3
قالت وهي تتلعثم:
“أتدرين كم خفت عليك؟”
فتساءلت سولهـا مترددة:
“بسبب أني… اختفيت؟”
كان الأمر أعجب من أن يُظن مجرد تمثيلٍ أرادوا به مساعدتها.
‘هذا مبالغ فيه.’
الحرقة في صوت المرأة، والاحترام الصارم الذي انطبع في نظرات الرجل حين تصدى لصفعة “هوانغ” لم تكن طبيعية البتة.
“هل أصابك أذى يا آنسة؟ ذاك الوغد الحقير لم يمدّ يده عليكِ؟ لم يجرؤ على إيذاءكِ؟”
كانت نظرات المرأة حين تقع على سولهـا مليئة بالأسى، لكن ما إن التفتت إلى هوانغ حتى صارت حادة كالسكين.
قالت سولهـا بهدوء:
“أظن أن معصمي التوى قليلاً.”
صرخت المرأة وقد مدّت يدها:
“معصمكِ؟ دعيني أنظر إليه حالاً!”
فأوقفتها سولهـا بحزم:
“لا، هذا ليس مهماً الآن. هناك ما هو أَولى.”
ثم خطت بخطوات ثابتة نحو هوانغ، لكن الشاب الذي كان يقيّده عاجلها بصرامة:
“دعيني أتكفّل به، يا آنسة.”
أجابته ببرود:
“لا حاجة لذلك.”
صحيح أنها لم تفهم بعد سبب وجودها في هيئةٍ مزرية في السوق، لكن هناك ما استعجل الأمر أكثر من ذلك.
“ما زال بيننا كلام لم يُحسم بعد.”
وقفت قبالته مباشرة:
“لم تجبني بعد، يا عم. إن لم أكن أنا السارقة، فماذا ستفعل حينها؟”
عندها فقط أدرك هوانغ فداحة الموقف، وازداد وجهه شحوباً. فقد بات واضحاً أن هؤلاء الناس ذوو المهابة يعاملون تلك الطفلة البائسة كأنها “آنسة” ذات شأن.
قال بصوت مرتجف:
“ماذا… ماذا تريدين إذن؟”
فأجابته سولهـا بنبرة باردة كالجليد:
“أولاً، اعتذار.”
اعتذار حقيقي، ومن ثم التعويض المادي الذي يستحقه.
وإن لم يُعطِه طائعاً… فسوف تُجبِره على ذلك.
رمقته بعينين تقدحان شرراً.
لكن هوانغ أخذ يلتفت مضطرباً حوله. ولم يجد في الوجوه المحيطة أي نصير. على العكس، كانت همسات السوق كلها تشهد عليه وتدين كذبه.
قالت سولهـا بحدة:
“عجيب! يوم كنتُ بملابس بالية لم تتردد في وصمي بالسرقة، أما الآن وقد تغيّر المشهد بعض الشيء، صرت تتلعثم؟”
تلعثم ثم صاح بعناد أعمى:
“أقسم أني رأيتكِ بعيني! وإن كنتِ آنسة من أسرةٍ ما، فلا يليق بك أن تسرقي من متجري! يجب أن تصلحي عادتك!”
كاد المرافقان يتدخّلان، لكن سولهـا رفعت يدها مانعة:
“لا حاجة. أعرف هذا النوع جيداً. لن يعترف بخطئه أبداً ما دام كبرياؤه قائماً.”
ثم أضافت في نفسها:
“إن لم أضع له حدّاً اليوم، سيستمر في ظلم الأطفال المشردين كل يوم.”
رفعت صوتها بحزم:
“بما أنك تُصرّ، سأثبت لك العكس.”
وحلّت رباط خصرها، فصرخت المرأة خلفها مذعورة:
“آنسة! لا، لا تفعلِي ذلك!”
لكن سولهـا لم تُعرها انتباهاً. فتحت الرداء المهترئ، فلم يظهر سوى ثياب داخلية بيضاء ضيقة التصقت بجسدها، بلا جيوب، ولا أثر للحلوى المزعومة.
أمسكت ثوبها الممزق ولوّحت به أمام الناس:
“ترى؟ لا أثر لأي سرقة. والآن، دورك أن تُظهر اعتذاراً صادقاً.”
تراجع هوانغ وقد خارت قواه. كل ما خطط له انقلب عليه.
قالت بتهديد صريح:
“انزع عنك الأوهام، وإلا دفعت الثمن غالياً.”
ابتلع ريقه بصعوبة:
“لـ… لابد أن هناك سوء فهم.”
ابتسمت بخبث:
“سوء فهم؟ ربما. لا بأس. لكن يبدو اعتذارك بلا أي صدق.”
ثم أشارت إلى معصمها وإلى ثوبها الممزق:
“بسببك التوى معصمي، وامتلأت ملابسي بالوحل حتى صارت بالية. أظن أن التعويض واجب.”
شهق هوانغ:
“ماذا؟! ملابسكِ كانت بالية من البداية!”
ضحكت سولهـا ببرود، فيما تعالت همهمات الناس حولهم:
“صحيح، انظروا كم اتسخت ملابسها الآن!”
“هوانغ هذا معروف ببطشه، ليس غريباً أن يمزق ثوباً كهذا!”
بدأت السوق كلها تسخر منه.
قالت سولهـا بابتسامة واسعة:
“إذن، ملابس جديدة على الأقل. أليست هذه أبسط حقوقي؟”
صرخ بانفعال:
“تريدينني أن أدفع ثمن هذا الخراب؟!”
فخطت خطوة للخلف وأشارت إلى رفيقيها:
“إن لم يعجبك، ناقش الأمر مع هؤلاء.”
فور أن لمح الرجل السيف المتدلّي من خاصرة المرافق، انهار تماماً:
“سأدفع! سأعوّضكِ! فقط دعيني!”
صفّقت سولهـا مسرورة:
“هكذا يكون الكلام.”
انفجرت السوق ضاحكة، وأخذ الناس يتهامسون:
“لقد نال جزاءه أخيراً.”
“طالما أذلّ الأطفال المشردين، واليوم وقع في شرّ أعماله.”
“لن يجرؤ ثانية أن يرفع يده على الضعفاء.”
أدارت سولهـا رأسها جانبا وتنهّدت بخفة:
“رجل بائس، دنيء الطبع، ووقح حتى النخاع.”
ثم أضاءت عيناها بمكر:
“وحين يكون الخصم بهذا السوء… يجب أن تُستخرج منه أقصى فائدة ممكنة.”
سرعان ما تفرّق المتفرجون واحداً تلو الآخر، وإذا برداءٍ عريضٍ يُلقى فوق كتفي “كيم سولهـا”.
قال الرجل وهو يربّت الرداء بإتقان وقد جثا على ركبتيه أمامها:
“ما كان يلزم أن تُجهدي نفسكِ إلى هذا الحد.”
رمشت سولهـا بدهشة وهي تحدّق فيه.
فأجابها بثبات:
“بل كان يجب. أمثال هذا الرجل، إن لم تُحكم العقدة جيداً، ظلّ يضمر الحقد ويبحث عن فرصة لينقضّ ثانية.”
هكذا كان العالم الذي خبرته سولهـا: إن ظهرت ضعيفاً، انقضّوا عليك ومزّقوك.
ابتسمت بخفة وقالت:
“لعلني على الأقل منعتُه من إلصاق تهمة السرقة بأطفال الشوارع من جديد.”
– “…….”
“إن تركناه يمرّ بلا حساب، سيتوهم أنه كان على حق، ويتمادى أكثر.”
تنهد الرجل وقال بقلق:
“إنما أخشى إن تصرّفتِ هكذا ونحن لسنا إلى جانبك، أن تتعرضي لخطر حقيقي.”
توقفت سولهـا عند كلماته.
صحيح… لقد نسيت أن هذا لم يعد عالمي. هنا، يبدو أن القبضة أقرب من القانون.
إن لم أتعامل بحذر، فقد أتعرض لمصيبة أشد من تلك قبل قليل.
رأى الرجل لمحة الإدراك في وجهها فاطمأن.
وفي تلك الأثناء، جاءت المرأة وهي تحمل حذاءها الذي لم تدر متى سقط منها، وجثت عند قدميها.
“قدماك مليئتان بالجروح.”
ارتعشت سولهـا لمّا لامستها أنامل المرأة برفق.
“كان يجب أن نعود حالاً إلى الدار لعلاجك، لكن…”
مسحت قدميها بأكمامها، ثم أعادت إلباسها الحذاء، ورفعت عينيها إليها:
“لكن… لن تفعلي ذلك الآن، أليس كذلك؟”
أومأت سولهـا بثقة:
“لا. ما زال هناك ما يجب أن آخذه أولاً.”
زفرت المرأة تنهيدة طويلة ونهضت واقفة:
“ما بالك، دوون؟ لمَ لا تحمل آنستنا؟”
قالت سولهـا على عجل:
“تحملني؟ لستُ بحاجة لذلك.”
لكن المرأة ردّت:
“قلتِ إن معصمك فقط ملتوي، لكن كاحلكِ أيضاً متورّم.”
أطرقت سولهـا بعينيها. متورّم؟ لم أنتبه حتى…
وإذا برؤيتها ترتفع فجأة، فقد رفعها “ها دوون” بين ذراعيه.
“قد يزعجكِ قليلاً، لكن تحمّلي.”
كان يطلب إذناً، لكن من نظرته عرفت أنه لن يتراجع. فأومأت سولهـا بلا اعتراض.
على الأقل، باتت واثقة الآن أن هؤلاء يقفون في صفّها.
في تلك اللحظة، دوّت المرأة بصرامة في وجه التاجر “هوانغ”:
“أما زلتَ واقفاً؟ هات المال فوراً، ثمن الثوب والعلاج!”
ارتبك هوانغ وأدخل يده في جيبه:
“ح- حالاً… حالاً!”
قالت المرأة ببرود جارح:
“لا تنسَ، ثياب آنستنا ليست رخيصة.”
رمش هوانغ متحيراً، فسولهـا أوضحت بابتسامة باردة:
“بكلمة أخرى: ادفع الثمن كاملاً.”
اسودّ وجهه وقد فهم أن المسألة لن تُغلق بقطع نقدية معدودة.
أدار “ها دوون” جسده قليلاً فأبان مقبض السيف عند خصره، فما كان من هوانغ إلا أن خنع وقال:
“سأدفع… سأدفع!”
وأخرج ثلاث سبائك فضية. لكن نظرة المرأة الحادة جعلت يده ترتجف. وتحت ضغط العيون، اضطر لإخراج ما خبّأه في نعله… ثم ما تحت ثيابه… حتى نزع آخر قرش أخفاه في ملابسه الداخلية.
جلس منهكاً يكاد يبكي، يلعن خسارته.
التفتت المرأة إلى سولهـا بعد أن تحققت أنه لم يبق لديه شيء، بينما كانت سولهـا تراقبها بإعجاب:
“ما أبرعها! تعرف متى تشدّ ومتى ترخي، حتى استنزفت الرجل حتى آخر قطعة نقود.”
ابتسمت وقالت:
“يكفي هذا.”
ثم وجهت إنذاراً أخيراً:
“اغرب عن وجهي. لكن إياك أن تعود إلى ظلم الناس، وإلا فلن تنجو المرة القادمة.”
فما كان من هوانغ إلا أن فرّ هارباً كالمجنون.
تأملت المرأة النقود في يدها بوجه غير مرتاح.
سألتها سولهـا:
“ما بالك؟ أهناك شيء يريبكِ؟”
هزّت المرأة رأسها ببطء:
“لا… ليس الأمر هكذا. إنما أردتُ أن أقول إنكِ لستِ مضطرة إلى أن تُرهقي نفسكِ بهذا الشكل. كان يمكننا تدبّر الأمر.”
ماذا؟ ابتزاز رجل سيّئ كهذا؟ ما المشكلة؟
لم تفهم سولهـا، لكن التزمت الصمت. أجابت نفسها:
لو سألتُ الآن، سيبدون عليّ غريبة حقاً…
فغيّرت المرأة الموضوع وقالت بنبرة جادّة:
“انتهى الأمر هنا. لنعد إلى الدار يا آنسة.”
أومأت سولهـا.
ما هذا الحظ؟ لم أكن أعلم أن لي بيتاً أصلاً، فإذا بي أُعاد إليه مكرّمة!
أخفت ابتسامتها واكتفت بالصمت. الأفضل ألا تنطق بما قد يفضح جهلها.
وبين ذراعي “ها دوون”، أخذ جفناها يثقلان.
آه… ما أدفأ هذا الحضن.
اختفى التوتر، وغرقت في عتمة النعاس.
عادوا بها إلى الدار، وهناك قضت سولهـا أربعة أيام طريحة الفراش، محمومة تتأرجح بين الوعي والغياب.
“آنستي، حاولي تناول الدواء.”
“مممم…”
كانت تغيب عن الوعي بفعل الحمى، ثم تستيقظ قليلاً لتشعر بيدٍ باردة على جبينها، وبصوتٍ قلق يهمس بجانبها:
“ليت آنستنا تُشفى سريعاً…”
وما تلبث أن تعود للغياب.
أربعة أيام كاملة مرّت، حتى استعادت وعيها، وبعدها بقليل راجت إشاعة في الدار:
أن سولهـا، بسبب الحمى الشديدة، فقدت ذاكرتها وصارت غبية!
وبينما انشغل الجميع بتلك الشائعة، كانت سولهـا غارقة في همٍّ آخر.
“اللعنة… هذا مصيبة بحق.”
تمتمت وهي تحدّق بغضب في الشيء القابع أمامها…
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"