2
الفصل 002
هـااام!
توقّفت ميلي، التي كانت تخرج من غرفتها وفمها مفتوح بتثاؤب، أمام باب المطبخ وقد اعترتها الدهشة.
نظرت إلى الساعة المعلّقة على الجدار متسائلة إن كانت قد غفلت عن الوقت.
الساعة السادسة صباحًا.
لقد استيقظت في الموعد الصحيح.
“لماذا استيقظتِ في هذا البكور، آنسة ميلي؟”
“استيقظتُ فحسب.”
قالت ميلي وهي تتكئ على الرفّ، وارتسمت على وجهها ابتسامة باهتة.
لكنها لم تكن صادقة.
فقد أمضت ليلتها ساهرة لم يغمض لها جفن، بسبب الصدمة التي ألمّت بها جرّاء ما رأته في الليلة الماضية.
وكان شحوبها الطفيف دليلًا على ذلك، لكن أوز، خادمتها، والتي كانت لا تزال نصف نائمة، لم تلاحظ الأمر.
“يحدث هذا أحيانًا. ولكن بما أنكِ استيقظتِ مبكرًا، فلِمَ لا تخرجين في نزهة؟ لماذا أنتِ هنا؟ لا ينبغي لكِ أن تواصلي التصرّف كخادمة. خصوصًا وأنتِ آنسة نبيلة.”
أيّة سيدة نبيلة لا تكون خادمة إذا كانت تعيش على إحسان الآخرين…….؟
أجابت ميلي بابتسامة مغلّفة بالمرارة.
“أعددتُ الشاي. اشربي كوبًا وابدئي عملكِ.”
“آوه، شكرًا لكِ.”
أمالت أوز الإبريق الذي ناولتها إيّاه ميلي وسكبت الشاي، فملأت أنفها أبخرة خفيفة ذات عبق رقيق. وبدت ملامحها متنعّمة بردّ الجميل لهذا الكرم.
“شايكِ دائمًا ما يفوح برائحة طيبة في أي وقت يُشرب فيه. لا عجب أن الدوق لا يطلب إلا شايكِ، أليس كذلك؟”
“…….”
لم تُنكر ميلي ذلك.
فخلافًا لمظهره الهادئ السخيّ، كان إدريك رجلًا ذا ذوق صعب المراس.
وخاصةً حين يتعلّق الأمر بالشاي؛ فهو لا يمدّ يده إلى ما لا يوافق ذائقته.
ولهذا، كانت ميلي تعدّ له الشاي بدقة وصبر، تعدّ أوراقه بعناية، وتضبط درجة الحرارة والوقت بدقّة بالغة. لم يكن ثمّة من يستطيع إرضاء مزاجه الصعب سواها.
“آه!”
أبعدت أوز فمها عن فنجان الشاي على عجل وكأنها تذكّرت شيئًا فجأةً.
“قالت السيدة إن الدوق سينتقل إلى ملكيته الجنوبية حالما يتزوّج.”
حين يتزوّج…….
آه.
كانت كلماتها كنصلٍ حادٍ يخز قلب ميلي الملتاع، لكنها واصلت الحديث دون أن تبدو عليها أي مشاعر.
“……لماذا؟”
“لماذا؟ لأجل السيدة الجديدة، طبعًا.”
“…….”
“هي لا تريد أن تُشعر كنّتها بعدم الراحة. أمهات هذه الأيام يُراعين شعور زوجات أبنائهن كثيرًا.”
عجزت ميلي عن الرد، فاكتفت بالصمت.
كانت أوز عزباء، لكن يبدو أنها سمعت كثيرًا من الحكايات من صديقاتها المتزوّجات، فصارت تعرف الكثير عن أعراف الزواج في هذه الأيام.
راحت ميلي تُصغي شاردة إلى ثرثرة أوز اللاذعة عن ما ستخسره السيدة فيلتون إن كسبت كنّة عظيمة.
“أظن أن كنّة مثل الآنسة روزالين، الموهوبة إلى هذا الحد، هي شخص مثالي لتبقى في صالونات المجتمع. قد تضطرين للعيش معها تحت سقف واحد. يا للأسف! كان سيكون من الأسهل أن تأخذ سيدة لا شأن لها وتتحكّمين بها كيف تشائين….…”
هزت ميلي رأسها بالإيجاب، وإن لم تكن توافق أوز كليًا. فما من شيء آخر يمكنها فعله وهي على هذه الحال المضطربة.
‘زواج، كنّة…….’
كل كلمة من تلك الكلمات كانت كقطعة حديد باردة تمزّق قلبها بلا رحمة. لكن ذلك لم يكن شيئًا مقارنةً بما قالته أوز بعد ذلك.
“وستعود بعد عشرة أشهر تقريبًا.”
“لماذا بعد عشرة أشهر؟”
“لأن الطفل سيولد حينها.”
“……طفل؟”
“آوه، أما علمتِ، آنستي؟ لقد حدّدوا موعد الزفاف بناءًا على دورة الآنسة روزالين الشهرية. حتى يُولد الطفل مباشرةً بعد الزواج.”
“…….”
“كم سيكون جميلًا ذاك الطفل؟ إن أمكن، آمل أن يكون صبيًا يشبه الدوق.”
“الابنة ستكون رائعة أيضًا. لو أنها تشبه إدريك…….”
قالت ميلي ذلك بشيء من الحزم.
فبعدما رأت ذاك المشهد المروّع ليلة الأمس، لم تستطع أن تقول غير ذلك.
‘هذا لا يصح. هذا خطأ.’
وقضمت شفتيها.
* * *
بعد لقائها القصير بـ أوز، قصدت ميلي غرفة إدريك بحذر، وهي تحمل كوبين من الشاي.
كان إدريك جالسًا في مقعد وثير بجانب النافذة، حيث تنساب أشعة الشمس الصباحية.
لقد كان إدريك يقرأ كتيّبًا وهو يرتدي رداءً من الساتان الكحلي فوق ثياب نومه، وقد بدا من الأناقة بحيث يصعب تصديق أنه رجل استيقظ للتو.
“أعذرني……إدريك. أيمكنني التحدث إليك لحظة؟”
“بالطبع.”
رفع إدريك نظره عن الكتاب الذي كان يقرؤه وابتسم عند سماعه كلمات ميلي.
وكانت عيناه الزرقاوان خلف النظارات ذات الإطار الذهبي تتلألآن كخرزات العقيق.
“ما الذي أردتِ قوله حتى أتيتِ إلى غرفتي هذا الصباح؟”
شعرت ميلي بارتباك أشدّ وهو يحدّق فيها بنظرة مترقّبة.
“ذلك….…”
أغلق إدريك الكتاب ونزع نظارته كما لو كان يُنصت إليها باهتمام بالغ.
“في الحقيقة، إن رو….…”
“آه، يبدو أن روزالين تكنّ لكِ احترامًا كبيرًا.”
حرّكت ميلي شفتيها مرارًا محاولة العثور على الشجاعة لتقول الحقيقة، لكن في تلك اللحظة القصيرة كان إدريك قد استبقها بالكلام.
تابع حديثه بعينين تفيض بالاحترام تجاه روزالين.
“قالت إنكِ تبدين فتاة حذرة وهادئة. وإن كان لا بأس لديكِ، فهي تودّ اعتباركِ أختًا صغرى لها. روزالين لا تملك أختًا.”
“…….”
هل من الصواب أن تخيّب أمل رجلٍ يحمل هذا الانطباع الحسن عن خطيبته؟
راحت شجاعة ميلي تخبو تدريجيًا، لكنها لم تكن لتعرف لولا أنها رأت. لم يكن بوسعها تجاهل ما رأته. حتى وإن جُرح، فليُجرَح الآن، لا لاحقًا.
“إدريك.”
نادته بصوت حازم، فمال إدريك برأسه إلى جانب، وانسدل شعره الأشقر الناعم على جبينه، كاشفًا عن حاجبيه الوسيمين.
أغمضت ميلي عينيها بإحكام، وقالت في نَفَسٍ واحد.
“تلك المرأة، الأخ غير الشقيق الذي جاء معها البارحة، مغرمة به.”
كان من الصعب عليها قول ذلك إلى درجة أن يديها راحتا ترتجفان، لكنها قررت أن تقول الحقيقة كاملة كي يستوعبها سريعًا.
“رأيتُ ذلك في الردهة. كانا يتبادلان القبل. قبلة……حارّة جدًا.”
“…….”
سكت إدريك هنيهة.
لكن رأسه المائل قد استقام، وذراعاه انعقدتا أمام صدره كما لو أنه أغلق على نفسه.
‘هل صُدم؟’
لكن نظراته كانت غريبة بعض الشيء.
فبدل أن يبدو مصدومًا أو غاضبًا، بدا وكأن ذهنه خالٍ من كل شيء.
راحت ميلي، التي كانت تعضّ شفتيها من الحرج حيال ردّة فعله غير المتوقعة، تسأله على سبيل الاحتمال.
“ألا……تصدّق ما أقوله؟”
“بل أصدّق.”
قالها دون تردد.
“أصدّق كل كلمة قلتِها.”
“فلماذا ترتسم على وجهك تلك النظرة؟”
مالت ميلي برأسها في حيرة، فأطلق إدريك ضحكة خافتة.
“لأن الأمر لا يهم.”
“…….”
“ألم أقل لكِ من قبل؟ الزواج لقاء بين عائلتين. طهارة الطرف الآخر لا تعني ليّ شيئًا، ميلي.”
“آه……مهما كان….…”
“ما دام الطفل الذي ستنجبه روزالين طفلي، فلا بأس. هي حرة، وأنا أيضًا أملك حرية اتخاذ عشيقة.”
كان إدريك هادئًا إلى حد لا يُصدق.
تابع حديثه بتعابير خالية من أي انفعال، وبنبرة هادئة كأنه يقرأ من كتاب.
“ميلي، معظم من في المجتمع الراقي على هذا النحو. الزواج والحب أمران منفصلان. بالطبع، سيكون أمرًا رائعًا لو اتّحدا.”
ذلك كان أمرًا سمعته ميلي كثيرًا من قبل.
لكن حتى لو كان الزواج سياسيًا، فهو يبقى زواجًا. وإن لم يبدأ بالحب، أفلا ينبغي على الأقل أن يبدأ بالثقة؟ سواء انهارت لاحقًا أم لا.
فحتى البرج الذي يُشيَّد على أرضٍ صلبة قد ينهار، فكيف بذاك الذي بُنِي على أساس واهٍ؟
أهكذا يفكّر النبلاء العظام؟
يتغاضون عن أفعال لا أخلاقية بهذه البساطة…….
“……!”
راود ميلي فجأةً سؤال أرادت طرحه.
“وهل تفعل ذلك أنتَ أيضًا؟ هل……ستتّخذ لك عشيقة؟”
رجَت ألّا يفعل ذلك. حتى لو كان الجميع يفعلونه، بل حتى لو كان كل من في الطبقة الراقية يسير في هذا الطريق، كانت تأمل أن يكون إدريك مختلفًا. لم تكن تريده حبيبًا، لكنها أرادت منه على الأقل أن يكون وفيًا لزواجه.
لو اتّخذ عشيقة بعد زواجه، فذلك سيكون حزنًا لا يُحتمل بالنسبة لها، كما لو أنه لم يرها يومًا كامرأة.
“لا.”
“…….”
“حتى لو كان الأمر مسكوتًا عنه، فلن تكون صورة جميلة. وهناك احتمال كبير بأن تنشأ مشكلات مزعجة.”
عند سماع كلمات إدريك، أطلقت ميلي تنهيدة ارتياح دون أن تدرك.
على الأقل، تمكّنت من التحقّق من أن حبّها غير المتبادل طيلة عشر سنوات، لم يكن مشاعر أهدرتها على شخص لا يستحق.
“لا يعقل، ميلي.”
قال إدريك بابتسامة جانبية، حين ارتخت كتفا ميلي المتشنّجتان من شدة الارتياح.
“هل تقلقين من أن أقع في غرام أخريات؟”
“…….”
“لا تقلقي. لن يحدث ذلك.”
مد إدريك يده وربّت برفق على شعر ميلي.
“لن يتمكّن أحد من زعزعة قلبي. أضمن لكِ ذلك.”
ثم فتح الكتاب من جديد، وارتدى نظارته.
حدّقت ميلي للحظة في عينيه الزرقاوين والرموش الطويلة التي غطّتهما خلف زجاج النظارة الرقيق، ثم نهضت وغادرت الغرفة.
كانت تظن أن قلبها سيغدو أخفّ وطأة بعد حديثها معه، غير أنها شعرت بتشوش أكبر، بطريقة ما. كانت تعلم أن خطيبته تخونه، ومع ذلك، لا يزال يفكّر في الزواج منها.
لقد أقلقها الأمر كثيرًا، لكنها كانت مرتاحة في الوقت نفسه لأنه لم يتأذَّ بشدة. وفي جانبٍ آخر، بدا لها إدريك شخصًا غريبًا من جديد.
‘كنتُ أعلم، لكن…….’
إدريك فيلتون، ذو المظهر الدافئ من الخارج، كان في باطنه شخصًا باردًا وعقلانيًا بشكل مفاجئ.
‘لن يتمكن أحد من زعزعة قلبي. أضمن لكِ ذلك.’
ظلّ صوته الواثق يتردّد في أذنَي ميلي طوال طريق عودتها إلى غرفتها.
يُتبع….
Chapters
Comments
- 5 - العجلة لا تجلِب إلا الغضب 2025-05-09
- 4 - الزَّواج بَين المُتشابِهين 2025-05-01
- 3 - سأجدُ لكِ عريسًا أفضلَ 2025-04-30
- 2 - لن يُزعزعَني أحدٌ 2025-04-29
- 1 - سأتزوَّج 2025-04-29
التعليقات لهذا الفصل " 2"