“لـ- لا تذهب! مَن قال هذا بالضّبط؟ هـ- هل كان الأسقف بارفن…؟”
“لا يُمكنني إخباركِ. بالطّبع، ليس كاهنًا من القاعة المقدّسة ولا ليبرتان.”
“اجبنِي الآن. أنا ابنة الفيكونت بيسك!”
“…”
“أ…أ- أنا نبيلة! أنا وابنتي لا نستحق مُعامَلةً كهذه…”
لم يُصغِ فالنتين لبكاء المرأة وغادر الغرفة.
بعد عشر دقائق، عندما عاد فالنتين، لم تكن ألكسندرا وطفلتها في الغرفة.
وقف ساكنًا على الأرض حيث توقّفت العربة للحظات، ثم بدأ بالمشي. تذكَّرَ خبر وفاة الإمبراطورة الذي سمع عنه قبل أسابيعٍ قليلةٍ دون مفاجأة.
‘بهذا يكون قد انتهى الأمر.’
إذا حافظت ألكسندرا على رباطة جأشها، ستتمكّن هي وابنتها من البقاء على قيد الحياة.
لا توجد خياراتٌ أخرى. هذا أفضل ما يُمكنني فعله. لقد بذلتُ قصارى جهدي. فرك فالنتين وجهه الشّاحب بيديه، مُتمنّيًا ألا تعود ألكسندرا أبدًا، ثم استدار.
كما في حياته السّابقة، هزّت ولادة ألكسندرا واختفاؤها ماخاتشكالا بشكلٍ ملحوظ، لكن، كما في السّابق، لم يدم الأمر طويلاً.
لحُسن الحظّ، بدا أن الإله استجاب لصلوات فالنتين.
في سنّ الثّانية عشرة، لم يحصل بعد على الحزام الذّهبي، رمز المرسول، لكن وجود فالنتين داخل ديانة غافريل أصبح أكثر تأثيرًا مما كان عليه.
بفضل قدرته على التّنبؤ بالكوارث الطّبيعيّة مثل الفيضانات، ساهم في زيادة ثروات بعض الكرادلة.
مَرَّ الوقت بسلاسة.
“الكاهن فالنتين، كيف ترى مستقبل إمبراطوريّة أوهالا؟”
“ماذا تعني بالمستقبل؟”
“يُقال إن ولي العهد نصف مجنون. هناك أصواتٌ قلقةٌ من هنا وهناك. في المستقبل الذي رأيتَه، أيّ نوعٍ من الإمبراطور سيكون الأمير فاسيلي؟”
“…النبوءة هي وحيٌ إلهي. لم أتلقَّ بعد أيّ وحيٍ بشأن مستقبل أوهالا.”
كلما سُئل عن سلامة العائلة الإمبراطوريّة، تجاهل السّؤال.
لم يكن مُخطِئًا.
كان فالنتين يسير فقط في الطّريق الذي اختاره. طريق البقاء. لم يكن ذلك جريمة، بل غريزة.
في سنّ الخامسة عشرة، استمرَّ الوقت في المرور بسلاسة.
معظم شعب الإمبراطوريّة كانوا يعرفون فالنتين من عائلة دميتريف، لكنهم جهلوا المرسول فالنتين.
كيف يُمكن أن يكون ذلك؟ كان ردّ الأسقف بارفن كالتّالي.
“الكاتدرائيّة، في النّهاية، تَجمَعُ العديد من الأشخاص. على مرّ السنين، تنافست فصائلٌ مختلفةٌ على السّلطة. إنهم دائمًا حذرون من ظهور فصائل جديدة.”
“إذن، هم قلقون من أن أستخدم عائلتي لممارسة النفوذ.”
“نعم. علاوةً على ذلك، ألستَ من نسل القدّيسين ذوي التّاريخ العريق والرمزيّة الواضحة؟”
القدّيسون ذوو التّاريخ العريق والرمزيّة الواضحة.
‘مجلس العرّافين.’
هل يخشون عودة مجلس العرّافين؟
“لهذا، مِن المُحتمل أنهم يمنعون انتشار إنجازات المرسول خارج ديانة غافريل. أمرٌ مؤسف…”
لقد لجأ إلى غافريل لتجنّب ليبرتان، لكن الوضع هنا لم يختلف كثيرًا عن العالم الخارجي. ضحك فالنتين بسخرية.
في سنّ الثّامنة عشرة.
أخيرًا، عيّنه البابا.
بعد ثلاث سنوات، سيُمنح الحزام الذّهبي، وخلال هذه الفترة، يجب عليه إنهاء جميع الأمور في ماخاتشكالا، وجمع الأعمال الصّالحة، وتولي إرث المرسول رسميًّا.
عندما تلقّى الخبر، أغلق فالنتين عينيه بهدوءٍ وسط تهاني الكهنة.
‘…أخيرًا.’
أخيرًا حصل على القوّة.
ثلاث سنوات. إذا صمد لثلاث سنواتٍ فقط، سيحصل على سلطةٍ لا يستطيع ليبرتان تجاهلها. لا أحد عاقل سيجرؤ على معاداة ديانة غافريل.
هذا الجحيم سينتهي!
…رُبّما.
منذ ذلك اليوم، أصبح فالنتين حذرًا للغاية في أقواله وأفعاله.
كان يقضي وقتًا بمفرده في غرفة الصّلاة حتّى ساعاتٍ متأخّرة، متظاهرًا بكونه كاهنًا متديّنًا بكلّ إخلاص.
بعد أكثر من نصف عام، في ليلةٍ خريفيّة.
بينما كان يتناول التوت المُجفَّف كعادته، ليقتل الملل في غرفة الصّلاة، سمع صوتًا.
“أمم… سيّدي الكاهن؟ هل أنتَ موجود؟”
دخلت فتاةٌ صغيرة، منحنيةٌ كالفأر، دون خوفٍ من فتح باب غرفة الصّلاة.
عندما التفت، حدّقت الفتاة في فالنتين لبعض الوقت، ثم تصلّبت فجأةً وأنزلت رأسها بسرعة.
“آه، مرحبًا. أنا فيدورا من دار أيتام باتي.”
كان فالنتين على وشك القول إن دخول المؤمنين العاديين ممنوعٌ في هذا الوقت، لكنه، عند رؤية مظهر فيدورا الرّث، أومأ برأسه ببطء.
“تشرّفتُ بلقائكِ، آنسة فيدورا. هل لديكِ أمرٌ معي؟”
ما إن نهض حتّى ركعت فيدورا وألصقت جبهتها بالأرض.
“سيّدي الكاهن! أتوسّل إليكَ هكذا. أرجوك، انقِذ إخوتي! ليتيمةٍ بلا قوّةٍ مثلي، لا مكان تتوسّل إليه سوى القاعة المقدّسة!”
ها قد بدأت مرّةً أخرى.
‘ها.’
لم ينزعج فالنتين من المشهد المألوف الذي رآه من قبل، وساعد الفتاة على النهوض.
“الأرض باردة، قومِي أولاً.”
“الكبار يبيعون أشياءً غريبةً لأطفال دار الأيتام!”
“…أشياءٌ غريبة؟”
“ملفوفةٌ بورق، لا أعرف ما هي. يترنّحون كالمجانين، يهلوسون برؤية الملائكة، ثم يبحثون عن تلك الأكياس مجددًا… يقول الكبار إنه يجب العمل للحصول عليها. لقد اختفى أكثر من عشرة من أخواتي وإخوتي من الدار… لا أعرف أين هم أو ماذا يحدث لهم…”
كانت عينا فيدورا ذكيّتين.
على الرّغم من تكراره للموت لعقود، نادرًا ما رأى طفلةً بعيونٍ صافيةٍ كهذه. لا كذب ولا مبالغة. علاوةً على ذلك، إذا كان هناك شيءٌ مشبوهٌ في ماخاتشكالا يُفقد النّاس عقولهم، فقد سبق لفالنتين أن حقّق فيه.
‘هل يستخدم ليبرتان المُخلّص كطُعمٍ لاستغلال الأطفال أيضًا؟’
لا يجب أن أتورّط أبدًا.
لا يجب أن أشعر بالشّفقة على الأطفال. في اللحظة التي أشعر فيها بالرأفة، سأفقد عائلتي مرّةً أخرى وأعود إلى بداية هذا الجحيم.
لكنّه لم يستطع إرسال فيدورا بعيدًا بسهولة. كان واضحًا أن هذه الفتاة الذكيّة ستستمرّ في العودة.
حتّى لو هرب فالنتين بعيدًا، فإن أحدًا في القاعة المقدّسة سيستمع إلى طلب إنقاذها. ليس كلّ الكهنة يفكّرون بالمصلحة فقط. شخصٌ طيّبٌ وصادقٌ سيستجيب لطلبها بالتّأكيد، وعندما يعلم ليبرتان بذلك، قد يسمع اسم فالنتين بعد التّحقيق.
يجب منع ذلك بأيّ ثمن.
بعد أربعة أيّام، تم ترتيب مكانٍ جديدٍ لفيدورا. عملٌ في تعلّم الطّبخ ومساعدة القاعة المقدّسة في مدينةٍ صغيرةٍ بعيدة عن ماخاتشكالا.
في اللّيلة السابقة لمغادرتها.
جاءت فيدورا، كما في السّابق، إلى غرفة الصّلاة فجأة، مُمسِكةً بخطابٍ سُلّم إليها سرًّا من فالنتين.
“هل هذه الرّسالة حقيقيّة، سيّدي الكاهن؟ هل ستُساعد إخوتي حقًا؟ هل ستُعاقب أولئك الأشرار؟”
“نعم، صحيح.”
“حقًّا؟”
“نعم.”
“حقًّا؟”
“حقًّا.”
“آه… حمدًا للإله…يا لها من راحة.”
تنهّدت. بدأت الدّموع تتجمّع على وجه الفتاة الداكن.
“قال النّاس في المدينة إنّكَ غني، ذكي، متديّن، وسيم… شخصٌ عظيمٌ جدًا. لكنني كنتُ أكره هؤلاء النّاس. كلّ الأشخاص العظماء كانوا ينظرون إليّ كحشرة.”
“…”
“لكن… يبدو أن رؤيتي كانت ضيّقة. شكرًا جزيلًا، سيّدي الكاهن… سأردّ هذا الجميل يومًا ما. سأعود إلى ماخاتشكالا بالتّأكيد!”
لن يحدث ذلك. طالما ليبرتان على قيد الحياة، لن يسمح فالنتين لفيدورا بالعودة إلى ماخاتشكالا أبدًا.
في غرفة الصّلاة الفارغة بعد مغادرة الفتاة، شَعَرَ فالنتين فجأةً بكراهيةٍ ذاتيّةٍ عميقة.
لستُ غبيًّا. بعد كلّ ما مررتُ به، كرّرتُ مُجددًا قرارًا قد يُهدّد والدي. وبعد أن كرّرتُه… لم أفعل سوى إخفائه بإرساله بعيدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 99"