1
الفصل 001
“سأتزوج، ميلي.”
ارتجف قلب ميلي حين بلغت مسامعها كلمات إدريك.
“مِمّن……مِمّن ستتزوج؟”
“سترين بنفسكِ. سأُحضرها إلى هنا غدًا.”
ثم غمز لها ومرر يده خلال شعرها البني.
ارتجف قلب ميلي ثانيةً عند لمسته الرقيقة.
‘يا ليّ من حمقاء.’
كان إدريك فيلتون قد بلغ الثالثة والعشرين من عمره، وهو سنٌ اعتُبر فيه التفكير بالزواج أمرًا طبيعيًا.
حدّقت ميلي في إدريك بشرود، وخطر ببالها فجأةً أول لقاء جمعهما.
‘ألقي التحية، ميلي. إنه وريث دوقية فيلتون.’
قبل عشرة أعوام.
كان ذلك الفتى المهندم الذي رأته حينما لجأت مع والدتها الأرملة، التي لم يكن لها مأوى، إلى دار صديقة والدتها الحميمة، دوقة فيلتون السابقة.
كان إدريك فيلتون ذا ملامح نبيلة أنيقة وابتسامةٍ رقيقةٍ ساخرة، وقد نظر إليها من علٍ. وها هو اليوم قد غدا رجلًا بالغ الجمال. ورجلًا كهذا كان على وشك الزواج.
“ألن تهنئيني، ميلي؟”
‘بالطبع. يجب أن أهنئك.’
كانت تعلم أن هذا ما ينبغي أن تقوله بوصفها صديقة قديمة له، لكن الكلمات لم تسعفها.
‘حمقاء.’
وبّخت نفسها مرارًا في سرها.
كانت تدرك منذُ زمنٍ بعيد أن هذا اليوم سيأتي. كانت تعلم أن إدريك، وريث أرفع أسر النبلاء في الإمبراطورية، ذو الوجه الرقيق البهيّ، سيؤسس عائلة سعيدة مع شريكة تليق به. لم يدر في خلدها أبدًا أن بإمكانها أن تكون إلى جانبه، فهي لم تكن سوى نزيلة في بيت آل فيلتون، نبيلة بالاسم لا بالفعل، قصيرة القامة، ضئيلة الجسد، غير جميلة. ومع ذلك، شعرت بمرارةٍ لاذعة وهي ترى إدريك يعرض الزواج على امرأةٍ أخرى بكل هدوء.
لقد بدا حقًّا أن الوقت قد حان لتودعه في قلبها.
كابحت ميلي مشاعرها بشق الأنفس، وقالت.
“مباركٌ لك……إدريك. حقًّا……مباركٌ لك.”
إلا أن الابتسامة على شفتيها كانت تتشوه رغمًا عنها.
* * *
توقفت العربة أمام المدخل.
توهّج شعار الماعز الذهبي لأسرة أديل تحت أشعة الشمس الغاربة، متلألئًا بفخامة تليق بعائلة أنجبت العديد من الإمبراطورات.
أمسك إدريك بيد المرأة التي ترجّلت من العربة، ثم أمسك بيد والدتها.
فيما كانت العائلتان تتبادلان التحايا والانحناءات الرسمية، راحت ميلي تراقب خطيبة إدريك، روزالين أديل، من أسرة الماركيز، بعناية.
كان شعرها، بلون الأزرق الأرجواني، يتبدل لونه على نحوٍ غامض بحسب الزاوية، وكانت عيناها الياقوتيتان تتلألآن بالمودّة وهي تُعرَّف على عائلة خطيبها.
كانت امرأةً ذات ملامح مشرقة وابتسامة منعشة، جمالها يضاهي بهاءها.
وبدت على درايةٍ تامّة بجمالها.
كانت ثقتها بنفسها واضحة في هيئتها وتصرفاتها، كما أنها كانت تعرف جيدًا الزاوية التي تُبرز أجمل ما فيها.
ورغم أن إدريك لم يتخذ قرار الزواج بها لمجرد حسنها، إلا أن جمالها كان، بلا شك، أحد الأسباب.
قال إدريك وهو يقدمها.
“هذه الآنسة إنوود. إنها بمثابة أختٍ ليّ.”
تسمرت أنظار جميع أفراد الأسرة عليها.
“…….”
احمرّ وجه ميلي خجلًا تحت وقع الأنظار المفاجئ، فطأطأت رأسها وألقت تحيةً خجولة.
“……يسرّني لقاؤكم. اسمي ميلي إنوود.”
أنهت ميلي تعريف نفسها ببساطة ودون إطالة، لكنها شعرت أن هذا القدر من الاختصار لا يكفي لتبديد تساؤلات أسرة خطيبة إدريك، فسارعت الدوقة السابقة، آدا فيلتون، لتوضيح الأمر قائلةً.
“إنها ابنة صديقتي. توفيت والدتها وليس لها من يرعاها، لذا آويتُها عندي.”
“آه…….”
أومأ الحاضرون برؤوسهم مرات قليلة، ثم سرعان ما صرفوا أنظارهم عنها.
بدا أن هذا القدر من الاهتمام كان كافيًا تجاه نزيلة في منزلهم.
بل إن أنظارهم سرعان ما انشدت نحو السيد أديل، وريث الماركيز القادم. وكان هذا أمرًا طبيعيًا.
فوفقًا لقانون الإمبراطورية، الذي يقصر وراثة الألقاب على الذكور، كان قد تم تبنيه منذُ سنوات كابنٍ بالتبني للماركيز، تمامًا مثل ميلي التي كانت بدورها ‘حجرًا دَحرجته الظروف’.
ولكن، لم يدم ذلك الاهتمام أكثر من ثلاث ثوانٍ.
كان هو، الذي كان يرمقها شارد الذهن، قد حوّل بصره سريعًا نحو أخته بالتبني، روزالين.
ثم، وكأنه أدرك مجددًا مدى جمال روزالين مقارنةً بالضيفة المقيمة في بيت دوقية فيلتون، ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ راضية.
لم تشعر ميلي حتى بشيء من الخزي، إذ بات هذا الأمر طبيعيًا لها كالتنفس.
“تفضلي بالدخول، آنسة روزالين.”
قال إدريك مبتسمًا ببشاشة وهو يمد ذراعه نحوها، فابتسمت روزالين بخجل، وطوّقت ذراعه بذراعها.
أما السيدة آدا، فقد مشت بجانب الماركيز وزوجته، يتبعهم فرانسيس.
سارت ميلي خلفهم بخطى متباطئة.
وكان وقع خطواتها، في هذا اليوم بالذات، يبدو أثقل من أي وقت مضى.
وما إن وصل الجميع إلى قاعة الولائم وجلسوا، حتى رفعت السيدة آدا فيلتون كأسها وقالت.
“مباركٌ هذا الرباط العائلي!”
“في صحتكم!”
كليـك.
كان صوت تصادم الكؤوس الكريستالية نقيًّا كالموسيقى.
وساد جوٌ مرح أثناء تناول الطعام.
وقد تولّت روزالين دفة الحديث بانسيابية، كما يليق بسيدة من الطبقة العليا.
كانت تطرح مواضيع تثير اهتمام الطرفين، وتحرص على إشراك الجميع في النقاش كي لا يشعر أحدٌ بالتجاهل.
وحين كان الحديث يأخذ مجريين متوازيين، كانت روزالين وإدريك ينحنيان نحو بعضهما ويتبادلان الهمسات، ثم يضحكان معًا كأنهما يتشاركان سرًّا لطيفًا.
تساءلت ميلي عما إذا كانت السكين التي بيدها أقل حدة من المعتاد اليوم.
وإلا، فكيف للحم أن يقاوم القطع بهذا العناد؟
في مواقف كهذه، كان إدريك، الذي يمتلك حِسًا مرهفًا، يبدّل صحونه مع صحنها دون أن يُشعرها، لكنه لم يفعل ذلك اليوم.
بل بدا كأنه لا يلاحظ حتى وجودها إلى جواره.
قالت السيدة آدا بعد انتهاء الوليمة.
“ما رأيكم أن نشرب الشاي في الحديقة؟ هواء الليل العليل رائع.”
ابتسمت روزالين ابتسامة مشرقة وأجابت.
“نعم، أمي.”
‘أمي…….’
كيف نطقتها بهذه البساطة…….
غمر الحسد قلب ميلي أمام هذه المودة والعفوية.
فبعد وفاة والدتها، كانت الدوقة السابقة قد قالت لها إنها ستعاملها كابنة لها، وأنه يحق لها مناداتها بأمي متى شاءت.
ومع ذلك، ورغم مرور أكثر من عشر سنوات من العيش معًا، لم تتلفظ ميلي بتلك الكلمة أبدًا.
كيف لضيفٍ أن ينادي دوقةً بلقب أمي؟
كان ذلك أمرًا فوق قدرتها على قوله.
لكن السبب لم يكن ذلك فحسب.
فلو نادتها بأمي، لأصبحت أختًا لـ إدريك.
وكانت هناك، إضافةً إلى حبها اليائس، هذه الرغبة الطفولية في ألا تضع بينهما حاجزًا آخر.
ولكن، في نهاية المطاف، لم تكن تلك سوى مقاومة عقيمة.
قالت ميلي بصوت خافت للسيدة آدا، في الرواق المؤدي من قاعة الطعام إلى الحديقة.
“سأعود إلى غرفتي، سيدتي. أشعر ببعض التعب.”
“أتشعرين بتعب شديد؟”
سألتها آدا بقلق ظاهر.
“أشعر بدوار بسيط.”
ولم تكن تكذب، فقد كانت تعاني صداعًا، وإن كان خفيفًا.
“حسنٌ إذن، اذهبي واستريحي، لقد كان يومكِ شاقًا.”
“نعم.”
انحنت ميلي تحيةً بأدب، وصعدت إلى جناحها.
جلست على كرسيها المخملي المفضل تهدئ ما اعتمل في صدرها، فبلغها من نافذتها خرير همسات الناس في الحديقة.
كانت معظمها عبارات تمجد إدريك وروزالين.
“إنهما ثنائي رائع. لم أرَ أبدًا زوجين يبدوان بهذا الانسجام.”
“بل لا مبالغة في القول إنهما خُلقا ليكونا معًا.”
شعر قلب ميلي بالاضطراب يزداد.
‘لماذا وضعت طاولة الشاي تحت نافذتي تحديدًا؟’
لكن فجأةً، تسللت إلى قلبها فكرة أن هذه قد تكون فرصة.
ربما، إذا نظرت من علٍ، استطاعت أن ترى شرخًا، ولو صغيرًا، بين إدريك وروزالين.
فرصةٌ لتتأكد أن زواجهما قد لا يتم…….
تحركت ميلي ببطء نحو النافذة.
“…….”
غير أن بريق الأمل الذي لاح في عينيها، خبا سريعًا.
لقد كانت بالفعل فرصة.
فرصة لتتأكد أن إدريك وروزالين سيتزوجان، بلا أدنى شك.
رجل وسيم وامرأة جميلة يليقان ببعضهما تمامًا.
وفوق ذلك، استمر الحوار بينهما بانسياب طبيعي، كجريان الماء دون انقطاع.
كان الاثنان غارقين بسعادة في حديثهما.
ويبدو أن أخ روزالين بالتبني قد انسحب للحظات، مما أتاح لهما التفرغ أكثر لانسجامهما المتبادل.
‘إدريك فيلتون. إنه حقًّا سيتزوّج.’
تنهدت ميلي بمرارة، مستسلمة للحقيقة.
كان إدريك رجلًا يضع معايير عالية لاختيار شريكة حياته.
وكانت روزالين دليلًا ساطعًا على مدى علو تلك المعايير.
الجمال، واللباقة، والنسب الرفيع، كانت أساسيات بديهية، وفوق ذلك، امتلكت روزالين روحًا مرحة، وموهبة اجتماعية بارعة.
لقد كانت، بلا منازع، أفضل امرأة عرفها إدريك على الإطلاق.
وإن كان لا بد من الإشارة إلى عيبٍ فيها، فربما يكون شيئًا من الغرور.
لكن، لعل طلب التواضع من امرأة تكاد تكون كاملة، يكون ضربًا من المبالغة.
فجأةً، لمحت ميلي روزالين وهي تطلب الإذن بالانسحاب من الجمع، ثم تنهض.
شعرت ميلي أنه لا حاجة بها إلى المكوث أكثر.
فاستدارت مبتعدة.
‘ماذا أفعل الآن؟’
لم يكن بوسعها التجوّل بحرية، بعدما ادعت إصابتها بالصداع.
فكّرت بأنها قد تواصل قراءة الرواية التي كانت قد أتمت قراءتها في النهار.
لكن، مهما جالت بنظرها في أرجاء الغرفة، لم تجد الكتاب.
“أين وضعته؟”
استغرقت ميلي بالتفكير مليًا، حتى تذكرت أنها قد تركت الكتاب في غرفة المعيشة بالطابق السفلي.
‘بما أنه لن يتواجد هناك سوى الخدم، فلن يكون من الغريب أن أنزل لدقائق لاسترجاعه.’
نزلت ميلي الدرج بهدوء بالغ، كي لا تحدث أدنى ضجيج.
وما إن تجاوزت غرفة الاستقبال واقتربت من زاوية الممر المؤدي إلى غرفة المعيشة، حتى التقطت أذناها صوتًا.
‘هل هناك من ينظف الأرضية في هذا الوقت؟’
كان صوت الصرير أشبه بصوت مسح الأرضية الرخامية بحماس بواسطة ممسحة.
وعادةً ما كان التنظيف يتم صباحًا، فلم يكن من المعتاد سماع مثل هذا الصوت ليلًا، إلا لو أن شيئًا قد انسكب.
دون كثير تفكير، استدارت ميلي حول الزاوية.
لكنها ما لبثت أن رجعت خطوتين إلى الوراء في أقل من ثانية.
‘يا إلهي، ماذا رأيتُ؟’
انسلت من بين شفتيها تنهيدة مذعورة، وارتدت إلى الحائط ملتصقة به، واضعةً يدها على فمها كي لا تفلت منها أي أنّة.
ثم، ببطء، أمالت رأسها ونظرت من طرف الزاوية.
“…….!”
كانت عيناها تلتقطان مشهد قبلةٍ لزجة بين روزالين ورجلٍ غريب.
ذلك الصوت لم يكن ناتجًا عن تنظيف الأرضية، بل عن احتكاك الأجساد ببعضها.
وفي لحظة، ظهر وجه الرجل واضحًا مع تبدل موضع رأسيهما.
فتوهجت عينا ميلي العسليتان بصدمة لم تعرف لها مثيلًا.
يُتبع….
Chapters
Comments
- 5 - العجلة لا تجلِب إلا الغضب 2025-05-09
- 4 - الزَّواج بَين المُتشابِهين 2025-05-01
- 3 - سأجدُ لكِ عريسًا أفضلَ 2025-04-30
- 2 - لن يُزعزعَني أحدٌ 2025-04-29
- 1 - سأتزوَّج 2025-04-29
التعليقات لهذا الفصل " 1"