1
001. ضيف غير مرحَّب به
كانت هناك سيارة متوقفة أمام المنزل. لم ترَها من قبل أبدًا.
وكانت بالفعل سيارة. لا عربة تجرّها الخيول.
كتلة سوداء انسيابية من المعدن وقفت شامخة وسط الرذاذ. أنيقة ومهيبة. لكن كلير كانت مرهقة جدًا لتشعر بغرابة الأمر.
‘سأتزوجكِ.’
تلك كانت الكلمات التي سمعتها قبل عشر دقائق فقط. عرض زواج، ولا أقلّ.
‘أنتِ لا تملكين شيئًا الآن، أليس كذلك؟ لذا سأكون كريمًا وآويكِ. فقط تعالي معي.’
من ذا الذي قال إن عرض الزواج لا يمكن أن يبدو كمنّة؟
ازدرت كلير مرارةً صاعدة إلى لسانها، ونظرت إلى توبي، الذي كانت تعتبره يومًا صديقًا. ثم أجابت ببساطة.
‘لا.’
‘أتظنين نفسكِ مميزة؟ الفضل لوالديكِ، لا لكِ.’
‘توبي.’
‘لنكُن واقعيين. لا تملكين شيئًا، أليس كذلك؟ والداكِ العظيمان ماتا، والإرث الذي تركاه تافه، وكل ما تملكينه الآن وجهٌ لا بأس به وصِغَرُ سن!’
حدّقت كلير في الشاب الصائح غيظًا، بصمت.
‘كفّي عن التظاهر بالتعالي وتزوجيني فحسب. لا تكوني حمقاء.’
‘لا أدري. أليس الزواج بك هو الحماقة بعينها؟’
‘ماذا؟’
‘فكّر فيما قلتَ لتوك. لو كنتَ مكاني، هل كنتَ لتتزوج نفسك؟’
أتُراه ذلك بريقُ خجل في عيني توبي؟ أم أنه محض خيال؟
لم يكن الأمر ليعنِيها.
زفرت كلير تنهيدة قصيرة وأنهت الحديث.
‘إذن، لا.’
‘كلير.’
‘لا أريد أن نلتقي مجددًا.’
وكان ذلك حين كانت كلير تراجع بعناية خططها للمستقبل.
“آنسة وايد.”
توقّفت كلير وأمالت مظلتها قليلًا إلى الوراء. عندها فقط لاحظت وجود السيارة ومن يقفون حولها.
الرجل الذي بدا أنه ناداها كرر سؤاله.
“هل أنتِ الآنسة كلير وايد؟”
“نعم.”
“…حقًا؟”
“كلٌّ من اسم كلير ولقب وايد شائعان إلى حدّ ما، لكن إن كنتَ تبحث عن ابنة جوناثان وآيرين وايد، فأجل، أنا هي.”
لم يأتِ ردّ.
فتح أحدهم مظلّةً ببطء، بينما طرق آخر باب السيارة الخلفي مرتين، ثم فتحه.
وأخيرًا، خرج صاحب السيارة بنفسه.
كان يبدو في أواخر الأربعينيات أو أوائل الخمسينيات من عمره. منحه العمر والوزن مظهرًا مهيبًا، لكنه كان على الأرجح وسيمًا في شبابه.
ومن بين الرجال في مثل سنّه الذين التقتهم كلير، كان بلا شك الأرفع هيبة. عيناه الرماديتان العميقتان كانتا تخترقان كل ما حوله.
“هذا هو دوق برتراند.”
قدّمه أحد المرافقين.
“أنا ألكسندر سايبريس.”
قالها بصوت جهوري مهيب.
صافح الدوق يد كلير الممتدة بحذر، مصافحةً سريعة.
“أعلم أن مجيئي متأخر، لكنني أتيتُ بعدما بلغني نبأ رحيل آل وايد. مأساة بحق. كل من له أذنان لا بد أن يأسى لهما.”
“شكرًا لك. لو سمع والداي كلماتك، لسرّهما الثناء.”
“ليس ثناءًا. بل هو تقييم منصف لما خلّفاه من إرث، أليس كذلك؟”
“أكرر شكري على لطفك. حقًا.”
“لا داعي.”
جوناثان وايد، المؤلف الموسيقي الشهير، وآيرين وايد، السوبرانو الأسطورية.
قبل شهر، لقيا حتفهما في حادث عربة مأساوي. قبل أن يكونا والدي كلير، كانا عبقريّين تركا أثرًا لا يُنسى في تاريخ الموسيقى.
ومن الطبيعي أن يتدفّق الحزن من أوساط الموسيقى وطبقة النبلاء على حدّ سواء.
دوق تيران، إيرل شيفيلد، فيكونت بينينغ، الشاعر الشهير روري دايز، وغيرهم كثير.
كانت العربات الفاخرة تتوقف أمام منزلها متى ما راق لها، وحتى خدم البلاط الملكي بزيّهم الرسمي طرقوا الباب.
لذا لم تكن زيارة دوق أمرًا مستغربًا. أخرجت كلير المفتاح من جيبها وقدّمت دعوة مهذبة.
“البيت متواضع، وأشعر بالحرج أن أستقبل فيه ضيفًا بهذا المقام، لكن هل تود الدخول قليلًا؟”
“أظنني سأفعل.”
حتى الآن، كان جميع النبلاء الذين جاؤوا لتقديم تعازيهم يضعون على وجوههم تعابير متغطرسة، ويتحدثون بحماسة عن أحزانهم الخاصة وهم يواسونها.
ولهذا توقعت كلير أن يكون هذا الرجل على ذات الشاكلة.
لكن، في منتصف شربه للشاي تقريبًا، أثار الدوق موضوعًا لم تكن لتتخيله أبدًا.
“هل تبيعينني تلك اللوحة إن عرضتُ عليكِ ضعف ثمنها؟”
حوّلت كلير نظرها نحو الجهة التي أومأت إليها، ثم ترددت، فسألت مرة أخرى.
“تلك اللوحة المنظرية…هل تتحدث عنها؟”
“نعم. رغم أنني أحب إلى حدٍّ ما صورة السيد والسيدة وايد المعلّقة إلى جانبها، فإنني لم أستطع أخذ لوحة عائلية من ابنتهما الوحيدة، أليس كذلك؟”
“…….”
“كلا العملين رُسما بيد الفنان ذاته. لكنني لا أتعرف على هذا الأسلوب.”
نهض الدوق هذه المرة بنفسه، وسار نحو اللوحة. وضع يديه خلف ظهره وراح يتأملها بجدية. وكلير، وهي تراقب وقفته الوقورة، أمسكت طرف تنورتها لا شعوريًا.
“ثمّة موهبة واضحة هنا. ضربات فرشاة جريئة، وتكوين مميز.”
“…….”
“هل تعلمين من أين تم اقتناء هذه اللوحة، آنسة وايد؟”
“لم تُشترَ.”
“هدية، إذن؟”
يبدو أن عيني الدوق بلغتا أخيرًا الركن السفلي الأيمن من اللوحة. وبعد أن تأكّد من التوقيع المثبت هناك، استدار ببطء.
أومأت كلير بصوت خافت.
“أنا من رسمها.”
“آوه، حقًا!”
انفجر الدوق ضاحكًا. وأربك كلير للحظة، إذ لم تفهم مغزى تلك الضحكة المفاجئة. وبعد جولة طويلة من الضحك الصاخب، استعاد رباطة جأشه أخيرًا.
“معذرة. ليس بالأمر المضحك، أعلم.”
وربما شعر بشيء من الحرج، ففرك مؤخرة عنقه بيده.
“لكن من كان ليتخيل؟ فتاة وُلدت لأبوين يُعدّان تجسيدًا للموسيقى، وتكون موهوبة في الرسم كذلك….”
“شكرًا لك.”
“همم.”
وكأن فكرة ما خطرت له فجأةً، فصفّق بأصابعه.
“حسنًا، آنسة وايد. سأدخل في صلب الموضوع. هل تقبلين بأن أكفل موهبتكِ؟ أعنيها بأصدق معانيها.”
“…هل تقصد أنك تودّ أن تطلب لوحة؟”
“نعم.”
عاد الدوق إلى الأريكة وجلس في راحة. وومضت في عينيه الرماديتين نظرة خفيفة من المكر.
“ما نوع اللوحة التي ترغب بها؟”
“بورتريه. صورة شخصية ليّ.”
“فهمتُ.”
“بما أنكِ في بداية مشوارك، فلن أقدّم مبلغًا يدهشكِ. لكنني أعدكِ، سيكون كافيًا لإطلاق مسيرتكِ كرسّامة.”
صورة شخصية للدوق برتراند….
“أوافق.”
هل كان ردّها سريعًا أكثر مما ينبغي؟ رفع الدوق حاجبه قليلًا متظاهِرًا بالدهشة.
“هل أنتِ واثقة، آنسة وايد؟”
“وما المشكلة في ذلك؟”
“إنها صورة شخصية، في نهاية المطاف. سيتوجب عليكِ مرافقتي.”
فلكي ترسم رسامٌ بورتريه لشخص، لا بد أن يفهمه. وهذا يعني أن على كلير أن تمكث قرب الدوق لبعض الوقت لتراقبه.
وقد كانت تفكر أصلًا في مغادرة هذا المنزل لأسباب كثيرة، لذا كانت هذه الدعوة في الحقيقة موضع ترحيب.
أخذت كلير لحظة لتفهم مشاعرها. آه، هكذا إذن؟ الإحساس الذي يحيط بها الآن لا يمكن أن يكون سوى إشارة إلى مفترق طرق في حياتها.
“لا بأس لديّ.”
“صريحة.”
ولسبب ما، وجد الدوق إجابتها البسيطة مسلّية جدًا، فضحك بمرح.
وهكذا، بعد أسبوع واحد،
استقلت كلير القطار برفقة الدوق.
قطار متجه إلى المنطقة الشمالية من مملكة لينور، نحو أراضي دوق برتراند.
* * *
تحت السماء الصافية، اخترقت كرة تنس الهواء بقوة. انزلقت إلى مساحة مفتوحة في الجهة المقابلة من الملعب وسقطت بدقة.
ضربة عابرة.
وانفجرت التصفيقات عند هذا الأداء المحكم. أطلق الحكم صفارة قصيرة، معلنًا نهاية المباراة، وتبادل اللاعبان مصافحة خفيفة.
“شكرًا لك على المباراة الرائعة، سينيور.”
“وأنا كذلك.”
ربت دانيال على كتف زميله الأصغر بابتسامة مشرقة، ثم أومأ تقديرًا لزميل آخر كان يشغل منصب الحكم.
“لقد كنتَ مذهلًا، دانيال. لم أرَ من قبل ضربة، لكرة التنس، بهذه الدقة.”
التفت دانيال جانبًا فرأى صديقه القديم تشارلز يغمز له بخفة. ابتسم تشارلز وانحنى له انحناءة صغيرة.
“أجل. كان هناك عدد لا بأس به من الفتية يراهنون على خسارتك اليوم لأنك بدوت شاردًا. وأنا حصدتُ مبلغًا لطيفًا منهم!”
رمقه دانيال بنظرة طويلة، فردّ تشارلز برمشات متباهية ووجه خالٍ من الحياء.
“قلتُ لك ألا تقامر. اذهب وأعد المال.”
“هيه! قاسٍ جدًا كلامك!”
“…….”
“نعم يا سيدي، فهمتُ.”
سواء عبس تشارلز أم لا، مضى دانيال في طريقه بخطى وادعة. كان من المفترض أن يصل خدم العائلة في وقت لاحق من هذا اليوم، لذا حان الوقت ليستعد للعودة إلى المنزل.
“دان، دان. دانيال؟”
“ماذا؟”
“نحن نخطط لحفلة ضخمة أثناء العطلة، فقط نحن الأولاد. ستحضر، أليس كذلك؟”
“أين؟”
“في فيلتي في بورنيس. سأنزل هناك من يوليو وحتى نهاية العطلة، فمرّ وقتما شئت.”
بورنيس. بلدة ساحلية صغيرة في الشمال الغربي، مشهورة بمناظرها الخلابة ومزدحمة بفيلات العائلات النبيلة.
حتى عائلة برتراند الدوقية تملك فيها فيلتين.
“ستحافظ على نظافتها، أليس كذلك؟”
سؤال دانيال جعل تشارلز يتلعثم.
لا، لا يمكن لهذا أن يحدث الآن.
كان على وشك أن يهتف، ‘كيف لأولاد فقط أن يقيموا حفلة نظيفة؟’ لكنه تمالك نفسه وصمت بحكمة.
أكان ذلك في العام الماضي؟
جورج فيليبس، الذي اعتاد أن يحيا حياةً متفلتة، كان آنذاك خاضعًا تمامًا لنفوذ دانيال. أما أصل المشكلة فكان تسليمه مسحوقًا غامض الهوية.
‘هذه الحفلة مملة.’
قال أحدهم بهذه الكلمات في وجه المضيف، ثم ركل الطاولة فقلبها رأسًا على عقب.
انفجرت الأجواء، وانهار الحفل كليًّا. وبينما جمد الجميع في أماكنهم مترقّبين ردّة فعله، كان دانيال الوحيد الذي ارتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة.
‘جورج فيليبس.’
‘…آه، آهه، هاه؟’
‘تريدني أجعلها ممتعة؟’
لم يرفع دانيال شكوى في ذلك اليوم، لكن، وكما هو متوقع، بدأ جورج يتجنبه منذُ ذلك الحين.
استفاق تشارلز من ذكرياته وزفر تنهيدة عميقة.
إذا لم تكن الحفلة نظيفة، فلا مفر من أن تتحوّل إلى ما يعتبره دانيال ‘ممتعًا’.
لكن، إن أقاموها بتهوّر ولم يدعوه…نظر تشارلز إلى صديقه بمزيج من الإعجاب والرهبة.
دانيال ألكسندر فيليب سايبريس.
الشاب الواعد الذي سيغدو ذات يوم الدوق الثالث لبرتراند، والذي لم يكن مفاجئًا أنه يأسر أنظار الجميع من حوله.
كان يحمل في سحنته رقيّ النسب النبيل. تقاطيع وجهه المصقولة ورثها من والدته، التي كانت ذات يوم من أجمل نساء جيلها.
كل تلك السمات اجتمعت لتكوّن حضورًا يسحر أي ناظر.
فتًى لم يتخلّص تمامًا من ملامح الطفولة، لكن إشراقه كان يضجّ بوميض من تمرّد خطر. غطرسة مهذبة، ورزانة مترفعة، وأناقة منفلتة من القيود.
أبهى صور الشباب، متجسّدة.
ولا يمكن لـ تشارلز بالطبع أن يستثني صديقًا كهذا من حفلة ينظّمها.
بالطبع.
اتخذ تشارلز قراره بحزم.
“ستحافظ على نظافة الحفلة، واضح؟”
“أكيد.”
“وستحضر، أليس كذلك؟”
“نعم.”
أومأ دانيال بهدوء.
أردف تشارلز ببعض الأحاديث المتناثرة، ثم أوصل رسالة يُرجى فيها إبلاغ العائلة تحياته، واستدار منصرفًا.
خفتت خطاه شيئًا فشيئًا في البعيد، وفوقهما امتدّت السماء الزرقاء. صافِيَة على نحو بدا وكأنها لوحٌ من رسم.
كان الطقس مثاليًّا للعودة إلى المنزل.
كانت أخته الصغرى، فرانسيس، في رحلة سفر في الوقت الحالي، لذا لن يجد في الدوقية إلا والده.
…أو ربما ‘الضيفة’ التي دعاها والده كذلك.
نقر دانيال لسانه بضيق.
يُتبع….
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 1 - ضيف غير مرحَّب به 2025-05-08
التعليقات لهذا الفصل " 1"