في لوسنفورد الباردة و القاحلة، تطورت أدوات التدفئة بشكلٍ كبير.
كانت المدفأة ضرورية، و كان لكل منزل خمسة أو ستة أحجار تسخين، و حتى الرجال، عندما لا يكون لديهم ما يفعلونه، كانوا يحيكون كحرفة، ينتجون ملابس صوفية دافئة و مريحة.
لكن كايلا اكتشفت الليلة الماضية أن حرارة جسم الإنسان أكثر دفئًا بكثير من كل تلكَ الأدوات.
“سأتوقف هنا، نامي الآن.”
بيون، الذي كان يعضّ رقبتها ، ابتسم بلطف في لحظة ما و مسـح محيط عينيها.
“ماذا…؟”
“لم تستعيدي صحتكِ بعد.”
كان صوته المتذمر ناعمًا و مغريًا.
في الوقت نفسه، كان صدره، الذي يضع جبهته على كتفيها الضيقين، يهتز كما لو كان يكبح نفسه بشدة، و كانت عيناه المحمومتان و الأوردة البارزة في رقبته تثبتان أنه ليس هادئًا كما يبدو.
ربّما بسببِ علاقته الطويلة مع بياتريس، كان يتعامل معها بمهارة كبيرة.
‘أكثر بكثير من تلكَ الليلة… لا، تلكَ الليلة ستكون بعد سنوات من الآن، فكيف يمكن ذلك؟’
تذكرت كايلا ليلة معينة، ثم أغلقت عينيها مستسلمة للنوم تحت يديه التي كانت تداعبها. و عندما استيقظت في الصباح، و هي مملوءة بالدفء من رأسها إلى أخمص قدميها، أدركت أخيرًا أن بيون وعـدها بيوم آخر.
لم تكن تلك الليلة هي النهاية.
“هل نمـتِ جيدًا؟”
كان قد احتضنها بقوّة طوال الليل حتى الصباح. و كأنه لم يكن ينوي تجاهل ما حدث ليلًا، قبّـل جبهتها و خديها ثم نهض.
مع شروق الفجر، كان على بيون أن يتدرب و يتفقد الجيش، كما أن لديه الكثير من المهام، لكنه بقـي معها حتى هذه الساعة.
صُدمت كايلا و لم تستطع الرد.
كان الاستيقاظ معـه في سرير واحد تجربة جديدة حتى بالنّسبة لها هي التي مرّت بكل شيءٍ من قبل.
“لماذا تنظرين إليّ هكذا؟”
ابتسم بيون بلطف، و انخفض ليقبّـل محيط عينيها مرّةً أخرى.
عندما رمشَت عدة مرات، ضحكَ بجسـده الضخم و الصلب الذي يحتضنها، و أخذ يهتـز قليلاً.
كأنهما جسـد واحد، كان يشاركها الدفء نفسـه.
“أنـتَ….. مشغول، أليس كذلك؟”
“آه، الصباح، وقت الالتزام بالآداب مجددًا. لستُ مشغولاً، سيدتي.”
لم تتوقف القبلات التي تنهمـر على خديها و كتفيها.
مَنٔ قال إنه بارد و عديم العاطفة؟
كان عليها أن تتساءل إن كان بيون، الذي يبتسم لها باستمرار، مخمورًا.
رأتـه يضحك هكذا مرّةً واحدة فقط عندما كان ثمـلاً.
“كيف حال جسـدكِ؟ ألسـتِ متعبة؟”
لم تعرف كايلا ماذا تقول، فنفـت برأسها.
كونها لا تعرف شيئًا عن الرجال جعلها تشعر بالإحباط لعدم قدرتها على الرد بأناقة في مثل هذه اللحظات، لكن ماذا تفعل إن لم تكن لا تمتلك خبرة في هذا الأمر؟
“حسنًا، إذن هذا جيد. لنتناول الفطور معًـا هنا.”
“مـاذا؟”
الفطور أيضًا؟
تفاجأت و سألت بذهول . لكن عينا بيون تغيرت و أظهرت حزنـه.
“هل هذا مزعج بالنّسبة لكِ؟”
لم تـرَ من قبل هذا الرجل المخيف، الغامض، و الجذاب للغاية، يبدو محبطًا هكذا.
كان اليوم مليئًا بالأشياء التي تراها لأول مرّة، و كايلا، التي لا تستطيع وصف بيون إلا بأنه “محبط”، شعرت بالتوتر في الصباح.
“هل عشاء بالأمس آخر وجبة لكِ معي؟”
“لا، ليس هذا ما أعنيـه، سموكَ…”
“أعلم أنّـكِ، بطباعكِ المسؤولة، غيّرتِ طريقة حديثكِ منذُ زواجنا لتكوني أكثر التزامًا بواجبكِ، لكن أليست الوجبات معًا أمرًا طبيعيًا بين الزوجين؟”
يبدو أن الزوج الذي التقت به بعد الموت مستاء من أسلوب حديثها الذي اعتادت عليه خلال السنوات الأربع الماضية.
لم تكن تستخدمه عن قصد، لكن من الغريب الآن أن أسلوبها الذي أصبح عادةً لديها بسببِ عدم اهتمام بيون بها كدوقة كبرى أو زوجة ، بـاتَ يزعجه.
“أليس هذا طبيعيًا؟”
تحت ضغط سؤاله، ضمّـت كايلا شفتيها و أومأت أخيرًا.
كانت نظرته إليها دافئة جدًا لدرجة أنها لم تستطع مواجهتها. كان الأمر محرجًا و غريبًا.
بيون الذي تعرفه لم يكن هكذا أبدًا.
لا، كان هكذا فقط في طفولتها.
هل هو شخص آخر؟ إذن، هل هذا الواقع عالم آخر؟ ألا يمكن أن يكون كذلك؟
“حسنًا، انهضي ببطء.”
تحطّم صوت ضحكته المنعشة في أذنيها، و مع أسفـه، طبـع قبلة أخرى على خدّهـا.
بينما كانت كايلا، التي لم تستطع أن تفرّق بين الحلم و الواقع، تمسك بالبطانية بقوة، لم يستطع بيون تحمل ذلك، فأمسك وجهها الصغير و قبّلهـا.
حتى تحت ضوء الصباح، الذي يكشف الوهم الجميل و يعيده إلى الواقع البارد، لم يستطع استعادة رشده.
لا، ربّما كانت كايلا، المكشوفة تحت ضوء الصباح، جميلة جدًا.
كانت أجمل و ألطف مخلوق يعرفه.
أراد الآن أن يتحدث دون كبح.
“تبدين أجمل في الصباح، سموّكِ.”
على الرّغمِ من أن وجهها بالتأكيد منتفخ و قبيح، إلا أنّـه تحدث عنها بسعادة.
المفارقة أن بيون هو مَنٔ يبدو وسيمًا و نضرًا حتى في الصباح.
“أنـتِ جميلة.”
كرر بيون ذلك .
كلما تحدث، أصبح أوضح أنه كبـح هذه الكلمات لفترةٍ طويلة.
كان يجب أن ينظر إليها مباشرة بدلاً من النظر بعيدا.
كان يجب أن يسرق المزيد من النظرات، حتى لو كان ذلك ببخل.
كان يجب أن يستمع إلى صوتها بدلاً من تجنب كلماتها.
و كان يجب أن يتحدث إليها أكثر.
ظن أن المشاعر التي كبحهـا و تجاهلهـا و قام بدفنها قد ماتت. لكن كلما نظر إليها، تحدث، و واجهها، سخرت مشاعره منه و نهضت بجسدها الهائل الذي أخفته.
لم يكن في استطاعته تحمل حجمها.
كانت كبيرة جدًا، و كان تجاهلها جريمة.
كان غير مسؤول و وضيعًا لعدم تمكنه من إزالتها تمامًا. ربما لا يزال يتجاهل الحقيقة حتى الآن.
“عليكِ أن تاكلي الكثير.”
أمام طاولة الفطور التي نُقلت إلى السرير، توسل مرارًا و تكرارًا.
كانت الحقيقة صعبة جدًا لمواجهتها، و الدفء الذي شعر به لأول مرة منذ عقود كان دافئًا جدًا.
لذا توسل.
ليس الآن، فقط قليلاً أكثر. قليلاً أكثر.
من فضلك، قليلاً أكثر.
كان الاتصال الجسدي الوحيد الذي عرفه بيون هو القبلة العفوية التي فرضتها بياتريس كختم.
في الليلة الماضية، كان يكافح لكبح رغبته في لمس كايلا.
كان سعيدًا جدا، و كل ما يعرفه عن واجبات الزوجين كانت من النكات البذيئة التي يتبادلها الجنود في الجيش.
نظرَ بيون إلى كايلا، التي تجلس بجانبه، و أدرك مدى هشاشتها.
“صاحب السّمو، تناول طعامكَ أنتَ أيضًا.”
“نعم.”
كتفاها ضيقتان جدًا، و لو احتضنها، ستتلاءم تمامًا في حضنه. لذا كان عليه أن يكبح نفسه أكثر و يصبح أكثر مهارة.
“هل الطعام يناسب ذوقكِ؟”
أومأت برأسها عندما سأل.
لقد أجابت على سؤاله.
ربّما هذه فرصة جديدة.
ربّما يمكن أن يكون سعيدًا هذه المرة.
لا، حتى لو لم تكن سعادة أو فرصة، أراد أن يفعل لها، و لو للحظة، ما لم يستطع فعله من قبل.
“ماذا ستفعلين اليوم؟”
“يجب أن أعمل.”
“لا تجهدي نفسكِ كثيرًا. افعلي فقط ما يكفي لعدم الشعور بالملل.”
كانت كايلا ضعيفة. ضعيفة لدرجة أن برودته و لامبالاته كادت تقتلها.
كان للامبالاة أسبابها.
لأنه لا يجب أن يخون بياتريس و والدته، و لأن كايلا كانت على الأرجح جاسوسة للإمبراطور.
الآن، عند التفكير في الأمر، لم تكن سوى أسباب سخيفة و مثيرة للشفقة.
لكن في ذلك الوقت، بـدت مبرَّرة عندما ظهرت أدلة على أن كايلا كانت جاسوسة للإمبراطور.
الجدران التي بناها على مدار أربع سنوات أثمرت حينها.
“نعم.”
“و كوني معتدلة في استقبال الضيوف. ما يجب أن نهتم به هو المفتّش، وليس السيدة رافالي. لا تهتمي بها.”
لذا، و لو قليلاً.
إذا استطاع، و لو الآن، أن يفعل ما كان يجب أن يفعله، فهو مستعد للتضحية بحياته.
لا يهم إن أنّ اتهامه بأنه يرضي نفسه فقط.
“مـاذا؟”
“نعم.”
على الرّغمِ من حصوله على الإجابة التي أرادها، لم يكن بيون مطمئنًا على الإطلاق.
كان يثـق أن كايلا ستتدبر الأمور ببراعة بمفردها.
الشخص الذي لا يثـق بـه هو بياتريس رافالي.
قبل العودة بالزمن، حتى مع تجاهل بيون القاسي، كانت هناك دائمًا مشاكل تافهة تتعلق بكايلا.
تراكمت هذه المشاكل و انفجرت، لكن كم من الأمور حدثت في الأماكن التي لم يرَها؟
أضاف بيون علامات حمراء على رقبتها و كتفيها، على بشرتها البيضاء النقية التي تحمل دمًا أحمر.
“سموكَ؟”
“نعم.”
“الصباح، إنه الصباح…!”
أمسكت كايلا، التي احمر وجهها، بطرف ملابسه بقوة.
لم تدفعـه، فقط أمسكت به.
“نعم، إنه الصباح، لذا تبدين أكثر بروزًا و جمالًا، سيدتي.”
“آه، لا ينبغي أن تفعل هذا في الصباح…”
“هل يجب على الزوجين تحديد وقت ليحبا بعضهما؟ لم أسمع بمثل هذا القانون.”
أغمضت كايلا عينيها و انكمشت كتفيها .
كانت مشوشة بعد استيقاظها، و أصبحت خدودها و أذناها حمراء.
كانت مرتبكة، مما جعلها تبدو لطيفة.
“بالنسبة لسيدتي الوقورة، قد يكون ضوء الصباح محرجًا…”
كلما فعل بيون هذا، شعرت كايلا أنها لم تعُـد إلى الماضي، بل سقطت في عالم آخر.
لم يكن بيون هكذا.
لم يكن دوق لوسنفورد البارد و اللامبالي ليقبّلها و يعانق رقبتها في الصباح الباكر.
ذراعه التي التفت حول خصرها كانت فضفاضة لكن ثقيلة جدًا، حابسة إياها في حضنه بسهولة.
كانت شفتيه الملامسة لها مدغدغة و حارة، فهزّت كايلا رأسها.
“النهار يمكن أن يكون سريًا أيضًا.”
في النهاية، غطّـت كايلا وجهها بيديها و أنزلت رأسها.
ضحكَ بيون الذي كان يحتضنها، بصوت عالٍ.
ضحكَ بصوت منعش، و فكرت كايلا، رغمَ احمرار وجهها، أن صوت ضحكته جميل.
لذا عندما توقف عن الضحك فجأة، نظرت إليه بفضول من بين أصابعها.
لماذا توقف عن الضحك فجأة؟
كان بيون يبدو مشوشًا، كأنه أدرك شيئًا.
“… بفضلكِ، ها أنا أضحك لأول مرة منذ زمن طويل.”
كان شكل تحرك عضلات وجهه أثناء الضحك غريبًا، كأنه لم يضحك منذُ سنوات. كان يبتسم بشكلٍ رسمي لسنوات، فنظر إليها و هو مشوش ثم ضحك مرة أخرى.
“كل هذا بفضلكِ.”
“لم أفعل شيئًا…”
حقًا، هي لم تفعل شيئًا.
بل على العكس، حتى لو قررت التخلي عن تمسكها بلوسنفورد و بيون، لم تستطع قطع كل شيء بحزم.
كانت مترددة و تائهة، و شعرت أنها تطيل الأمر هنا كما قبل موتها.
“عدم فعلكِ لأي شيء يكفي.”
على الرغم من أنها فعلت أشياء لم تفعلها من قبل، كان بيون، الذي يتصرف هكذا مع امرأة هربت من الزواج بإصرار، أكثر غرابة.
مسح كتفيها المكشوفتين من ثوب النوم، ثم رفع ياقة ثوبها بلطف.
“إذا شعرتِ بالحرج، ارتدي اليوم شيئًا يغطي هذا. ولا تغضبي إذا قلت إنني صنعت الكثير.”
“مـاذا؟”
لم تفهم كايلا ما يعنيه، فأمالت رأسها. أمسك بيون يدها و فرك جلد معصمها الداخلي الناعم.
“هكذا.”
كما فعل طوال الليل، عندما قبّلها بقوّة،
“ستبقى علامات كهذه. بشرتكِ حساسة، لذا تظهر العلامات بشكلٍ أكثر وضوحًا. سأنتبه في المستقبل.”
بعد ثوانٍ، عندما فهمت كايلا الموقف، سحبت ياقة ثوبها بسرعة، فضحك بيون بمرح.
“سأغطي كل شيء!”
“نعم، تغطية الرقبة جيدة للدفء.”
يا له من وقح!
نفثت كايلا و غطت رقبتها بيديها.
بينما كانت تفعل ذلك، قطع بيون طبق البيض و أطعمها.
بإمكانها الأكل بمفردها، لكنها لم ترغب في إنزال يديها!
حدّقت كايلا في البيض، ثم فتحت شفتيها قليلاً و قبلت الطعام.
متى ستتذوق طعامًا يطعمها إياه بيون مرة أخرى؟
“… ليس لدي نية للتدخل في ملابسكِ، لكن على سبيل المثال، لا تنسي الخاتم الذي أعطيتكِ إياه.”
“الخاتم؟”
“نعم، يجب أن ترتديه دائمًا. الخاتم الثاني بالماس قيد الصنع، لذا انتظريه.”
“لكن…”
كما توقع.
نظر بيون إلى كايلا المترددة.
“لكن، سموكَ، إذا رأت السيدة رافالي الألماس، سينتشر الخبر في كراين بأكملها.”
الألماس هو أثمن الأغراض الفاخرة. إذا عرف الإمبراطور الجشع، من خلال بياتريس، أن دوقة لوسنفورد الكبرى ترتدي خاتم ماس بحجم غير عادي، سيضغط على بيون، الذي كان دائمًا تحت سيطرته.
“لهذا أنا أصـر على ارتدائه.”
“لكن، إذا عرف جلالته، ألن يسأل من أين حصلتَ عليه؟”
“هل لا يستطيع رجل تقديم جوهرة لزوجته؟ لن يقول شيئًا.”
“لكن إذا أعطيتني واحدًا آخر، قد يصبح ذلك مشكلة.”
“ثلاثة على الأقل لا بأس بها، سيدتي.”
سوار ثقيل، قلادة ثقيلة، شيء من هذا القبيل لا بأس به.
ما يقدمه دوق لوسنفورد الأكبر لزوجته يرتبط بماء وجه الإمبراطور الذي رتب هذا الزواج.
لكن بعد ذلك، سيبدأ الإمبراطور بالشك.
من أين يحصل هذا الرجل في لوسنفورد على المال ليمنح زوجته ماسات بهذا الحجم؟
“سيسعد جلالته أيضًا. و بعد ذلك، سأتأكد من إنهاء الأمر دون إثارة قلقكِ.”
“يجب أن نقدم إليه بعضا منها، سموكَ. شيئًا أفضل مما لدي.”
فقط هكذا يمكننا البقاء على قيد الحياة.
فكرت كايلا، التي كانت تمسك ببيون و تتحدث بحرارة، فجأة.
البقاء على قيد الحياة؟ مَـنْ؟ لقد قررتُ الموت، فمَنْ يجب أن يبقى على قيد الحياة؟ أنا ، كايلا دي شاسير؟
…أم هذا الرجل؟
“نعم.”
تردد بيون للحظة ثم أومأ.
“سأفعل ذلك.”
على الرّغمِ من أنه لن يحدث، لم يستطع شرح الأسباب، فبدلاً من قول “لا بأس” بلا مسؤولية، اختار أن يكون الزوج الذي يستمع لزوجته.
لكنه، على الرغم من إعطائها الإجابة التي أرادت، رأى عينيها الزرقاوين تهتزان بعنف.
التعليقات لهذا الفصل " 49"