في صمتٍ مشحونٍ بالتوتّر، بدا فالنتين، وهو يقف على المنصة، هادئًا للغاية. أضاء ضوء الشّمس الساطع، دون غيمةٍ واحدة، ثوبه الأبيض حتّى لمع كالجواهر.
بقامته الطّويلة المبهرة، وشعره الفضّي اللامع، وعينيه التركوازيّتين الواضحتين بشكلٍ غير واقعي، أطلق من يواجهونه مُباشرةً تنهّدات إعجابٍ خافتة.
حقًا، مظهر فالنتين هو بركةٌ بلا شك. حدّقتُ فيه مسحورة، وعندما تقاطعت أعيننا للحظةٍ وهو يجول بنظره بين الحشد، تظاهرتُ بتعبيرٍ باردٍ كالسّمكة المسلوقة، لكنني لا أعرف إن كنتُ نجحت في إخفاء ذهولي.
“أولاً، أتعهّد بجدّيةٍ بخدمة جميع المؤمنين والشّعب بنعمة المُخلّص القدّوس. وأتقدّم بالشّكر لجلالة الإمبراطور والإمبراطورة على منحهما فرصة العبادة في هذه المدينة الجميلة، ماخاتشكالا.”
أومأ والداي برأسيهما باختصار.
“في الأيّام الماضية، نزل وحيٌ من الإله. أُخفِيت كميةٌ هائلةٌ من الكنوز والذّهب والفضّة في جنوب غرب كوتلشيني، ليُستخدم لصالح الفقراء والمؤمنين المخلصين.”
“يا إلهي.”
همست إيما، مُغطّيةً فمها بتعبيرٍ مصدوم.
“إن كانت الكنوز تشمل الذّهب والفضّة، فهل يُعدّ الألماس؟ كوتلشيني مدينةٌ صغيرةٌ جدًا… إذا اكتُشف منجم ألماس، سيكون ذلك مذهلاً. لا، بل سيُكتشف بالتّأكيد. المُخلّص دائمًا يرعى المحتاجين.”
بدأ المؤمنون المتأثرون بالنبوءة يغمضون أعينهم ويرفعون الصّلوات. تحوّل الميدان الهادئ فجأةً إلى صخبٍ من تلاوات الصّلوات وهمسات الأمنيات. حتّى البابا أغلق عينيه وبدأ يتمتم بالصلاة، تاركًا فالنتين وأنا الوحيدين المستيقظين، نرفع رأسينا بثبات.
‘لا يُمكن للنّاس أن يتخيّلوا أن نبوءات فالنتين ليست سوى ماضيه الذي عاشه.’
في هذا العالم، أنا وفالنتين فقط نتقاسم هذا السِّر. فجأة، شعرتُ وكأننا الاثنان الوحيدان في هذا الميدان الواسع.
بينما يُحاول الجميع الوصول إلى الإله من خلال فالنتين، كان هو يُحدّق بي دون اضطراب.
لِمَ بدا وجهه الهادئ وحيدًا جدًا؟
فجأة، تذكّرتُ قصص حياته السّابقة التي رواها لي. نبوءات فالنتين كلّها موجودةٌ في ماضيه. نبوءاته كاذبةٌ وصادقةٌ في آنٍ واحد. لم تكن بركةً من الإله، بل لعنة.
شعرتُ بثقلٍ في قلبي، فرفعتُ إبهامي نحوه بهدوء. كما لو كان يُراقبني بالفعل، ظهرت ابتسامةٌ خفيفةٌ على وجهه الهادئ. كانت ضحكةً ساخرة، لكنها أفضل بكثيرٍ من تعبيره المعتاد الذي يبدو كأنّه يعرف كلّ شيء.
هدأ الصّخب الذي بدا وكأنّه سيستمرّ إلى الأبد مع كلمةٍ واحدة، عاد الميدان إلى هدوء الفجر.
“سموّ الأمير فاسيلي، في عصر حكمكَ، ستشهد إمبراطوريّة أوهالا ازدهارًا عظيمًا.”
“سموّ الأمير إيفان، المِصباح الذي أضاءتـهُ إرادتكَ سيُضيء الطّريق الصّحيح فقط، فلا تتردّد.”
بعض النبوءات مُختلفةٌ تمامًا عن تلك التي قبل أربع سنوات، وبعضها لم يتغيّر. بدأ قلبي ينبض بسرعة.
“التّالي.”
كما في تلك المرّة، تحوّلت عينا فالنتين التركوازيّتان الجميلتان نحوي.
“الأميرة لاريسا.”
توقّفت أنفاسي عند إشارته المُهذّبة. نهضتُ واقفة، كاشفةً عن توتّري بوضوح، وسرتُ بخطواتٍ مُتصلّبةٍ نحو المنصة.
لم أرَ شيئًا سوى وجه فالنتين، ولم أسمع شيئًا سوى صوته.
لَفَّ فالنتين ذراعه حول خصري، وانحنى ببطءٍ، يهمس بهدوء.
“ظننتُ أن ملاكًا نزلَ من السَماء. أقراط اللؤلؤ تليق بكِ جدًا.”
ما هذا؟ قلبِي لم يَذُب، أليس كذلك؟ كيف يُمكنني أن أكون على قيد الحياة وهو ينبض بهذا الجنون؟
حدّقتُ في عينَي فالنتين كالبلهاء، عاجزة عن قول أيّ شيء، مُتمنّية فقط أن تتوقّف هذه اللحظة إلى الأبد.
“مستقبلكِ، سموّكِ… ليس مُحدّدًا. يمكنكِ تحقيق أيّ حلمٍ عظيم، وكلّ أمنية. لا استثناءات. سأجعل ذلك يحدث.”
تجمّعت الغيوم.
اختفت الشّمس، وغُطّيت السّماء، وغرق العالم كلّه في الظّلام. وسط كلّ الحواس الغارقة كما لو كانت تحت بحيرة، كان هناك نورٌ واحدٌ واضح.
فالنتين.
كان هو النّجم الوحيد الذي يُضيء هذا اللّيل.
“لذا، سموّكِ، ابقي هنا كما أنتِ. استمرِّي هكذا.”
أدركتُ أخيرًا.
آه، إنّهُ الحُبّ.
أنا أُحبّ فالنتين. هذا الارتجاف هو بالضّبط ذلك الحُبّ الذي تغنّى به شعراء وموسيقيّو ماخاتشكالا بلا كلل.
‘لا يُمكن.’
كذب.
هذا هو الحُبّ؟ هذا ما يُسمّونه الحُبّ؟
كُلُّ تلك الغيرة الحقيرة والاستياء التي شعرتُ بها تجاه فالنتين كانت بسبب الحُبّ؟
انتظار رسائله طوال اليوم، التّأرجح بين النّعيم والجحيم بمحادثةٍ واحدة، والتّخبّط على وسادتي بسبب أمورٍ تافهة… كُلُّ ذلك بسبب الحُبّ؟
‘هذا يبدو مُقنعًا جدًا.’
لا أُصدّق.
منذ متى وقعتُ في حُبّ فالنتين؟ في الحفل الإمبراطوري؟ حفل إيلين؟ أم خلال الرّسائل التي تبادلناها على مدى أربع سنوات؟ أم… أم رُبّما منذ اللحظة الأولى التي التقينا فيها؟ لا، لا يُمكن أن يكون منذ ولادتي، أليس كذلك؟
في عالمي المليء بالفرح والارتباك، فتح النّجم الوحيد اللّامع فمه مرّةً أخرى.
“أخيرًا… مهما حدث لي، لا تذعرِي أبدًا.”
فجأة، تبدّد الظلام، وعادت حواسي إلى الواقع.
‘أذعر؟’
ردَّت نظرة فالنتين على تساؤلي بنظراتٍ باردة، كأن دفءه السّابق كان وهمًا.
“لا تحوّلِي عينيكِ عنّي. نعم، استمرِّي في النّظر إليّ واستمعي. مِن بين الكرادلة الجالسين خلفي، هناك رجلٌ أشقر. سيقوم قريبًا بإطلاق النّار عليّ.”
“…ماذا؟”
رصاصة. كلمةٌ لا أفهمها جعلت رؤيتي تترنّح.
“رصاصةٌ واحدةٌ فقط، وسأحميكِ، فلن تُصابي بأذى. لكن بالنّظر إلى طولكِ، من الأفضل أن تنحني قليلاً أكثر… تأثّرِي… ابكِي…”
رأيتُ فوق كتف فالنتين.
أحد الكرادلة، الذي كان يجب أن يكون جالسًا، وقف بوضعيّةٍ غريبة. كان الكاردينال الأشقر الذي أزعجني طوال الوقت.
كان يعبث بيدٍ مرتجفةٍ داخل السّجادة الحمراء التي تحمل <يوميّات رو>.
رغم النّظرات المذهولة من البابا، والكرادلة، والجوقة، لم يبدُ أنه سيتوقّف. كانت عيناه الفاقدتان للتّركيز مليئتين بالرّعب والاستعجال.
‘…لهذا السّبب.’
هَدفُ هذا الرجل هو اغتيال فالنتين.
لهذا كان يرتجِف.
بدأ الحرّاس، الذين لاحظوا تصرّفات الكاردينال الغريبة، بالاقتراب بسرعةٍ نحو المنصة. أصبحت حركات الرّجل أكثر استعجالاً، وسحب فالنتين خصرِي نحوه أكثر، مُتظاهِرًا بعدم الاكتراث.
بدت كلّ تلك المشاهد بطيئةً بشكلٍ لا نهائي.
“هل ستبقين ساكنةً هكذا؟”
هل يجب أن يُصاب برصاص ذلك الرّجل؟
هل هذه خطّتكَ العظيمة؟
حُضنُ فالنتين واسِع. في هذا الحضن، يجب أن أُشاهد عاجزةً وهو ينهار مُغطّى بالدماء.
كان هذا دوري. هذا هو…
…لكن، فالنتين، كيف يُمكن لإنسانٍ أن يفعل ذلك؟
أنا، التي أدركتُ الحُبّ لأوّل مرّةٍ في حياتي، كيف يُمكنني أن أقف وأُشاهد فقط؟
رَنَّ صوت طلقةٍ ناريّة.
في صمت المكان، بدا أن أحدهم نادى اسمي.
لم أسمع تلك الصّرخة بوضوح، لأن ألمًا مروّعًا اجتاح ذهني. كان الألم الأكثر حرارةً ومعاناةً شعرتُ به في حياتي. الجاني المذعور، يرتجِف بيديه، ضَغَطَ على الزناد مرّاتٍ أخرى، لكن لم تُطلق طلقاتٌ أخرى.
فالنتين بخير.
‘آه، هذا جيّد.’
حقًّا، يا لها مِن راحة. الرّجل الذي أُحبّه لم يُصب بشيء. لا شيء…
التعليقات لهذا الفصل " 97"