3
الفصل 003
“لن يطول الأمر حتى نتمكن من تناول الطعام معًا هكذا.”
قالت آدا فيلتون، الدوقة السابقة، أثناء الإفطار.
توقفت يد ميلي، التي كانت تنزع اللحم من سمكة السيف المشوية بلونها الذهبي، فجأةً.
“عندما يتزوّج إدريك، ستأتي شخصيّة جديدة إلى هذا البيت. سيغدو أكثر حيوية وجمالًا. فالرجل وزوجته وأطفالهما يجب أن يعيشوا معًا تحت سقف واحد. تلك هي الأسرة المثالية.”
ابتسم إدريك ووافقها بلطف.
“حينها سنكون أربعة. بما فيهم روزالين.”
ابتسمت آدا بودّ وهزّت رأسها نافية.
“سنكون أربعة في يومٍ ما، نعم. لكن يبدو أن ذلك سيستغرق بضع سنوات.”
“.……”
“أنوي العودة إلى الدوقية مباشرةً بعد زفافكما.”
كانت ميلي قد سمعت هذا من أوز من قبل.
فتح إدريك عينيه على اتساعهما وكأنه يسمع بذلك للمرة الأولى، ثم انفجر ضاحكًا.
“أمي، أنتِ…….”
“.……”
“ما الذي تعنينه؟ يجب أن تبقي معنا.”
“كلا، لا يصح ذلك. عليّ أن أبدأ بالاستمتاع بحياتي أنا أيضًا. لا أنوي البقاء هنا وإزعاجكما.”
“لا أحد يراكِ مزعجة، أمي. بل على العكس. روزالين تُثني عليكِ كثيرًا، وقالت إنكِ أريح من المركيز أديل.”
“يا لها من فتاة رائعة.”
شعرت ميلي بشيء معقّد في صدرها وهي تُصغي إلى هذا الحوار المليء بالودّ بين الدوقة وإدريك حول روزالين.
لكن الأمر لم يعد بيدها الآن.
ما الذي يمكنها فعله إن لم يكن لها شأنٌ به أصلًا؟
“فعيشي معنا يا أمي. معًا.”
أعاد إدريك مناشدته.
“لا. ليس هذا صوابًا.”
كانت السيدة فيلتون عنيدة بشكلٍ مفاجئ.
“على المرء أن يعرف متى يرحل. لقد اتخذتُ قراري بالفعل. ثم إن الجنوب دافئ حتى في عزّ الشتاء، وأظنّ أن ذلك سيكون نافعًا لصحّتي.”
فجأةً، التقت نظرات السيدة وميلي في الفراغ.
وظنّت ميلي أن نظرة السيدة طالت عندها اليوم أكثر من المعتاد.
“وقبل أن أرحل، أنوي أن أبحث عن زوج ملائم لـ ميلي أيضًا. لقد وعدتُ والدتكِ، جاسمين إنوود، بذلك بكل قلبي.”
“لا حاجة لذلك.……”
لم تمنح آدا فيلتون ميلي فرصة للرفض، وأكملت حديثها بابتسامة أنيقة.
“لقد ظهر شخص مناسب بالفعل.”
“.……”
“اللورد بلير، سيد عائلة بلير، أبدى اهتمامًا بكِ. قال إنه رآكِ في حفل ميلاد الكونتيسة سيسيليا مؤخرًا. وأعجب بكِ كثيرًا.”
لم تتذكر ميلي أنها رأته في تلك الوليمة. لكنها كانت تعرف أنه تاجر صنع نفسه بنفسه، وثراؤه يفوق ثروات أغلب النبلاء.
“فرق السنّ بينكما هو العيب الوحيد، لكنه يبدو رجلًا مستقيمًا وصادقًا. ما رأيكِ؟ هل تودّين مقابلته مرة واحدة؟”
“.……”
“إن لم ترغبي، فلا بأس. فقط رأيتُ فيه شخصًا جيّدًا، وأردتُ أن أسمع رأيكِ.”
كان من الأفضل لو أنها فرضت الأمر عليّ.
فحين منحتني الخيار بتلك الابتسامة الحنونة، كان من المؤلم جدًا على ميلي أن ترفض.
تردّدت لحظة، لكنها سرعان ما حزمت أمرها.
عليها أن تلتقي باللورد بلير، فقط من أجل السيدة التي أحسنت تربيتها. أما الزواج، فيمكن التفكير فيه لاحقًا. فليس كل لقاءٍ ينتهي بالزواج.
“نعم، سأفعل.……”
“أولًا، أمي.”
غطّى صوت قوي صوت ميلي الخافت.
“أرجوكِ، امنحيها بعض الوقت للتفكير.”
“.……”
“لا بد أن الأمر مفاجئ لـ ميلي أيضًا، أليس كذلك؟”
قال إدريك، وهو يلتفت نحو ميلي. كانت عيناه منحنيتين بلطف، لكن الزُرقة فيهما توارت خلف صلابة مُفتعلة.
* * *
بعد أن فرغت من ترتيب المائدة، صعدت ميلي الدرج عائدة إلى جناحها. وبعد أن اجتازت الزاوية مرتين، رأت إدريك يستند إلى الجدار وذراعاه معقودتان.
“ما الأمر؟ هل كنتَ تنتظرني؟”
اقتربت منه ميلي، مائلة برأسها، فأنزل ذراعيه واعتدل في وقفته.
“دعينا نتحدث قليلًا.”
كانت ملامحه الهادئة كما هي. فلا بد أن في نفسه شيئًا يريد قوله.
كان كثيرًا ما يبوح لـ ميلي بمشاعره السلبية التي لا تليق بصورة دوقٍ نبيل، كالسخرية اللاذعة من خصومه، أو الإرهاق النفسي الذي يتراكم من قول أشياء لا يقصدها.
وكانت ميلي تصغي بصبر، حتى يُفرغ مشاعره العاطفية عن آخرها.
واليوم، بذات النيّة، تبعته بهدوء حين توجّه إلى غرفتها.
كالعادة، جلس على سرير ميلي من دون تكلّف. حدّقت فيه ميلي بصمت وهو يتمدّد على الغطاء كأن المكان غرفته الخاصة، ثم جلست على مقعد بعيد.
لم تكن تجلس معه على السرير أبدًا.
أتراها كانت في العاشرة من عمرها؟
لقد نامت معه على السرير مرة واحدة. قفزا معًا فوقه وضحكا طويلًا من شعور الارتداد الذي أحدثته النوابض، ثم تمدّدا جنبًا إلى جنب.
كان ذلك لحظة بريئة بحق، كأنهما طفلان. لكنها لم تتكرّر أبدًا.
فقد دخلت والدتها فجأةً تحمل الغسيل، وضبطتهما.
وبعد أن طردت إدريك بأدب، وبّخت ميلي بصرامة.
‘لا تظني أنكِ مثل الدوق الشاب لمجرّد أنّكما تعيشان في البيت نفسه. هو ينتمي إلى عالم مختلف تمامًا عن عالمنا.’
ظلّت والدتها تكرّر تلك الحقيقة على مسامعها حتى يوم وفاتها. بل وأردفتها بتحذيرات عن مساوئ الزواج بين طبقات اجتماعية متفاوتة.
كانت والدتها ابنة كونت شهير، لكنها تزوّجت من والد ميلي، النبيل الفقير، وقضت حياتها في شقاءٍ بسبب ذلك.
وحيث إن تلك النصيحة جاءت من معاناة شخصية، فقد استمعت ميلي لها بانتباه بالغ.
“هل ستقابلينه؟ ذلك الرجل المُسمّى بلير؟”
قاطع إدريك أفكار ميلي.
منذُ أن نطق بكلمة ذلك الرجل، علمت ميلي أن إدريك لا يُحبّه.
ولِمَ لا؟
استغربت ميلي للحظة، لكن سرعان ما خطر لها سببٌ منطقي.
فمن الطبيعي لرجل نشأ نبيلًا حتى النخاع، أن يشعر بعدم الارتياح تجاه رجل ثري جديد.
“لا أدري بعد.”
“لا تدرين بعد….…”
ردّد إدريك كلماتها.
“يعني أنكِ لا ترغبين في لقائه؟”
“إن كان ذاك هو الخيار الوحيد، فلا يمكنني ذلك.”
“ولِمَ لا تملكين خيارًا؟ ابقي هنا فحسب. روزالين وافقت على ذلك أيضًا.”
“.……”
هزّت ميلي رأسها.
“لا أظنّ أن هذا هو الصواب.”
ورغم أنها لاحظت أن ملامح إدريك كانت أكثر كتمانًا من المعتاد، إلا أن ميلي لم تتراجع عن موقفها.
“أنا فقط.…..لا أشعر بالراحة. حتى وإن كانت الآنسة روزالين تُحبّني.”
كانت صادقة.
ماذا بوسعها أن تفعل إن بقيت في بيت الرجل الذي تُحبّه؟
وها هو سيصير رجلًا لامرأة أخرى. أليس من الخطأ أن تستمرّ في التعلّق برجلٍ صار لغيرها؟
حتى وإن لم تستطع نسيانه فورًا، فعليها على الأقل أن تبتعد عن ناظريه.
“إذن….…”
فكّر إدريك لوهلة، ثم قال.
“سأمنحكِ خيارًا آخر.”
“……؟”
“سأشتري لكِ منزلًا في العاصمة. يمكنكِ أن تعيشي فيه.”
حيّرت ميلي هذه المبادرة المفاجئة من إدريك وإصراره الغريب.
لماذا يفعل هذا أصلًا؟ هل لأنه يشعر بالشفقة على صديقة بمثابة أخته؟
أم لأنه لم يعد لديه من يُنصت إليه؟
بالطبع، لا يمكنه الجلوس دومًا في أناقة بدلته، لا بد أن تكون له لحظات يرتدي فيها منامته ويتمدد بلا تكلّف. وميلي كانت الوحيدة القادرة على معاملته ببساطة، دون تزييف أو مجاملة.
وحتى لو لم يكن كذلك، وإن كان فعلًا من قبيل الاهتمام الصادق، فإن ميلي كانت امرأة ذات حسٍّ سليم وبصيرة حادّة.
بعض النساء يظنّ أن بإمكانهنّ البقاء صديقات لرجال متزوّجين طوال العمر، لكنها لم تكن واحدةً منهن.
“إدريك، في الوقت الحالي.”
قالت ميلي بعد أن أطلقت تنهيدة خافتة.
“سأقرّر ما سأفعله بعد أن ألتقي باللورد بلير.”
ورغم أنها كانت تتحدث وهي تحدّق في طرف تنورتها، إلا أنها أحسّت بنظرات إدريك.
لم تكن نظراته ودودة كثيرًا.
“وإن اتّضح أنه جيد حين تلتقين به؟”
قال إدريك، وقد بدا صوته باردًا على نحوٍ غريب.
“إن كان جيدًا.……”
لم تستطع ميلي إتمام جملتها.
إن كان جيدًا، أعني……لم يخطر ببالها هذا الاحتمال أصلًا. لأنه لا يمكن أن يكون جيدًا.
كيف لها، وهي التي تفيض قلبًا برجل واحد، أن ترى سواه أصلًا؟
وبينما كانت تتردّد في اختيار ردّ لا يُفصح عن مكنونها، فتح إدريك فاه وقال.
“فكّري جيدًا، ميلي.”
ذلك الصوت الذي رقّ فجأةً، رجّ قلب ميلي على نحو غريب.
“الزواج من هذا النوع يُحسم منذُ لحظة اللقاء. في مثل هذه المواعيد العمياء، من يملك القرار ليس المرأة، بل الرجل.”
“.……”
“رجل أعمال من ذلك الطراز لا يليق بكِ، ميلي.”
عضّت ميلي شفتها ونظرت إلى إدريك. عيناه الزرقاوان، الشبيهتان بحجر اللازورد، بدتا وكأنهما لا ترى سواها.
كان ظنًا سخيفًا……مهما فكّرت، لا يمكن أن يكون حقيقيًا، ومع ذلك، تسلّلت نغزة شكّ إلى قلب ميلي.
ما السبب الحقيقي وراء تصرّفاته هذه؟ هل يُعقل أنه يُكنّ لها من المشاعر بقدر ما تُكنّ له……؟
“أنتِ تستحقّين أفضل من ذلك بكثير.”
“.……”
“ثقي بي. سأجد لكِ عريسًا أفضل.”
وما استطاعت ميلي أن تستخلصه من صوته الهامس الرقيق، لم يكن سوى مدى حماقتها.
‘استفيقي، ميلي إنوود. أقصى ما يحمله لكِ من شعور هو الصداقة، وأسوأه الشفقة.’
نهض إدريك من مكانه واقترب منها. انحنى أمامها ونظر في عينيها.
“قولي لأمي إنكِ لن تلتقي به. حسنًا؟”
عينان تهتزان كموج البحر. وصوت عذب كالهمس. كان ذلك الموقف أكثر إغراء من أن يُوجّه لصديقة بمثابة الأخت الصغرى، لكن ميلي لم تشأ أن ترتكب حماقةً بالبحث عن احتمالٍ آخر خلفه.
ومع ذلك، لم تكن ميلي واثقة تمامًا من قرارها بشأن الموعد.
كما قال إدريك، إن كانت المسألة تتعلّق بزواج فعلي، فعليها أن تدرسها بعناية.
لم يكن أمرًا يمكن حضوره بخفّة لمجرد ردّ جميل الدوقة السابقة.
“سأفكّر في الأمر.”
ذاك كان أقصى ما استطاعت ميلي قوله.
يُتبع….
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 5 - العجلة لا تجلِب إلا الغضب 2025-05-09
- 4 - الزَّواج بَين المُتشابِهين 2025-05-01
- 3 - سأجدُ لكِ عريسًا أفضلَ 2025-04-30
- 2 - لن يُزعزعَني أحدٌ 2025-04-29
- 1 - سأتزوَّج 2025-04-29
التعليقات لهذا الفصل " 3"