسيمًا!’
ومع ذلك، كان هناك اختلاف عن سابقيه، إذ بدا متقاربًا في العمر مع والدته، وتظهر على وجهه ملامح طيبة وبريئة.
“تشرفت بلقائك، أنا راديوس لورباكير. سمعتُ عنك كثيرًا.”
ابتسم ابتسامة اجتماعية متقنة، وصافح فيتو.
‘قصير القامة، وملابسه… القماش جيّد لكن التصميم قديم ومهترئ. إن كانت أمي ترى فيه الجدية، فحقًا لم يتبقّ لها شيء لتخسره إن خُدعت مرة أخرى.’
بدأ راديوس يُفكر كيف سيُقنع والدته بعد العشاء بأنّ هذا الرجل محتال، دون أن يبدو فظًّا أو مباشرًا.
لكن عندها قال فيتو:
“بما أنّ السيدة تالاسا أخبرتني أنها ستحضر مع ابنها، فقد جئتُ أنا أيضًا مع ابنتي. كانت ترغب بشدّة في الحضور.”
‘يناديها باسمها؟!’
التفت راديوس نحو والدته تالاسا، التي تهرّبت من نظرته بابتسامة خفيفة.
‘قالت إنها لم ترتبط به بعد، ومع ذلك سمحت له بمناداتها باسمها؟ بل وأحضر ابنته أيضًا؟ أهذا نوع من التحدي؟’
كتم انزعاجه، وأدار نظره نحو فيتو مجددًا.
خلف الرجل وقفت فتاة شقراء تنحني قليلًا وتقول بلطف:
“تشرفت بلقائك، أنا ويلهلمينا مارتينيز.”
تجمّدت أنفاس راديوس حين سمع الاسم ورأى ملامحها.
كانت فتاة جميلة ذات شعرٍ ذهبي مموج وعينين زرقاوين واسعتين، يعرفهما تمام المعرفة.
“ويلهلمينا مارتينيز؟!”
كاد يتوقف عن التنفس من شدّة الدهشة.
ابتسمت بخجل وقالت:
“نعم، اسمي ويلهلمينا مارتينيز.”
“أأنتِ ويلهلمينا مارتينيز التي لفتت الأنظار بدور الساحرة في المسرحية الغنائية «حورية البحر» قبل ثلاث سنوات؟”
وضعت يدها على فمها بخجل.
“ربما ليس بتلك الشهرة، لكن نعم، أدّيت دور الساحرة منذ عامين.”
“وأنتِ التي غنّيتِ متقمّصةً دور الأمير في حفل عيد ميلاد بولا سميث، ابنة جاك سميث؟!”
تذكّر تلك الليلة جيدًا، فقد أذهلته حينها بجمالها وصوتها.
“آه، نعم… شاركت في حفلات قليلة من ذلك النوع.”
“وفي العام الماضي أدّيتِ دور الإمبراطورة في مسرحية «الشوكة العالقة في أطراف الأصابع» وحققتِ شهرة كبيرة.”
توردت وجنتاها وقالت بخجل:
“كنتُ ممثلة مساعدة فحسب، لم أصل لتلك الشهرة.”
“لكنّكِ حصلتِ هذا العام على البطولة في مسرحية «دوق كوساكوف»، وكانت جميع العروض مكتملة الحضور، ثم أجريتِ لقاءً مع جمهوركِ في حانة «شاطئ البحر» أوائل هذا العام.”
“آه، ذاك اللقاء… لم يكن عدد الحاضرين كبيرًا، لذا لا يمكن تسميته لقاءً جماهيريًا حقًا.”
غطّت وجهها بكلتا يديها من الحرج.
“بل كان لقاءً حقيقيًا مع محبّيكِ. كنتُ أحد الحاضرين، ولا زلتُ أحتفظ بمنديل عليه توقيعكِ.”
“ماذا؟”
أخرج من جيب صدره منديلًا مطويًا وفتحه أمامها.
“كنتِ قد قلتِ لي حينها: هل أوقّع لك؟ ثم طلبتِ اسمي لتكتبيه بنفسك.”
على المنديل كان مكتوبًا بخطها اسمها المصغّر “مينا”، وتحته عبارة: إلى العزيز رادي.
“آه، صحيح…”
“أنا من معجبيكِ، حقًا.”
كان من الواضح لأيّ أحد أنّه يحمل ذلك المنديل ككنزٍ عزيز عليه.
“شكرًا لك.”
قالت بخجل وارتباك، بينما أجاب هو بنبرة مفعمة بالعاطفة:
“بل أنا من يجب أن يشكركِ. أغانيكِ وأدواركِ كانت مصدر راحتي، منحتني الأمل والقوة لأواصل رغم الصعاب.”
ومنذ تلك اللحظة، لم يرَ راديوس أحدًا سواها.
“أه… شكرًا لك.”
جمعت ويلهلمينا يديها بخجل، وأشاحت ببصرها وهي تحمرّ وجهًا.
“كنتُ أودّ قول هذا في حفلكِ، لكنّي كنتُ متوترًا جدًا. ندمتُ كثيرًا بعدها، حتى كتبتُ لنفسي نصًّا أتدرّب عليه في حال سنحت لي فرصة الحديث معكِ يومًا… لم أتخيّل أنّها ستأتي بهذه السرعة.”
“شكرًا لك على اهتمامكِ ودعمكِ الكبير.”
امتلأ صدر راديوس بالفخر والسعادة، وأراد أن يُكمل الحديث معها، لكنه لم يجد ما يقوله بعد ذلك.
“رادي!”
نادته والدته تالاسا بصوتٍ صارم.
“آه، أمي؟”
ارتبك راديوس، فقد كان غارقًا في حديثه مع ويلهلمينا حتى نسي وجود والدته.
“هل نسيتَ ما جئنا من أجله؟ اجلس حالًا.”
“أوه… نعم.”
جلست تالاسا وهي تعقد حاجبيها، بينما تذكّر راديوس أنه ظلّ واقفًا يتحدث طوال الوقت بحجّة الترحيب.
التعليقات لهذا الفصل " 1"