2
لا تجارةَ تُجدي أمامَ المباغتة.
محَت مودُ سريعًا تلك النظرةَ الباردة، وقالت بابتسامةٍ ناعمة.
“هاها!”
أطلق ليوبولد ضحكةً جهوريّةً دوّت في قاعةِ الضيوف، إزاء جرأتها الوقحة في إعلانها أنّها ستحكم بعد أن ترى الدوقَ الأكبر بنفسها.
“أرجو أن تغفري هذه الوقاحة.”
في الظروفِ العاديّة، كان مثلُ هذا التصرّف كفيلًا بإثارةِ استياء الإمبراطور وغضبه، غير أنّ كونها من آل هابلين جعلها استثناءً.
فهي ابنةُ كليف المقرّب، كما أنّها مود التي كان يُوليها عنايةً خاصّة.
“حسنًا، أوافق. سأنتظر أخبارًا طيّبة.”
كان يُحبّ ذكاءَ مود وجرأتها الواثقة.
وها هي الآن تُواجه الإمبراطور نفسه بتلك الطمأنينة.
“شكرًا لك، يا صاحبَ الجلالة.”
واثقةٌ من نفسها من غير وقاحة، أنيقةٌ بلا ثغرة.
ظلّ نظرُ ليوبولد مستقرًّا طويلًا على وجهِ مود.
“حان وقتُ عودتي إلى القصر. يبدو أنّ تعابير ذلك الرجل لا تُبشّر بخير.”
قال ذلك وهو يُشير، مازحًا، وقد قطّب أنفه، إلى قائد الحرس الواقف عند الباب بوجهٍ جامد.
امتدّ بصرُه نحو نافذةٍ كبيرة تُطلّ على الشارع بوضوح.
كانت أنوارُ الليل تتسلّل بين أرجاءِ المدينة التي غمرها الظلام.
أنهى حديثه بنبرةٍ خفيفة، ونهض من مكانه.
وبينما كان ليوبولد يعبر قاعةَ الضيوف بخطواتٍ واسعة تحت إلحاح قائد الحرس، توقّف فجأة.
كأنّ كلمةً لم تُقال خطرَت له، فاستدار إلى مود على حين غرّة.
“الدوقُ الأكبر سيختفي مجدّدًا الأسبوع المقبل، لذا إن أردتِ لقاءه، فعليكِ الوصول إلى بيرغن هذا الأسبوع.”
وبينما كان يضغط على صدغه الأيمن، عاقدًا حاجبيه بتعبٍ ظاهر، ابتسمت مود بدهاء وقالت.
“سننطلق غدًا من دون تأخير، فلا تقلق كثيرًا، يا صاحبَ الجلالة.”
تبعت الإمبراطور بنظرةٍ باسمةٍ وهو يغادر.
وبعد قليل، اختفت العربةُ التي أقلّته تمامًا خلف بوّابةِ قصرِ هابلين.
وحين استدارت مود عائدة، كانت نظرتُها جافّة.
وأثناء صعودها درجَ الطابق الثاني المؤدّي إلى غرفتها، مرورًا بقاعةِ غريس المركزيّة، لم يبقَ على وجهها أثرٌ للابتسام.
كانت مود تعرف جيّدًا أنّ مشاعرَ الإمبراطور تجاهها وتجاه أبيها صادقة.
فهو رجلٌ ودودٌ لطيف، نشأ محاطًا بحبّ بارِن واحترامه طوال حياته، وقد عرفته عن قرب منذ طفولتها.
ومهما تكن نيّته الحقيقيّة، فلن تختلف كثيرًا حين يتعلّق الأمر بابنه.
لهذا لجأ إلى هذا الرهانِ العبثيّ ذريعةً وتدخّل بنفسه.
وأكّدت مود في سرّها أنّ الجميع، أمام شؤون الأبناء، متساوون.
“الإمبراطور يُحبّني ويقلق عليّ بصدق، لكنّه في الوقت ذاته يريد استخدامي.”
بعد أن أنهت تبديل ملابسها بمهارة، وصرفت الخدم كعادتها، وقفت مود أمام النافذة الكبيرة في الجانب الأيمن من غرفتها.
كان المنظر يُشرف على الأشجار المصطفّة، وعلى دارِ أوبرا بارِن الوطنيّة التي تعجّ بالزحام مع ذروة الموسم الاجتماعي.
حدّقت مود بوجهٍ خالٍ من التعبير في المسرح الذي تحوّل إلى ساحةٍ اجتماعيّة.
ومع انتهاء العرض الأخير، امتلأت ساحةُ النافورة المركزيّة بالثنائيات من السادة والسيّدات، وتزامن ذلك مع ألوان الألعاب الناريّة التي صبغت سماء الليل.
‘هل هو رجلٌ قادرٌ فعلًا على أن يمنحني مالَ الإمبراطور وشرفه……؟’
ضيّقت عينيها إزاء هذا التساؤل المعلّق.
وبعد أن راقبت الألعاب الناريّة قليلًا بلا اكتراث، تحرّكت وقد حسمت أمرها.
فالوقت مالٌ واستثمار، وهي لا تُطيل التردّد.
كان هدفُ الإمبراطور واضحًا: إدخالُ الدوقِ الأكبر إلى المجتمع بنجاح.
وكان ينوي استخدام مود هابلين لتقديمه إلى الساحة الاجتماعيّة.
وما إذا كان هذا الرهان السخيف سينجح كخطّةٍ إمبراطوريّة، فذلك كلّه بين يديها.
ومنذ لحظةِ اتخاذ القرار، محَت مود كلَّ شيءٍ من ذهنها.
السمعةُ والفضائح التي قد تنالها بعد نجاح الدوق، وعداءُ الإمبراطورة المعلن، لم تعُد ذاتَ شأن.
—
كانت مود مستندةً إلى الأريكة حين أطلقت ضحكةً جافّة.
ثلاثةُ أيّامٍ مضت منذ وصولها إلى بيرغن، ولم يصلها من الدوق سوى ردودٍ متشابهة.
وبالأحرى، رسائل من قيّمه الخاص.
كانت الرسائل تبدأ بعباراتٍ متقاربة، وتنتهي بالخلاصة نفسها.
اعتذارٌ عن عدم الردّ المباشر لانشغاله بعطلةٍ صيفيّة، مع طلب التفهّم.
<إلى الآنسة مود.
تحيّةً طيّبة. لقد اطّلعنا على رسائلك جيّدًا.
إنّ سموّ دوق رايزويل الأكبر يقضي عطلةً صيفيّة، ويأسف أشدّ الأسف لعدم تمكّنه من الردّ شخصيًّا.
نرجو تفهّمك، ونتمنّى لك إقامةً سعيدة.
القيّم ميلتون.>
عطلةٌ صيفيّة؟
وهو الذي لا يزال يداوم بانتظام في القاعدة البحريّة.
كان ذلك أكذبَ عذرٍ على الإطلاق.
تمدّدت مود على الأريكة، وأغمضت عينيها ببطء ثمّ فتحتهما.
“هاه…….”
وضعت الرسائل بإهمال على الطاولة الماهوغانيّة إلى يسارها، وأطلقت زفرةً خافتة.
كانت قد توقّعت شُحّ المعلومات عنه، لكنّ الأمر كان أصعب ممّا ظنّت.
لم يبقَ لها سوى تخمينه من الشائعات المتناثرة.
في نظرها، بدا الدوقُ الأكبر كمن ينجرف مع التيّار.
فمع كونه أحدَ أمهرِ جنود الإمبراطوريّة، لم يكن يمكث طويلًا على اليابسة.
تنقّل بين معاركَ بحريّةٍ ودوريّاتٍ في أعالي البحار، وكأنّه يعيش عمره كلّه في زمنِ حرب.
ولهذا ندر أن قابله أحدٌ بعد بلوغه.
صحيحٌ أنّ بعض من التحقوا بالخدمة التقوه، لكنّهم غرقوا مع قصصِ بطولاتهم، فلم يعودوا لينقلوا شيئًا يُفيد.
ولذلك لم يكن غريبًا أن يبتعد الدوق عن أعين الفضوليّين، ثمّ عن اهتمامهم.
“يا له من يومٍ أحتاج فيه إلى خبرٍ واحدٍ من صحيفةٍ صفراء…….”
نظرت مود إلى ثريّا سقف الغرفة بوجهٍ متبرّم.
لم يكن لديها وقت.
ورغم كراهيتها للفضائح المبكّرة، لم تجد بديلًا.
“طرأ تغييرٌ على الخطة.”
نهضت مود، فبادرت سارا، التي تحرّكت معها بتوتّر، بالسؤال.
“اليوم؟ هل الأمر عاجل؟”
“نعم. بعد ساعة سنكون أمام القاعدة البحريّة.”
“القاعدة البحريّة……؟ إذًا ستقابلين سموّ الدوق؟”
كانت سارا سريعةَ الفطنة.
“نعم، لم أعد أستطيع الانتظار. لا وقت، وقد ابتعدتُ عن نيس طويلًا.”
أسرعت سارا لتقف أمام الخزانة قبل أن تصل إليها سيّدتها.
“آه…… حسنًا! سأُعدّ كلّ شيء.”
وأخذت تُقلّب الملابس بخطواتٍ متعجّلة.
لم تكن تفهم ما الذي يجري، وإن فهمت فلن يتغيّر شيء.
فإن كان لا مفرّ من القيل والقال، فطموحها أن يُصاب كلّ من يراها بالدهشة.
قدّمت لسيدتها فستانًا من الشيفون، مشدودَ الثنيات بعناية، بلونٍ أزرقَ كأمواج البحر.
لكنّ مود هزّت رأسها من دون أن تنظر إليه.
“لهذا نلفت الأنظار. ذاك أفضل.”
توقّف بصرها عند فستانٍ أبيض من الحرير، بسيطٍ لا يزدان إلّا بدانتيلٍ دقيق.
“آنستي، أنتِ تلفتين الأنظار مهما ارتديتِ!”
قالت سارا وهي تهزّ رأسها بعدم اقتناع.
“سنرى اليوم.”
كان القرار محسومًا.
وأكّدت ذلك ابتسامةٌ مشرقة.
أغمضت سارا عينيها بيأسٍ ثمّ فتحتهما.
“لسنا ذاهبتين إلى حفلٍ راقص!”
قالت ذلك بقلقٍ ظاهر، بينما ربّتت مود على كتفها بلا اكتراث.
“لا بأس.”
وكانت خدمة مود، كما العادة، مغامرةً لا تخلو من مفاجآت، لكنّها ازدادت حدّةً منذ وصولهما إلى بيرغن.
وبجهدٍ بالغ، تماسكت سارا وقالت.
“لا يمكن! آنستي!!”
ضحكت مود، وكانت وجنتاها تشبهان خوخَ الصيف.
وبعد أن هدأ ضحكها قليلًا، سألت.
“هل تعلمين؟”
طرقت شفتيها بسبّابتها وابتسمت.
توقّفت سارا عن ترتيب الملابس ونظرت إليها.
“ماذا؟”
ارتسم التساؤل في عينيها.
“لا تجارةَ تُجدي أمامَ المباغتة.”
حتى لو كان خصمُكِ دوقًا أكبر.
قالت ذلك، ووضعت الكأس، وارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ ناعمةٌ كالكريمة.
التعليقات لهذا الفصل " 2"