لقد مرّ شهرٌ على تصالحي مع لُــو.
خلال هذه الفترة القصيرة، وإن كانت طويلةً في رأيي، نفّذتُ أوامر بايلور بإخلاص.
حسنًا، لحسن الحظ، لم يطلب مني أيّ شيءٍ صعب.
كان هذا هو نوع العمل الذي كنتُ أقوم به دائمًا.
مثل تتبّع مَن أوعز إليهم بايلور، أو التسلّل إلى مناطق الصراع لجمع المعلومات الاستخبارية.
بالطبع، كانت لديّ بعض التحفّظات بشأن الذهاب إلى مناطق الصراع.
لطالما كان جمع المعلومات الاستخبارية، والمخاطرة بالحياة، أمرًا خطيرًا، وخطأٌ بسيطٌ قد يعني الموت.
ولكن لكسب ودّ بايلور، ولإخفاء خططي، لم يكن أمامي خيارٌ سوى التحمّل والتسلّل بهدوء. كان عليّ ذلك.
ربما لهذا السبب بدا أن بايلور يعتقد أنه سيطر عليّ أخيرًا.
«تعالي إلى المقر الرئيسي.»
كان من المؤسف أنه اتصل بي شخصيًا أخيرًا.
جالسةً على السرير المتهالك في غرفة النزل القديمة، أملتُ رأسي للخلف برفق، وأخذتُ نفسًا عميقًا.
من خلال النافذة ذات الشقين، رأيتُ سماء الليل المظلمة.
في ليلةٍ ضبابية، لاح قمرٌ ضبابيٌّ آخذٌ في التضاؤل في السماء.
تناثرت أضواء المدينة الخافتة، وتلاشت في ضبابٍ أسود. حدّققُ في السماء بنظرةٍ فارغة، وأطلقتُ ضحكةً مكتومةً.
«لكن، عندما ينتهي كلّ شيء.»
«أرجوكِ خبرني. ما هي مشاعركِ الحقيقية؟»
«هل تحبّينني حقًا؟»
‘كل شيء.’ أي هزيمة بايلور، وخلع الإمبراطورة، وتدمير كاتاكل.
بعد كلّ هذا، طلب مني لُــو أن أخبره بمشاعري.
بمعنًى آخر، أن أعترف بحبّي في النهاية.
قال إنه يستطيع الانتظار حتى ذلك الحين.
لكنني فكّرتُ حينها.
هل سأكون على قيد الحياة حقًا حينها؟
إذا نفذتُ ما أخطّط له، فسأضطرّ حتمًا للتضحية بحياتي.
التعامل مع بايلور لا يمكن أن يكون هادئًا أبدًا.
ربما يكون اليوم الذي أقضي فيه على بايلور هو اليوم الأخير لي قريبًا.
لو كنتُ محظوظةً حقًا، لربما نجوت، لكنني لم أكن دائمًا محظوظة، لذا كان من الأفضل لراحة بالي ألّا أتمسّك بأملٍ كاذب.
لذلك، سأموت. عندما ينتهي ‘كل شيء’.
منذ أن أصبحتُ عميلةً لكاتاكل، لطالما راودتني فكرة أنني قد أموت.
ظننتُ أن هذا اليوم سيأتي يومًا ما.
لذا ظننتُ أن الموت لن يكون مشكلة.
لهذا فكّرتُ أنه لن يكون سيئًا لو تخلّصتُ من بايلور ومِتُّ معه.
لكن ……
‘إنه أمرٌ مُخيّبٌ للآمال بعض الشيء.’
لأول مرة، لم أقبل الموت تمامًا. كان هناك وجهٌ يخطر ببالي قبل الموت نفسه.
لُــوفانتي.
وجهه، يديه، صوته، وابتسامته ظلّت تخطر ببالي.
كما لو كان يُمسِكُ بي، كما لو كان يجعلني أتردّد بشأن نهايتي.
الغريب في الأمر، قال لُــوفانتي إنه سينتظرني.
يقول إنه سيسمع مشاعري الحقيقية بعد أن ينتهي كلّ شيء.
مع أنه يعلم أنني قد أموت، إلّا أنه لا يزال متمسّكًا بي.
كنتُ ممتنةً لذلك، وقد غمرتني عاطفةٌ جيّاشة، ولهذا… شعرتُ بالندم.
نأكل معًا، وننظر إلى نفس السماء، ونتشاجر، ونضحك، وأحيانًا نجلس جنبًا إلى جنبٍ في صمت.
كنتُ أتوق إلى حياةٍ عاديةٍ كهذه.
أردتُ أن أعيش كلّ ذلك مع لُــو.
أن أعيش دون أن أكون في خطر الموت وأعيش حياةً طبيعيةً معه.
مجرّد التفكير في هذا الاحتمال كان يُثقِل كاهلي.
كآثمٍ يحلم حلمًا مُحرَّمًا.
‘هل يمكن لشخصٍ مثلي أن يأمل في ذلك؟’
…… لا.
هذا مستحيل.
لأنه عندما ينتهي ‘كل شيء’، سأنتهي أيضًا. سأختفي. سأموت.
لذا…
‘لا أستطيع إخبار لُــو بمشاعري.’
لأن حياة لُــو ستكون أصعب بعد رحيلي.
أخذتُ نفسًا آخر.
عندما يأتي الغد، عندما أقابل بايلور، ستبدأ المعركة النهائية أخيرًا.
لذا…
‘لنبذل قصارى جهدنا.’
تمتمتُ، وأجبرتُ نفسي على الهدوء.
* * *
في اليوم التالي.
عبرتُ المنطقة المشتركة المألوفة وتوجّهتُ إلى غرفة بايلور.
امتلأت الغرفة المظلمة، المضاءة فقط بمصباحين زيتيين، بتوتّرٍ خانقٍ منذ اللحظة التي أخذتُ فيها نفسًا.
كان بايلور في قلب الحدث.
جالسًا على الأريكة الواسعة، كما لو كان ينتظرني منذ زمن.
اندفعت عيناه نحوي.
غريزيًا، أردتُ أن أحدّق به، لكنني لم أفعل. بدلًا من ذلك، خفضتُ عينيّ وتظاهرتُ بالخضوع.
“لقد مرّ وقتٌ طويل، أيها القائد.”
شعرتُ بأنفاس بايلور تخرج من بين أسنانه.
“لا يجب أن تكوني مهذّبةً للغاية. تعالي إلى هنا.”
كان ودُّه المُصطنع مُنفِّرًا، لكنني لم أُظهِره وتوجّهتُ إلى الأريكة المُقابلة له.
كانت نظرة في عيني بايلور وهو ينظر إليّ لا تُوصف. لم يكن يطمئن عليّ، بل بدا وكأنه يتفقّد ‘حالة ممتلكاته’.
بدا أنه يُقيِّم ما إذا كان بإمكانه استعادة ولائي المُحطَّم، وما إذا كان يستطيع الوثوق بطاعتي المُستعَادة.
“لقد فعلتِ كلّ ما طلبتُه منكِ.”
“… نعم.”
“ولم تكن هناك أفعالٌ أخرى غير مُتوقّعة.”
“لأنها كانت أوامر القائد.”
“حقًا؟”
أمال بايلور رأسه بتثاقلٍ وحدّق بي.
“بالمناسبة.”
بعد لحظة صمت، فتح فمه مُجددًا.
“قال لُــوفانتي إنه يُحبّكِ، لكنه في النهاية تخلّى عنكِ.”
انغلقت أطراف أصابعي على نفسها. بالكاد تمكّنتُ من الزفير دون إظهار اهتزازي.
ضغط الهواء الثقيل الرطب على رئتيّ، كما لو أن حجرًا قد استقرّ فيهما.
“لكنني لم أكن كذلك. مهما بدا مظهركِ أو ما فعلتِ، لم أتخلَّ عنكِ أبدًا.”
“… نعم.”
أجاب بهدوء، كما لو كان يزحف.
“شارل.”
نادى بايلور عليّ بصوتٍ خافت، مُتابعًا همسًا.
“ستعرفين يومًا ما. لا أحد سواي يستطيع التعامل مع حقيقتكِ.”
انحبست أنفاسي في حلقي.
أردتُ أن أصرخ، أن أُخبِره أن يكفّ عن الكلام الفارغ.
لكنني تمالكتُ نفسي، وتحمّلتُ من جديد.
وانغمستُ أكثر.
“لقد كنتُ مُقصّرةً لدرجة أنني لم أُطِع إرادتك، أيّها القاردئد. لكن، هذه المرّة الأمر مختلفٌ تمامًا. أرجوكَ ثِق بي.”
ارتجف صوتي قليلًا، لكن بايلور لم يُشِر إلى ذلك.
“هل يُمكنني أن أثق بكِ؟”
كان صوته منخفضًا وخافتًا، لكن الضغط تحته كان ملموسًا.
رفعتُ رأسي ببطء.
والتقت أعيننا.
طافت نظراته على وجهي، ورقبتي، وصدري.
مجرّد رؤيته جعلتني أشعر بالتجمّد.
انتابني شعورٌ بثعبانٍ يزحف على جلدي.
شعرتُ بغثيانٍ يتصاعد، لكنني كبتّتُه.
كبتّتُه وأخفضتُ رأسي.
“نعم. صدِّقني من فضلك.”
ضحك بايلور ضحكةً مكتومة.
لم تكن ابتسامة ارتياح.
كان مقتنعًا أنه لا خيار أمامي سوى الاستسلام مجدّدًا،
وكانت ابتسامة ‘تأكيد’ على صحة قناعاته.
“إذن …”
تحدّث بحزم.
“ادخلي القصر.”
لم يعد هناك أيّ تملّقٍ في صوته.
بقي أمرٌ واحدٌ فقط.
“اغتنمي فرصتكِ.”
نهض ببطءٍ من مقعده.
لم يكن طويل القامة، لكنني شعرتُ الآن بأنه أضخم كائنٍ في العالم.
حتى الضوء والظلال بدت جزءًا منه.
تقدّم للأمام، وقال، وعيناه تلمعان.
“فرصةٌ لقتل الإمبراطور.”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات