استدعاني الإمبراطور.
لم أكن بحاجةٍ لتخمين السبب.
‘لا بد أن السبب هو أنني أرسلتُ تسجيل محادثة الإمبراطورة وبايلور.’
شعرتُ بالارتياح، ولكن في الوقت نفسه، شعرتُ بالندم.
‘كان عليه استدعائي أبكر.’
لو فعل، ألم يكن من الممكن إنقاذ لُــو؟ لو زرتُ القصر قبل الزفاف، لو طلبتُ من الإمبراطور حماية لُــو…
‘لا.’
دعنا لا نفترض أمورًا لم تحدث.
دعنا أولًا نهتم بما هو أمامنا مباشرةً.
مع وضع ذلك في الاعتبار، اتّبعتُ مُرشدي إلى القصر.
كان القصر أهدأ بكثيرٍ مما كنتُ أتخيّل.
حراسةٌ أمنيةٌ مشدّدة، آداب سلوكٍ دقيقة، وجوٌّ هادئ.
شعرتُ بينما أتجوّل في القصر وكأنني دخلتُ عصرًا جديدًا.
‘كان الجوّ في الخارج صاخبًا للغاية.’
بلعتُ ريقي بصعوبة. كان صوت أحذية الحارس الذي يمشي أمامي واضحًا للغاية.
وكان ذلك مفهومًا. كان هذا الممرّ صامتًا.
كلّ خطوة، كلّ نفس، تردّد صداه في السقف.
مشيتُ بحذرٍ متعمّد، آملةً ألّا يكون صوت قعقعة حذائي الأسود عاليًا جدًا.
ساد صمتٌ كثيفٌ لدرجة جعل من الصعب التنفّس في أرجاء القصر.
حتى سيدات البلاط والخدم الذين رأيتُهم كانوا يتحرّكون بحذر، دون أن ينبسوا ببنت شفة.
لم يكن قصر الإمبراطور مجرّد مكانٍ يسكنه الناس، بل مكانٌ يزدهر فيه النظام والسلطة.
أدركتُ أن تلك السلطة لم تكن خوفًا، بل شعورًا بالانضباط، أشبه بمواجهة كائنٍ مُطلَق.
“من هنا.”
توقّف الحارس للحظة، ثم أشار إليّ.
أومأتُ برأسي واستأنفتُ السير.
اقترب باب غرفة الحضور من مجال نظري.
رأيتُ حليّةً كبيرةً مطليةً بالذهب تحمل شعار الإمبراطورية. وقف حارسان كشخصيتين ضخمتين بجانب الباب.
وقفتُ أمام الباب، وأخذتُ نفسًا عميقًا.
بصراحة، من الغريب أن أقول إنني لم أكن متوترة.
مع أنني كنتُ عميلةً في كاتاكل، إلّا أنني، كمواطنٍ عادي، أواجه شمس الإمبراطورية وحدي … أليس ذلك أمرًا لا يُصدَّق؟
لذا، وبقليلٍ من التوتّر، دخلتُ ببطءٍ من الباب الذي انفتح.
“….”
أُغلِق الباب خلفي بهدوء.
هذا الصوت وحده جعلني أُدرِك كم كنتُ معزولةً تمامًا في هذا المكان.
لفّني صمتٌ خانق.
وفي قلب هذا الصمت، جلس الإمبراطور.
على الدرجات العالية، شخصيةٌ بزيٍّ أسود وعباءةٍ حمراء، متكئًا على عرشٍ ضخمٍ مهيب.
بقي ساكنًا.
كما لو أنه كان موجودًا هنا منذ الأزل.
“جلالة الإمبراطور، أُحييكم … أنا شارل.”
كان ‘شارل كورتني’ اسمًا مستعارًا منحه لي جارديان، فاستخدمتُ الاسم الذي أطلقته عليّ كاتاكل.
سيعرف الإمبراطور هويّتي الحقيقية على أيّ حال.
“… شارل.”
تردّد اسمي في الهواء.
بدا وكأن هذه الكلمات وحدها أزالت ثقلًا عن كاهلي.
“اجلسي.”
اقترب مني الخادم الذي كان بجانبي وأرشدني إلى الأريكة.
جلستُ في ذهول، ووُضع فنجان شايٍ أمامي مباشرةً. وسرعان ما بدأ الإمبراطور ينزل الدرج عند عرشه.
“الجميع، ارحلوا.”
ما إن انتهى من كلامه حتى اختفى الخدم.
ساد الصمت مع اختفاء أدنى أثرٍ للحياة. ابتلعتُ ريقي بصعوبة.
“لا داعي للتوتر.”
تحدّث الإمبراطور بابتسامةٍ خفيفة. لكنني ابتلعتُ ريقي مجدّدًا ونظرتُ إليه قليلًا.
عندها فقط استطعتُ رؤية وجه الإمبراطور.
‘آه …..’
حدّقتُ في الإمبراطور، وفمي نصف مفتوح، دون أن أُدرك ذلك.
لم أستطع منع نفسي.
وجه الإمبراطور …..
‘ألا يُشبه لُــو تمامًا؟’
لأنه كان يُشبه لُـُو تمامًا.
ملامح وجهه حادّةٌ ومصقولةٌ بطريقةٍ باردة.
انطباع يبدو وكأنه مشحون بالحدة بطريقة ما.
وحتى شعره الذهبي الناعم، كما لو كان مُغمورًا بالنور.
كان يُشبه لُــو تمامًا.
لا، ربما كان لُــو هو مَن يُشبهه.
ومع ذلك، كان أوّل وجهٍ خطر ببالي في تلك اللحظة هو وجه لُــو.
“….”
عرفتُ تلك العيون.
زاويةٌ حاجبيه، كما لو كانت صارمةً بعصبية، ونظرته التي تخترق الشخص الآخر بصمت، وزوايا فمه التي لا تتحرّك أبدًا، حتى عندما يكون منزعجًا.
بقي الإمبراطور صامتًا، لكن حتى هذا الصمت بدا وكأنه صمت لُــو.
“همم؟”
رفع الإمبراطور حاجبيه، ناظرًا إليّ وأنا أحدّق فيه باهتمام.
“لم يحدّق أحدٌ في وجهي بمثل هذا الاهتمام من قبل.”
“آه، معذرةً.”
خفضتُ نظري بسرعة.
ثم فكّرتُ.
لا أعتقد أنني بحاجةٍ لإخبار لُــو ‘في الواقع، والدكَ هو الإمبراطور.’
فكرتُ أنه لو استطعتُ فقط ترتيب لقاءٍ بين لُــو والإمبراطور، لكانوا قد تعرّفوا على بعضهم البعض.
‘……يجب أن أقابل الإمبراطور مع لُــو.’
يجب أن أطلب من الإمبراطور أن يسمح للُــو بالمجيء إلى القصر حالما يستيقظ.
مع هذه الفكرة، ضممتُ يديّ وأخذتُ نفسًا عميقًا.
“سمعتُ أنكِ من كاتاكل.”
“…نعم.”
همم. صمت الإمبراطور للحظةٍ قبل أن يقول.
“تفضّلي.”
جلس الإمبراطور قبالتي وبدأ يشرب شايه.
التقطتُ فنجان الشاي بيديّ المتوتّرتين.
“كان لي لقاءٌ خاصٌّ مع بايلور من قبل.”
انحنى الإمبراطور قليلاً إلى الأمام.
أزاحت تلك الحركة الصغيرة ثقل المكان.
“أخبرني عنكِ آنذاك. قال إن موهبتكِ كانت واضحةً منذ الصغر، وأنه رعاكِ منذ نعومة أظافركِ وربّاك. كنتِ طفلةً بارعةً ورائعة.”
“….”
“لكنه قال إن ضعفكِ هو عيبكِ.”
حرّكتُ أصابعي لا إرادياً.
كانت هذه هي المرّة الأولى التي أسمع فيها مشاعر بايلور الحقيقية من شخصٍ آخر.
“قال إنكِ حنونةٌ بطبيعتكِ، ولا تستطيعين إيذاء الآخرين بسهولة، وتُفضّلين التعاطف على سلامتكِ، مما يجعل من المستحيل تكليفكِ بمَهام مناسبة.”
خفض عينيه بينما يتحدّث. ثم أكمل الإمبراطور.
“لذا كان يُفكّر في قتلكِ.”
أخذتُ نفساً عميقاً.
كنتُ على درايةٍ غامضةٍ بهذا منذ أن علمتُ أن بايلور قتل أزميرالدا.
وأنا أيضًا تساءلتُ إن كان بايلور قد حاول قتلي.
كان تخميني صحيحًا.
ابتسمتُ بمرارة.
“لذا، ماذا قلتُ له؟ ألا تشعرين بالفضول؟”
أومأتُ برأسي. ضحك الإمبراطور ضحكةً خفيفة ثم نبس بهدوء.
“أخبرتُه أن يُبقي طفلًا كهذا بجانبه.”
لفّ فنجان الشاي وقال.
“بهذه الطريقة، يمكنكَ كبت الرغبات المظلمة في قلبك يا بايلور.”
“…..”
“لكن بالنظر إلى تصرفاته، يبدو أنكِ لم تكوني كافية.”
نظر إليّ الإمبراطور مجددًا.
ببطءٍ شديد، بعيني شخصٍ يحاول تأكيد أمرٍ ما.
“إذن.”
نظر إليّ الإمبراطور بتمعّنٍ وسأل.
“هل أتيتِ إلى هنا لتطلبي مني قتل بايلور؟”
رمشتُ ببطء. ودون أن أُدرك، ابتسمتُ ابتسامةً خافتة.
“لا.”
هززتُ رأسي نفيًا.
“جئتُ أطلب حمايتك.”
“الحماية.”
نقر الإمبراطور بلسانه، كما لو أن الهواء قد هرب منه، وتابع.
“الكلب الذي يخون سيده لمجرّد أنه يريد الحياة لا يُجدي نفعًا، أليس كذلك؟”
“لا، يا صاحب الجلالة.”
قلتُ بحزم.
“حياتي سهلة.”
أكرّر، أعتقد أنني أستطيع الموت في أيّ وقت.
حياتي لا قيمة لها.
أستطيع مغادرة هذا العالم في أيّ وقتٍ دون ندم.
لكن هذه الأفكار لا تخصّ إلّا حياتي.
اتّسعت عيناي.
“لكن حياة شخصٍ آخر ليست سهلة.”
“شخصٌ آخر؟”
“نعم.”
قلتُ وأنا أُثني أصابعي قليلًا.
“يا صاحب الجلالة.”
وحدّقتُ في عيني الإمبراطور، عينان تشبهان عينَي لُــو تمامًا.
“ألا تريد العثور على أميركَ المفقود؟”
كانت تلك هي اللحظة.
مع دويٍّ هائل، انقلب الكرسي الذي كان يجلس عليه الإمبراطور إلى الخلف بعنف. شعرتُ ببرودةٍ تضرب مؤخرة رقبتي. كان سيف الإمبراطور المسلول.
“ذلك الفم.”
“….”
“يجب أن تفكّري مليًّا قبل أن تُغيظني.”
لمعت عينا الإمبراطور الثاقبتان بشدّةٍ شديدة. هذا في الواقع جعلني أشعر بالارتياح.
شعرتُ أن هذا الرجل قادرٌ على حماية لُــو.
“جلالتك.”
دفعتُ السيفَ في يدي برفقٍ بإصبعي وقلتُ.
“ما الذي تعتقد أنني أعرفه، حتى تُهدّدني هكذا؟”
بالتأكيد، كان عليّ أن أنحني للإمبراطور.
كان عليّ أن أطلب منه حماية لُــو.
لكن بالنظر إلى ردّة فعله، شعرتُ أنه سيعتني بلُــو حتى دون أن أطلب الحماية.
لهذا السبب كان عليّ استغلال هذا الأمر أكثر.
لم يكن هدفي مجرّد إنقاذ لُــو.
بل كان إيقاف خطّة بايلور وإنقاذ الناس.
لذا، لم يكن لديّ خيارٌ آخر.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات