5
الفصل 005
حين كان صغيرًا، لم يكن والداه يصغيان إليه ما لم يكن في حديثه فائدة تُرضيهما.
لكي يظفر بانتباههما، كان عليه أن يُطابق اهتماماتهما تمامًا. الشؤون الراهنة، الدوائر الاجتماعية، فنون القتال، درجاته في الأكاديمية، أو قصصًا تُبرِز تفوقه على سواه.
أما إن لم تكن القصة على هذا المنوال، فإن دوق ودوقة فيلتون كانا يتحادثان معًا وكأن في أذنيهما وتدًا لا ينفذ من خلاله صوت.
كان إيدريك مولعًا بالحشرات، ويتساءل كم تبلغ سرعة الحيوانات التي يُطاردها في الغابة. أراد أن يتحدث عن مغامراته مع صديقه، لا عن درجاته، وأن يقصّ عليه كم كان صديقه سخيفًا في الواقع، لكنه اضطر إلى أن يُخفي هذه القصص في نفسه، أو أن يُسجّلها في دفتر يوميّاته.
ومع مرور الوقت، بدأ إيدريك يظنّ أن تلك الأمور لا تعنيه إطلاقًا، وراح يعُدّ ما يعتبره الأطفال في مثل سنّه طبيعيًا من الاهتمامات أمرًا تافهًا لا يُعتدّ به.
ثم أصبح الأطفال أنفسهم مثارًا لسخريته.
‘إنهم صبيانيون.’
ففي سن الثامنة، كان قادرًا على مناقشة أوضاع الإمبراطورية مع الكبار، وبحلول سن العاشرة، غدا كفؤًا بما يكفي ليتولى بعض شؤون الدوقية نيابة عن والده.
وقد كانت نظرة الرضا من والديه، وثناء الناس، كافية لأن تُكافئ جهوده، بل كانت تُحفّزه أيضًا ليغدو وريثًا أوفى وأجدر بالمكانة.
أصبح قدوةً يُحتذى بها في أوساط أبناء النبلاء، وغدا هدفًا تسعى إليه الأمهات النبيلات في تربية أطفالهن.
“يجب أن تكبر وتُصبح عظيمًا مثل الدوق الصغير لفيلتون.”
“أرجوكَ، يا ولدي، لا تتصرّف كالأطفال. لماذا لا تراقب الدوق الصغير وتتعلم منه؟ كم هو رائع وناضج!”
لكن إيدريك كان طفلًا هو الآخر.
كان في داخله صبيٌّ لعوب، مشاكس، غير قابل للتوقّع. بيد أن ذلك الصبي أُغلق عليه الباب باكرًا، لأنه لم يكن ملائمًا لصفات وريث بيت نبيل عريق…….
لكن، شأنه شأن شجرة تلوي جذعها لتنمو عبر ثقب رغم انسداد السقف، فإن الفتى المحبوس داخل إيدريك راح يتملّص من ركوده، ولكن على نحو مُشوّه.
فقد بدأ الشرب والصيد في سن مبكرة.
ومن خلال ذلك، أدرك أن التحفيز الحسيّ الخارجي ينعشه مؤقتًا، ويُخفف من الضيق الذي يجثم على صدره.
كما استلذّ تدخين السيجار، وكان يشعر في الحال بحرارة تدبّ في رئتيه، وتتوسّع شرايينه، وهو شعور لا يختبره الآخرون إلا بعد تجارب عديدة ومحاولات متكرّرة.
وحين كبر قليلًا، نجح بخبث في التلاعب بأرقام توزيعات الأرباح التي كان من المفترض أن تؤول إلى أعمامه، وحوّل الفارق إلى جيبه.
يا للسخرية حين كانوا يتباهون في التجمعات العائلية.
“أتفهم يا إيدريك؟ لا يهم مقدار ذكائك، فالخبرة لا يُستهان بها. في هذا العالم، الخبرة أهم من الذكاء.”
“بالتأكيد، عمي. أنتَ على حق.”
يا لهم من حمقى. تُراهم سيُرددون هذه الكلمات لو علموا أنهم لا يحصلون إلا على نصف ما يستحقون؟
خلف تلك الابتسامة المُشرقة المُفعمة بالمودّة، كانت تنكمش شرور خبيثة.
لقد كان إيدريك يُفرغ رغباته المكبوتة بتلك الطرق. إلا أن الإحباط لم يتبدّد بالكامل.
كان يريد تحفيزًا أقوى. لا لذّةً خفيةً لا يعلم بها سواه.
ثم، صدفةً، رأى أصدقاءه المقرّبين ينهارون بفعل سوء فهم تسبّبت فيه كلمة واحدة.
ابتسم إيدريك باهتمام.
‘هذا جيد.’
ومنذُ ذلك الحين، راح إيدريك يُثير الشجارات بين الناس بذكاء وهو يراقب المشهد في راحة، وكأن لا علاقة له بالأمر.
كان الأمر أشبه بمشاهدة معركة دامية بين كلبين ذكرين في موسم التزاوج وقد أفلتوا من عقالهم في حلبة نزال.
شعر بلذّة وسخرية في آن، ومن خلال ذلك، شرعن أفعاله.
‘هكذا هم البشر.’
لم تكن هنالك صداقة بنيت على ثقة راسخة منذُ البداية. كان هنالك مجرّد قناع يبدو معقولًا، وما فعله هو أنه قطع ذلك الخيط المرتخي من القدر الذي ربطهم مؤقتًا.
وفي ذلك اليوم، كان يُراقب بفضول شجار الخادمتين، وهمّ أن يستدير ليغادر، حين سمعها تقول.
“لا تفعل ذلك.”
“.……”
كانت فتاة صغيرة تُحدّق فيه وتقول شيئًا غير مفهوم.
“عن ماذا تتحدثين؟”
“أنا أعلم ما فعلته، أيها الدوق الصغير.”
كانت عينا الفتاة ثابتتين. كانت تعلم ما اقترفه وتُدين فعله. يا لها من وقاحة.
لكن إدريك لم يتزعزع البتّة، وردّ بهدوء.
“لا أفهم ما تعنين. ماذا فعلتُ؟”
“لقد سرقت خاتم سارا ووضعته في خزانة آنا.”
“ماذا؟ لقد أخطأتِ الظن.”
ضحك ضحكة خفيفة وكأنه سمع شيئًا صادمًا، ثم تابع.
“هل أبدو كشخص قد يفعل شيئًا بهذا القذر؟”
وتصنّع أرقى تعبير ملائكي يمكنه حياكته ليدعم كلماته. تلك الابتسامة التي أوقعت بالرجال قبل النساء.
“نعم، يبدو كذلك.”
تلاشت الابتسامة شيئًا فشيئًا من وجه إدريك.
ما الذي تقوله هذه الفتاة الوقحة؟
“كان والدي طيبًا ووسيمًا كالدوق الصغير، لكنه أيضًا كان يسرق، ويدخن السيجار، ويفعل كل شيء.”
“.……”
حدّق إدريك في الفتاة. لقد سمع الخطوط العريضة لقصة تلك الفتاة وأمها اللتين تقيمان في الدوقية، وكيف تدمرت حياتهما.
كانت ابنة أسرة كونت محترمة قد أُغويت من قِبَل رجل من طبقة النبلاء الدنيا، حسن المظهر لكنه فرّ في منتصف الليل. رجل لم يكن قادرًا حتى على إعالة أسرته، وكان مبذّرًا، سارقًا، خائنًا، عذّب زوجته حتى ماتت.
“عليك أن تتوقف الآن. وإلا، فستنتهي مثل والدي.”
هل تُقارنُه بتلك الحثالة؟ وتخشى على مستقبله؟
لقد كان الأمر سخيفًا حتى إنه ضحك، لكنه، وبشكلٍ غريب، لم يشعر بالضيق. كان من الغريب أنه لم يشعر بالإحراج رغم انكشاف وجهه الآخر للمرة الأولى.
وكأنه كان ينتظر من يلحظ ذلك، ويقول له شيئًا.
نظر إدريك إلى الفتاة الواقفة أمامه.
‘ألم يقولوا إنها تصغرني بثلاث سنوات؟’
كانت ضئيلة، بالكاد تملأ قبضة اليد، لكنها بدت أصغر منه بخمس سنوات لا ثلاث.
إلا أن عينيها البندقيّتين، اللتين تطلّان عليه مباشرةً، كانتا تبدوان أنضج منه بكثير.
أي حياة عاشتها لتُصبح طفلة كهذه أقرب إلى الكبار من الصغار؟
لقد أثار ذلك فضوله.
“أنتِ، تعالي إلى غرفتي عند منتصف الليل.”
أمر إدريك.
بدت الفتاة خائفة للحظة، لكنها أوفت بوعدها.
* * *
“كلي هذا.”
دفع إدريك بحصته من وجبة منتصف الليل أمام الفتاة التي جاءت لرؤيته.
كانت وجبة مغذية، أعدّها الطاهي بعناية خاصة من أجله، لأنه يدرس حتى ساعات متأخرة من الليل.
لوّحت الفتاة بيدها مرتبكة أمام الوجبة الفاخرة التي لم يُتح لها تذوّق شيء من نوعها من قبل.
“آه، لا. ينبغي لك أن تأكلها، يا صاحب السمو.”
في لحظات كهذه، كانت تعود لتبدو في عمرها مجددًا.
ضحك إدريك من التناقض الهائل بينها وبين الفتاة الجريئة التي أسدت إليه نصيحة قبل ساعات.
“لا بأس، كلي. هذا ثمن سماعكِ حكايتي.”
لمعت تساؤلات في عيني الفتاة البندقيّتين.
“حكاية؟ أي نوع من الحكايات؟”
“مجرد هذا وذاك، أشياء لا معنى لها.”
لم تكن لديه نية أن يروي لها شيئًا من هذا القبيل.
كان فقط يرغب في إطعام هذه الفتاة الملتوية……وفجأةً خطر له أنه قد يُفرغ ما بداخله من اضطراب أمامها، ولهذا طرح العرض.
نظرت الفتاة حولها لحظة وكأنها غارقة في تفكير عميق، ثم التقطت قطعة بسكويت صغيرة، وضعتها في فمها، وراحت تمضغها.
‘تعابير وجهها لا تتغيّر.’
استنتج إدريك شيئًا من شخصيتها من ذلك الموقف الوجيز.
كان وجهها خاليًا من الانفعال، وجه لا يظهر إلا على من ذاقوا شتى صنوف المشقة، ولم يتبقَّ في نفوسهم سوى شعور قاتم بالتشاؤم.
من بين كل من عرفهم، كانت هذه الفتاة الوحيدة التي تأكل قطعة حلوى صغيرة، جميلة، وحلوة، بتعبير وجه خالٍ تمامًا من اللذة أو السرور.
ولدهشة إدريك، فقد أثار هذا انتباهه أكثر.
لقد بدت كبحيرةٍ، تُلقي فيها ما تشاء، ولا ترتدّ لك بشيء.
“تكلّم.”
قالتها الفتاة، التي أكلت قطعة البسكويت كما لو كانت تقوم بواجب، بنبرة جافة.
“كنتُ أقول فقط، إنه إن واصلت فعل هذا، فستتحمّل العواقب.”
تردّد إدريك لحظة، لا يدري ما يقول، وارتسمت على وجهه أمارات الحيرة. لم يكن لديه وقت للتفكير. فسارع بطرح سؤال.
“ما اسمكِ؟”
خفضت الفتاة بصرها وأجابت بخجل.
“اسمي ميلي……ميلي إنوود.”
* * *
ومع مرور الوقت، تلاشت الرسميات وتحولت الأحاديث من الخطاب الفخيم إلى حديث عادي، واختفى لقب ‘السيد’.
وكذلك اختفى الفضول الذي كان إدريك يشعر به نحوها.
فكونها الوحيدة التي عرفت جانبيه؛ المُشرق والمظلم، إضافةً إلى كونها فتاة، كان في البداية باعثًا لفضول عظيم في نفسه.
حتى هيئة ميلي الضئيلة وغير اللافتة بدت أجمل في عينيه تحت وهج فضوله.
لكن القشور تهاوت سريعًا، وبدأ يرى الأمور كما هي.
بفضل ميلي، التي تفهّمت شخصيته المعيوبة، وأصغت إلى حديثه بكل قلبها، مهما كان عبثيًّا، فقد استطاع الطفل غير الناضج في داخله أن يلحق بنموّه الجسدي والذهني.
لم يعُد بحاجة إلى سلوكيات منحرفة ليملأ خواءه الداخلي، ولم يعُد مضطرًّا ليبوح لـ ميلي بأسراره الماكرة.
لقد أصبح شابًا هادئًا، رصينًا، موثوقًا به.
ومع ذلك، لم يخطر بباله أبدًا أن يجعل منها دوقة المستقبل فحسب لأنها ساعدته. لا، لم يفكّر في ذلك يومًا.
لم تكن ميلي امرأةً في نظره.
باستثناء بضعة أشهر حين كان في الثانية عشرة.
لكن….…
‘يبدو أن اللورد بلير معجب بكِ، ميلي.’
عندما سمع هذه الكلمات، أصيب إدريك بالارتباك التام.
ما الذي يجعل أمه تتلهّف لتزويج فتاة لم تَبلغ العشرين بعد؟
بلير؟ ذلك الوافد الجديد صاحب الثروة؟
كانت تتعامل مع إرسال ميلي إلى ذلك الرجل وكأنها تنجز واجبًا منزليًا.
لا يمكنه السماح بذلك.
هو من سيختار شريك حياة ميلي، وهو من سيتولى أمرها حتى ذلك الحين.
“إلى أين نذهب، صاحب السمو؟”
كادت كلمة، الأوبرا، أن تخرج من فمه، لكنه كتمها في اللحظة الأخيرة.
‘العجلة لا تجلب سوى الغضب.’
“فلنعد إلى المنزل.”
فهنالك تبدأ اللعبة الحقيقية.
ارتسمت ابتسامة على شفتي إدريك.
كانت أول ابتسامة ماكرة يمنحها منذُ أن كان في الثانية عشرة من عمره.
يُتبع….
Chapters
Comments
- 5 - العجلة لا تجلِب إلا الغضب 2025-05-09
- 4 - الزَّواج بَين المُتشابِهين 2025-05-01
- 3 - سأجدُ لكِ عريسًا أفضلَ 2025-04-30
- 2 - لن يُزعزعَني أحدٌ 2025-04-29
- 1 - سأتزوَّج 2025-04-29
التعليقات لهذا الفصل " 5"