4
الفصل 004
“أنا أقدّر لطفكِ، ولكن.…..لا أرغب في رؤية أحد بعد، سيدتي.”
في اليوم التالي، رفضت ميلي عرض آدا بحذر.
فكلما فكّرت في الأمر، أيقنت أن الأفضل أن تبقى الأمور على حالها.
قالت لها آدا فيلتون بصوت مفعم باللطف، بينما كانت ميلي تنحني معتذرة.
“إذن، هذا ما قررتِه يا ميلي.”
“نعم، أنا آسفة حقًا، سيدتي.”
“ولِمَ تعتذرين عن ذلك؟”
هزت آدا رأسها، مذكّرة نفسها بما قالته في اليوم السابق.
“لا تقلقي بشأن هذا. ألم أقل لكِ إنكِ لستِ مجبرة على لقائه إن لم تكوني راغبة؟”
“.……”
كانت ميلي تعلم أن آدا لن تؤنبها على أمر كهذا، لكنها رغم ذلك شعرت بقلقٍ داخلي لم يزُل إلا عندما سمعت كلماتها.
لقد عزمت على أن تطيع آدا في كل شيء، عدا هذا الزواج الذي لا تريده. ثم غادرت غرفتها عائدة إلى جناحها الخاص.
لكن، ما إن أُغلق الباب خلف ميلي، حتى انحرف طرفا شفتي آدا فيلتون، التي كانت تبتسم بلطف طوال الوقت، إلى ابتسامة باردة.
“لا أريد أن أرى أحدًا الآن…….”
ردّدت آدا كلمات ميلي في نفسها، وازداد وجهها تحفزًا بالسخرية.
“قلتُ إن الخيار حرية، لكنني لم أمنحها حرية الاختيار في الحقيقة.”
كانت تظن أنها ستوافق على لقائه بدافع الشفقة عليها، وكانت تنوي الدفع بعجلة الزواج بمجرد أن يلتقيا.
وكلما فكرت آدا بالأمر، ازداد حيرتها بشأن ما الذي جعل الخطة تنهار قبل أن تبدأ أصلًا.
فرغم أن اللورد بلير كان في الأربعين من عمره، ولم يكن نبيلًا، إلا أنه كان ثريًا، ونظيف السيرة مع النساء، لذا لم يكن مرشّحًا سيئًا للزواج. صحيح أنه كان عاديًّا بعض الشيء، لكن.…..ميلي، أهي في موقع يؤهلها للحكم على مظهره؟
أتراها قد تعلقت بمعايير عالية بسبب إدريك؟
كان إدريك ابنها، لكنه كان ابنًا ممتازًا بحق.
فهو وسيم الطلعة، لطيف الطبع، وله باع طويل في إدارة شؤون العائلة، وهو مالك أرض واسعة. لم يكن ينقصه شيء.
بعد أن لازمت ميلي شابًا مثله لأكثر من عشر سنوات، فلا عجب إن صارت معاييرها مرتفعة. لا بد أن ذلك ما جعلها ترفض اللورد بلير من دون أن تعي موقعها.
لكن حقيقة مشاعر السيدة لم تكن رحبة كما أظهرت للناس.
كانت تعتني بابنة صديقتها الراحلة وفاءًا لذكراها، لكنها لم تكن تنوي أن تتحول هذه الفتاة إلى عبء على ابنها، لا سيما إن لم تكن على قدرٍ كافٍ من الكفاءة.
“هل آخذها معي إلى الدوقية حين أذهب؟”
تمتمت السيدة بصوت منخفض وهي تسند ذقنها إلى يدها.
تسك-. لا يعجبها هذا.
لكن، إن لم يكن ثمة حل آخر، فلا مفر. لا يمكنني جرّها من شعرها إلى حضرة اللورد بلير.
‘لماذا عليّ أن أُشغل نفسي بأمر كهذا؟’
زفرت آدا بامتعاض، وانحنت قليلًا لتضع يدها على جرس المكتب الصغير، عازمة على التفكير في حل أثناء أخذ حمام دافئ.
وما إن لامست أناملها سطح الجرس الفضي الصغير.
“……!”
توقفت فجأةً وقد ومضت في ذهنها فكرة.
لقد خطرت لها حيلة مناسبة.
طريقة تجعل ميلي تقابل بلير.…..دون أن تضطر إلى جرّها من شعرها.
* * *
“مرحبًا بك، لورد فيلتون.”
رحبت روزالين بـ إدريك عند عتبة الباب.
فما إن نزل إدريك من عربته، حتى امتدح جمالها بلطف، ثم مد لها ذراعه.
“وأنتَ دائمًا وسيم، لورد فيلتون.”
ردّت روزالين على مديحه وهي تضع يدها في ذراعه.
“هل الماركيز أديل غير موجود؟”
“والدي لا يكون في البيت أبدًا، وأمي لا تكاد تكون في المنزل كذلك.”
انتقدت روزالين والدتها بخفة، غير أن إدريك دافع عنها بنبرة هادئة.
“لا أظن أن أناسًا من طبقتنا ينبغي أن يلتزموا البقاء في المنزل. فالخدم يتولّون شؤونه، ومن الأفضل لزوجها أن تخرج وتوطّد علاقاتها في المجتمع.”
“في الحقيقة، أوافقكِ الرأي. أنا واللورد منسجمان جدًا.”
رفعت روزالين نظرها إلى خطيبها بابتسامة رضا.
“لهذا يقولون إن الزواج ينبغي أن يكون بين المتشابهين.”
وافقها إدريك بابتسامة.
ولم يكن ثمة سبب يدعوه إلى عدم الموافقة.
لم يخطر بباله يومًا أن يتزوّج امرأة من طبقة اجتماعية مختلفة.
ولن يفعل.
بينما كان يتبادل أطراف الحديث مع روزالين في غرفة الجلوس، جاءت الخادمة وقدّمت الشاي.
أخذ إدريك رشفتين منه بدافع المجاملة، لكنه في معظم الوقت كان يكتفي بإمساك الكوب بين يديه.
وبالرغم من الرشفة أو الرشفتين، شعر ببوادر صداع.
‘الناس في هذا البيت لا يعرفون حتى كيف يُحضّر الشاي.’
اشتاق بشدة إلى الشاي الذي كانت ميلي تصنعه.
لم يكن ثمة من يُعدّ شايًا بمذاق منعش يرضيه كما كانت تفعل.
أتُراه لذلك؟ ألهذا السبب أبقاها إلى جانبه؟
مستحيل. فالشاي يمكن شربه أو الاستغناء عنه.
الأرجح أنه كان قلقًا من أن تُزوَّج صديقته القديمة دون رضاه.
كانت والدته تريد التخلّص منها منذُ البداية، لكنها أخفت نواياها الحقيقية خلف قناع الوصيّة الطيبة في حضرة ميلي.
وكما كانت ميلي مستعدة للمضي في موعد غرامي بدافع الامتنان لمراعاة والدته واهتمامها، أراد هو أن يحميها، لأنها قد تُجبر بسهولة على زواج لا تريده.
وما دام لا يستطيع فضح ازدواجية والدته، لا من أجل ميلي ولا من أجل نفسه، لم يكن أمامه سوى إقناعها.
نعم، ذلك كان السبب الوحيد.
لقد حاول منع ميلي من الذهاب إلى الموعد المدبّر.
كان إدريك قد سمع من الخادم أن ميلي رفضت اقتراح والدته بذلك الصباح.
كانت تستمع له منذُ صغرها، وقد استمعت إليه هذه المرة أيضًا.
كان قلقًا حين قالت إنها ستفكّر في الأمر.
تابع إدريك الحديث مع روزالين بوجه يعلوه الرضا وابتسامة هادئة.
فبما أنهما ينتميان إلى العالم نفسه، انسابت المحادثة بينه وبين روزالين بسلاسة.
لم تكتفِ روزالين بالحديث عن شؤون المجتمع، بل تطرّقت إلى مواضيع تُثير اهتمام الرجال مثل مباريات البولو، والصيد، وفنون المبارزة، لجذب انتباهه.
“لقد أخذتُ دروسًا في المبارزة لفترة قصيرة أيضًا. ساعدتني كثيرًا على تحسين توازني. هل تُعلّمني بعض المهارات حين تسنح لك الفرصة؟ أريد أن أتعلّمها بجدية هذه المرة.”
“سيُسعدني ذلك.”
وكان إدريك أيضًا من النوع الذي يُجاري اهتمامات الطرف الآخر، فانسياب الحديث بينهما بدا طبيعيًّا، كتعاقب الفصول.
لكن الحديث اتخذ منحى غير متوقَّع حين دخل فرانسيس أديل، وريث عائلة الماركيز أديل.
“روزالين!”
دخل مُنادِيًا أخته بالتبني بصوتٍ عالٍ، ثم توقف فجأةً حين رأى إدريك.
“آه، عذرًا. لديكِ ضيف؟”
بدت عليه بعض الحيرة للحظة، لكنه تمالك نفسه بسرعة، ثم حيّا إدريك بتحية رسمية، فردّ إدريك بأدب لا تشوبه شائبة.
“إذن، أراكِ لاحقًا، روزالين.”
قال فرانسيس موجّهًا حديثه إلى روزالين وهمّ بالانصراف، لكن إدريك أوقفه.
“إن لم يكن لديك مانع، فانضم إلينا، ماركيز أديل.”
“تفضل، فران.”
ابتسمت روزالين بهدوء وأضافت.
“حقًا؟ إذن لن أرفض…….”
جلس فرانسيس إلى جانب روزالين كما لو كان ينتظر هذه الدعوة.
أدار إدريك نظره نحو فنجانه، متظاهرًا بشرب الشاي، بينما راح يدرس الشاب أمامه بدقة.
شعر أسود وعيون كهرمانية. وجه وسيم ولكن يحمل ملامح طفولية بعض الشيء، وعظمة الترقوة بارزة تحت خصلات شعره الفوضوية، مع بقع بنية باهتة على ذراعيه. لقد فحص كل شيء في تلك اللحظة القصيرة.
كان ينوي إجراء فحص نَسَب إن رُزق بطفل بعد الزواج يشبه أحد تلك الملامح.
فإن تبيّن أنه ليس الوالد الحقيقي…….
ارتسمت ابتسامة هادئة على شفتي إدريك.
إن كان الأب، فهذا نصر. وإن لم يكن، فهو نصر أيضًا. ففي الحالة الأولى، ينال وريثًا نبيل الدم، وفي الثانية، يُمسك بضعفٍ قاتل يمكنه من السيطرة على عائلة أديل العريقة. لهذا السبب، زواج الأسر النبيلة من بعضها مفيد للغاية…….
“آه، لقد رأيتُ تلك الفتاة.”
قال فرانسيس فجأةً موجّهًا حديثه إلى إدريك.
“أليست الآنسة إيلي……التي رأيتُها في منزلك مؤخرًا؟”
“.……”
أدرك إدريك أنه يتحدث عن ميلي.
“على أي حال، لقد دخلت إلى دار الأوبرا منذُ قليل.”
“لماذا؟”
سألت روزالين بعينين متسعتين من الدهشة.
“بما أنها دار الأوبرا، فلا بد أنها ذهبت لمشاهدة عرضٍ ما. كانت بصحبة الدوقة.”
اتّسعت عينا إدريك الزرقاوان فجأةً بالشكّ.
“أمي؟”
كانت والدته تُظهر عطفًا على ميلي، لكن فقط داخل المنزل.
لم تكن تُبدي اهتمامًا بها كافيًا للظهور معها في العلن.
ما الذي دفعها إلى ذلك فجأةً؟
“الآنسة ميلي تحب الأوبرا. هذا رائع. أنا أيضًا أحب الأوبرا، فيمكننا أن نذهب معًا يومًا ما.”
قالت روزالين بعينين تتلألآن في حلمٍ رقيق، ثم سألت فرانسيس مجددًا.
“أي أوبرا كانت؟ هل شاهدناها مؤخرًا؟”
“لا، لم تكن تلك، روزالين. كانت ليالي أليسياس. إن أردتِ، يمكنني حجز مقاعد لكِ.”
أجاب فرانسيس أخته بنظراتٍ حانية، ثم التفت إلى إدريك.
“لكن هل كان معهما رجل؟”
“…….”
“رأيتُه من لمحة سريعة، أظن أن اسمه كان.…..بلير؟ كانت الأجواء غريبة. وكأنها.…..موعد غرامي مدبّر.”
قبض إدريك على فنجان الشاي بشدّة مفاجئة.
لكنه تمالك نفسه وارتشف من الشاي بهدوء، وأجاب بنبرة لا اضطراب فيها.
“فهمتُ. اللقاءات بين الرجال والنساء من امتيازات الشباب.”
ما زال الشاي لا يروق له، لكن إدريك لم يُبدِ امتعاضًا. فمرارة الشاي وقسوته لا تُقارن بالأسباب الأخرى التي جعلته يشعر بعدم الارتياح.
“أعذراني.”
فكّ تشابك ساقيه ووضع الفنجان برفق. وصوت اصطدام الخزف بعضه ببعض وضع حدًّا لذلك اللقاء الهادئ.
“لقد نسيتُ أن لديّ موعدًا. وبما أن أخيكِ هنا، هل ليّ أن أذهب الآن، روزالين؟”
يُتبع….
Chapters
Comments
- 5 - العجلة لا تجلِب إلا الغضب 2025-05-09
- 4 - الزَّواج بَين المُتشابِهين 2025-05-01
- 3 - سأجدُ لكِ عريسًا أفضلَ 2025-04-30
- 2 - لن يُزعزعَني أحدٌ 2025-04-29
- 1 - سأتزوَّج 2025-04-29
التعليقات لهذا الفصل " 4"