حين عادوا من هونغهوا لو لم يسلكوا الطريق المزدحم الذي جاؤوا منه، بل أُرشدوا إلى طريق جانبي مقفر لا يكاد يمر به أحد.
قال جيك رانغ، الذي خرج بدلاً من رئيس فرع كانغسو ليرافقهم:
“هاه، كنتُ أظنّك ستتوسل للعودة مجددًا. يبدو أن دورك كالمربية راق لك، أليس كذلك؟”
فأجابه ها دو-وون ببرود، وهو الذي تجاهل كل سخرياته طوال الطريق ولم يرد عليه إلا هذه المرة:
“كم مرة قلت لك أن تكف عن عادة تحريك لسانك بلا ضوابط؟”
ابتسم جيك رانغ باستهزاء:
“ها؟ هل فقدت صوابك بعد أن ظللتَ تجري وراء طفلة صغيرة تخدمها في كل شيء؟”
تجهم وجه جيك رانغ عندما أدرك أن دو-وون ردّ أخيرًا.
أما كيم سول-ها فحبست أنفاسها وهي تراقب ملامح دو-وون المتصلبة وهو يحدق به ببرود.
قال دو-وون بصرامة:
“لستَ أهلاً لأن تطلق لسانك بما يحلو لك.”
رد جيك رانغ ساخرًا:
“كنتُ أظنك مجرد مربية، فإذا بك صرتَ كلبًا مطيعا بامتياز!”
عند تلك الإهانة تجمد وجه كوم سول-ها.
فقد التزمت الصمت من قبل بدافع الفضول عن طبيعة علاقة الاثنين، لكنها لم تستطع أن تسكت أكثر.
غير أن دو-وون سبقها بخطوة:
“إن تلفظت بكلمة أخرى فلن تعود سالمًا.”
عيناه الغائرتان تحدقان فيه ببرود مخيف، وكأن كلماته وعدٌ حقيقي.
ضحك جيك رانغ باستهزاء:
“كنتُ أظنك كلبًا أفلت من قيده، فإذا بك لا تزال مربوطًا بالسلسلة!”
“ومن الأجدر أن يتحدث عن ذلك؟”
رد دو-وون.
قهقه جيك رانغ:
“هه، أما أنا فكنت أسدي لك نصيحة فحسب!”
“أتظنني مختلفًا؟”
“هذا جنون صريح.”
رفع جيك رانغ يده وأخذ يدورها بجانب رأسه كأنه يشير إلى أنه فقد عقله تمامًا.
عندها فاض صبر كيم سول-ها.
“لماذا تثير الشجار باستمرار؟”
“هاه؟”
“سواء كان مربيًا لي أو يدي اليمني التي بها، فما شأنك أنت لتتدخل؟”
انفجرت سول-ها غاضبة بعدما كبحت نفسها طويلًا.
أن يتدخل جيك رانغ في شؤون دو-وون وكأنه يعرفه أكثر منها أثار ضيقها.
ابتسم جيك رانغ باهتمام جديد واقترب منها:
“ظننتك قطة وديعة، لكن يبدو أنك لستِ كذلك.”
فعقدت حاجبيها ولوّحت بيدها وصفعته على جبينه بقوة.
“آخ!”
“ابعد وجهك! إنه يثير اشمئزازي!”
“ماذا… ما هذا؟!”
لم يتخيل جيك رانغ قط أن طفلة صغيرة ستصفعه على جبينه، فتلعثم مذهولًا.
عندها جذب دو-وون كُم ردائه ومسح به يد سول-ها قائلًا ببرود:
“لا تدعيه يلمسكِ يا آنسة، قد يعديك بغباءه.”
سألت سول-ها مباشرة:
“هل أنت مقرب منه، ها دو-وون؟”
توقف دو-وون لحظة ثم قال:
“لنقل إنها صلة قديمة.”
قطع كلامه بحزم كالسيف، فتشوه وجه جيك رانغ:
“لا أحد عادة يسمّي رفيقًا أنقذ حياته وخاض معه المعارك صِلة قديمة!”
“رفيق سلاح؟”
تطلعت سول-ها بين الاثنين بذهول، غير مصدقة.
صرخ جيك رانغ منزعجًا:
“أنا من أنقذت حياته، وهو أيضًا قاتل معي جنبًا لجنب! والآن يتظاهر بالتعالي!”
سول-ها سألت بدهشة أكبر:
“كنت صديقًا له؟ وكان يقاتل معك؟”
ضحك جيك رانغ بمرارة:
“يبدو أنكِ من عائلة نبيلة فعلًا، فلا تعرفين أي نوع من الرجال هو.”
زمجر دو-وون:
“اصمت.”
كانت نبرته منخفضة ومهددة جعلت سول-ها تنظر إليه بصدمة، فهذه أول مرة تراه يخرج عن هدوئه.
لكن جيك رانغ ابتسم بخبث وقد أدرك أنه وجد موضع ضعفه:
“أنا فقط أجيب عن سؤال آنستك. هل يزعجك ذلك أيضًا؟”
ثم التفت إلى سول-ها وقال ببطء:
“أتعرفين يا آنسة من هو الرجل الذي يحملُكِ الآن؟”
رفعت رأسها بفضول، تحدق به رغم أنها لم تستطع تصديقه تمامًا.
لكن بدا أن له ماضٍ ما مع دو-وون بالفعل.
قال جيك رانغ:
“المقاتلون المرتزقة في عالم الفنون القتالية يتقاضون أجرًا بحسب مهاراتهم وسمعتهم. وأتعرفين؟ أجرة هذا الرجل كانت من الأعلى في كانغسو!”
“أجرة… دو-وون؟”
ابتسم بخبث:
“لو استمر أكثر، لكان أجره ينافس الأعظم في العالم كله، لا في كانغسو فقط.”
شهقت سول-ها:
“دو-وون… كان مرتزقًا؟”
تلألأت الدهشة في عينيها، فلطالما خُدعَت بمظهره المنضبط ولغته الراقية.
فلم يخطر لها قط أن أصله مرتزق.
أكد جيك رانغ:
“بل كان المرتزق الوحيد في كانغسو الذي يحمل رتبة الدرجة الخاصة.”
ارتسمت على وجهه لمحة من حنين، وكأن ذكريات الأيام التي عاشها كأنها آخر أيام حياته قد مرت أمام عينيه.
لكنه أزاحها، فقد انتهى كل ذلك.
“إن أردتِ أن تجعليه تابعًا لكِ، فمن الأولى أن تعرفي أي وحش كان في الماضي، وهل كان رجلًا سويًا أصلًا.”
ثم انحنى فجأة ودس وجهه قريبًا منها:
“الأجدر بكِ أن تحذري، يا صغيرة.”
وأضاف بلهجة خافتة يغمرها شيء من المرارة:
“قد يبدو هادئًا الآن، لكنه لم يكن يومًا جروًا يمكن ترويضه.”
زمجر دو-وون:
“قلتُ لك ألا تهذي.”
ابتسم جيك رانغ ببرود:
“وأنا لم ألفظ بكذبة واحدة. من الأفضل أن تعرف الصغيرة الحقيقة من لساني، لا أن تسمعها من غيري لاحقًا.”
تصلبت نظراتهما وهما يتواجهان بحدة.
عندها مدت سول-ها يدها وسحبت ثوب دو-وون من الأمام، كأنها تستنجد به.
“يكفي، لنذهب يا ها دو ون.”
نظر إليه جيك رانغ بدهشة، وكأن الأمر غير متوقع.
كان يظن أن كيم سول ها، بعدما أثار شكوكها، ستسأل ها دو ون عن أشياء كثيرة.
“سنصل متأخرين هكذا.”
لكن عيني كيم سول ها النقيتين، الموجهتين نحو ها دو ون، لم تحملا أي شك أو ريبة، بل ثقة خالصة فقط.
“هذا خارج توقعاتي.”
مال جيك رانغ رأسه قليلًا، مستاءً.
لقد وخزها بما يكفي لتثير بلبلة، ومع ذلك لا أثر للشقاق.
“أقول فقط، يا آنسة… من الأفضل لك أن تعرفي لماذا وطأت قدما هذا الرجل قصر كيم رين .”
فجأة تجمّدت الأجواء المريحة التي بدأت تذوب، وتحولت إلى برودة جليدية تقشعر منها الأبدان.
“لماذا؟ أتعجز أن تقولها بنفسك؟”
“…….”
“صحيح أن أي شخص سيتوجس من ذلك. لكن إن كنتِ قد قررتِ أن تجعلي هذا الفتى حارسك، أليس من الواجب أن تعرفي على الأقل هذا القدر؟”
بردت عينا كيم سول ها أكثر، وتجعد حاجباها بشدة.
“هيه… ماذا تحاول أن تفعل؟”
“همم؟”
“من تكون لتتجرأ وتتحدث عن ها دو ون هكذا بلسانك؟”
“كنتُ أظنها لفتة طيبة.”
قهقهت كيم سول ها بسخرية باردة.
أي لفتة؟ كان واضحًا أنه يحاول جرح ها دو ون بأي طريقة.
“لا حاجة لارشادك لنا إلى المخرج، لذا كفّ عن ألاعيبك وارحل.”
“ذكية في الفهم.”
“لن ترحل؟”
“لسانك فظ.”
تفحصها جيك رانغ من الأعلى للأسفل بعينين متفحصتين، ثم ارتسم على وجهه تعبير غريب.
“أعرف طفلة تشبهك كثيرًا.”
“قلت لك، اخرس وارحل.”
ضحك جيك رانغ ضحكة قصيرة وهو ينظر إلى كيم سول ها الغاضبة.
“تمامًا كأنك تربي طفلة تشبهك.”
“قلتُ لك ألا تتدخل في شؤون غيرك، و ألا تذكر سيدتي على لسانك.”
“هل أنت من ربّاها لتصبح بهذه الطباع؟ يبدو أن مزاجها ليس بالهين.”
رفعت كيم سول ها عينيها بحدة.
كيف يتجرأ هذا الرجل، الذي يبدو أن طباعه أفظع من الجميع هنا، أن يتحدث عن غيره بهذه الطريقة؟
“حسنًا، سأمنحك معروفًا.”
“ماذا؟”
“لا تثقي بمدير الفرع ثقة عمياء، يا صغيرة.”
نظرت إليه كيم سول ها بدهشة، فقد كان كلامه هذه المرة مختلفًا قليلًا عن سابقه.
“ولمَ تقول ذلك؟”
“يا صغيرة، في مثل هذه اللحظات قولي فقط: هناك مجنون متقلب الأطوار يثرثر، وخذيها ببساطة.”
هز رأسه بأسف مصطنع وهو يقول: “لستِ ظريفة على الإطلاق.”
ثم أضاف: “بما أنكِ تصرين على طردي، فالضيف المزعج سيرحل الآن.”
أدار كتفيه بلا مبالاة ومضى مبتعدًا.
على غير عادته في إلحاحه على وخز ها دو ون، بدا رحيله هذه المرة سريعًا وسلسًا، مما جعل كيم سول ها تنظر إلى ظهره بابتسامة متجهمة.
“شخص لا يمكن التنبؤ به.”
“من الأفضل ألا تقتربي منه يا آنسة.”
“من هذا الرجل أصلًا حتى تعجز عن ضبط تعابير وجهك أمامه؟”
مدت كيم سول ها إصبعها لتضغط على خد ها دو ون مرارًا.
فقد بدا لها من ملامح جيك رانغ قبل قليل أنه ليس مجرد “رفيق سلاح” عادي.
“لا يبدو أنه مجرد زميل. هل كان صديقًا لك؟”
“في وقتٍ ما، نعم.”
ارتسمت ابتسامة مرة على فم ها دو ون.
أومأت كيم سول ها متفهمة، لكنها توقفت عندما سمعت الجملة التالية:
“لو اخترت طريقًا آخر حينها، لكان ما زال صديقي.”
“هل تفتقد تلك الأيام؟”
سألت كيم سول ها بحذر.
فهي تعلم أن ها دو ون ليس مجرد مبارز عادي، سواء من خلال ما جرى داخل كيم رين أو ما يحدث الآن.
مبارز من مستواه يُعتبر نادرًا، أينما ذهب، سواء في القوافل أو الحرس أو العائلات الكبرى.
ومع ذلك فهو مجرد حارسها الشخصي الآن.
ألقى ها دو ون نظرة إلى أسفل بابتسامة خفيفة، على وجهه ملامح معقدة.
“لا.”
“…….”
“أنا أفضل الوضع الحالي.”
أحب حرارة الطفلة التي يحتضنها في صدره.
لم يعد سيفًا ليجرح، بل صار سيفًا ليحمي، وهذا أجمل.
يداه المليئتان بالندوب والخشونة مرّتا برفق على خد كيم سول ها.
“لذا لا تأبهي بكلام ذلك الأحمق.”
أمام عينيه اللتان تلألأتا بضوءٍ دافئ، أومأت كيم سول ها ببطء.
“نعم، فهمت.”
لن يتركها ها دو ون أبدًا.
عندها فقط استطاعت كيم سول ها أن تطمئن.
♤♧♤♧♤♧♤
التعليقات لهذا الفصل " 27"