بعد سماع قِصّة فالنتين، بدأ قَلَقٌ يتسلّل إليّ. قَلَقٌ من أن يكون ضَعفُ والدتي، الذي جعلها تأخذ إجازاتٍ طويلةٍ في تشيليابينسك كلّ عام، بسببي.
‘لقد ماتت والدتي مرّاتٍ عديدةٍ مثل فالنتين.’
تكرّرت وفاتها المروّعة مرارًا وتكرارًا. لو لم أكن قد تربّعت في هذه السفينة كأفعى ملتفّة*، لكانت احتمالية وفاتها بسقوطٍ من حصانٍ أو غرقٍ في قناةٍ أقل بكثير. لكنني أعلم أن قول هذا لن يؤدي سوى إلى إزعاج والديّ، فأغلقتُ شفتيّ بإحكامٍ وعدتُ إلى غرفتي.
(بلوفي: هنا استُخدِمَ تعبيرٌ مجازي، بمعنى أن الشخصية -لاريسا- تتخيل نفسها كأفعى -شخص يجلب الحظ السيء والمشاكل- تلتفّ حول السفينة التي ترمز إلى العائلة أو الحياة أو المصير، أي أن المعنى يصبح “لو لم أكن موجودة في هذه العائلة أو في هذا المصير، لما وقعت الكوارث على أمي.”)
‘لكن كيف تمكّنتُ من أن أُولَد؟’
على الرّغم من جهود فالنتين، قال إنني لم أرَ الشّمس ولو مرّةً واحدةً خلال تكرار العالم ثلاث مرّات.
رُبّما كان الأمر نفسه في العالم الرّابع، إذا تذكّرتُ همس فالنتين لي ‘ما كان يجب أن تولدي أبدًا.’
همم. إذن، هل كان مجرّد حظّ؟
“أين والدي؟”
يجب أن أطلب منه إزالة تلك الصّورة الشّخصيّة بسرعة. جاء الرّد من خلفي.
“مرحبًا، لارا. والدكِ يلتقي بالكونت الصّغير إيغور قبل التّوجّه إلى القاعة المقدّسة. بالمناسبة، ألا ترغبين في الالتفات إليّ بسرعة؟”
استدرتُ إلى تاتيانا وسألتُ.
“إيغور؟”
“يا إلهي… ظننتُ أنها مجرّد شخصٍ مقبول، لكن! هذا الوشاح من عمل إيما تولستوي، أليس كذلك؟ هواية سيّدةٍ نبيلةٍ عاطلة، لكنها رائعةٌ جدًا!”
كان ثوب الصّلاة الذي ترتديه تاتيانا أكثر بساطةً وأناقةً مقارنةً بالعام الماضي. أمسكتُ بيد تاتيانا، التي كانت تُحدّق بارتياحٍ في أقراط اللؤلؤ في أُذني.
على عكس إيفان، الذي يُظهر استياءه الواضح من حضوري اليوم، تدعمني تاتيانا النّاضجة. رُبّما لأنها تعلم أن التّذمّر لن يُغيّر شيئًا.
“اليوم تبدين مُختلفةً عن تاتيانا.”
“هاهاها. إذا لم أكن أبدو كتاتيانا، فـمَن أبدو إذن؟”
“مجرّد… مؤمنةٍ عاديّة؟ رُبّما لأنك قلّلتِ وقلّلتِ وقلّلتِ من أجلي؟”
أجابت وهي تُمسك بذراعي ونخرج من غرفة الاستقبال.
“بالطّبع. مفهوم اليوم لأختكِ الكبرى هو أن أكون خادمة لارا. بالطّبع، الأخت المؤمنة هذا العام هي إيما تولستوي، وليست أنا. لكن ألا أبدو كـ… مُتعبّدةٍ تُعبّر عن حُبّها بنظراتٍ ملتهبةٍ من بعيد؟”
الأخوات والإخوة المؤمنون هم الرّفاق الذين يُشاركون البَركات أثناء صلاة البَركة في القاعة المقدّسة.
في ديانة غافريل، تُعتبر البَركة أقوى وأكثر فائدة كلّما شارك أفرادٌ أكثر، لذا كثيرًا ما تُجرى صلاة البَركة مع أكثر من أختٍ مؤمنة.
لمعرفة أصل هذا التّقليد، يجب الغوص في تاريخ نشأة مجلس العرّافين، لكنني لم أفعل ذلك ولن أفعل، لذا سأظلّ جاهلةً به إلى الأبد.
“آه! انظري، لارا. ها هو عريسكِ المستقبلي قادم.”
“ماذا؟”
ما هذا الهُراء؟
ابتسمت تاتيانا بمكرٍ وأشارت برأسها إلى الرواق. رجلٌ طويل القامة يرتدي ملابس رماديّة داكنة كان يقترب. حتّى من بعيد، كان وجهه المألوف هو إيغور.
“…لا تروّجي مثل هذه الشّائعات. ماذا لو أساء النّاس فهمكِ؟”
“يا إلهي، هل هرّتي تتعامل بجديّةٍ الآن؟ هاها… سيحزن إيغور إذا سمعكِ. لقد التقى بوالدكِ من أجلكِ. أو بالأحرى، أفرد والدكِ وقتًا له. ألا تتساءلين عمّا تحدّثا عنه؟”
“…”
“لا أنا ولا والدي اعتبرناه مُرشّحًا لزواجكِ، لكن عندما راقبتُه، شعرتُ أن إيغور ليس سيّئًا. عمره أكبر قليلاً ومعتقداته راسخة، وهي عيوب، لكن بما أنّه الأخ الأكبر لصديقتكِ إيما تولستوي، فإن الارتباط به سيضمن لكِ حياةً غير وحيدة… وبما أن لديكِ أصدقاء من الجنس نفسه ولكن بالكاد أصدقاء من الجنس الآخر، فلن يكون هناك مجالٌ للمتاعب. وفوق كلّ ذلك…”
توقّفنا في مكاننا، ننتظر اقتراب إيغور.
على عكس انطباعه المُتجهّم في حفل نيكيتين، كان وجه إيغور، وهو يقترب، يعكس فرحةً خفيفةً بلقاءٍ غير متوقّع.
“إنّه يُظهر بوضوحٍ أنّه يُحبّكِ حقًّا، أليس هذا لطيفًا؟”
“أرجوكِ… أرجوكِ اغلقي فمك، تانيا.”
“هاهاها.”
في اللحظة التي ضربتُ بكوعِي خاصرة تاتيانا، وصل إيغور. انحنى بأدب، وقَبَّل يد تاتيانا أولاً.
“منظركما واقفتين جنبًا إلى جنب أذهلني حتّى ظننتُ أنني أحلم. صباح الخير، سموّ الأميرة تاتيانا، وسموّ الأميرة لاريسا.”
إن لم أكن مُخطِئة… لا، شعرتُ أن شفتَي إيغور تأخّرتا قليلاً على ظهر يدي. لم يكن ذلك وهمًا. قالت تاتيانا، وهي تُراقب إيغور بنظرةٍ خفيّة.
“سماع مثل هذا الإطراء منكَ يُثير تساؤلي. هل تعني حقًّا أننا كلتينا مبهرتين، أم أن شخصًا معيّنًا هو مَن أذهلك؟”
أجاب إيغور، وهو ينحني برأسه، بنبرته القويّة المُميّزة.
“أرجو العفو إذ أنني أنني أتحفّظ بكلامي لأتجنّب الإساءة إلى سموّكِ.”
“يا إلهي. النّبلاء المراوغون لا يعجبونني، لكنني اليوم مُبتهِجة، لذا سأمنحك نقطةً إضافيّةً خاصّة.”
“…لا أعرف عن أيّ نقاطٍ تتحدّثين، لكنني أقبلها بامتنان.”
أردتُ أن أسأل تاتيانا، التي كانت تستمتع بصراحة ‘هل تخلّيتِ عن سيرجي؟’ لكنني لستُ بلا لباقةٍ لأقول ذلك بصوتٍ عالٍ. رُبّما سَمِعَت شيئًا من إيفان. تنهّدتُ بصمت.
“لارا؟ إيغور مؤمنٌ مُخلصٌ معترفٌ به من الأسقف بارفن. في يومٍ مثل هذا، مع صلاةٍ مُهمّة، أعتقد أن مناقشة اللاهوت معه ستكون فكرةً جيّدة.”
لِمَ أناقش اللاهوت؟ حقًا، إنّها تبحث عن أيّ عذرٍ لربطنا.
“ألم تتذمّري قبل أسابيعِ قليلةِ من أنك أخذتِ <يوميّات رو> ولم تستطيعي فهمها؟ بما أن لدينا بعض الوقت قبل الذّهاب إلى القاعة المقدّسة، لمَ لا تطلبين مساعدة إيغور؟”
“…آه.”
نعم، صحيح!
ذلك الكتاب المُزعِج المُغطّى بالسلاسل الحديديّة، الذي تخلّيتُ عنه بعد أيّامٍ من المحاولة بسبب فالنتين! طلبتُ ترجمةً من الأسقف بارفن، لكن لم يأتِ دوري بعد، فلم أتمكّن من قراءة المقدمة حتّى!
مَن كان يظنّ أن تدخّل تاتيانا، الذي كان على سبيل المزاح، سيكون مفيدًا؟
“إيغور، هل يمكنكَ تخصيص بعض الوقت لتساعدني، أنا الجاهلة باللغة التيموتيّة؟”
يبدو أن إيما نزلت إلى الطّابق السّفلي في هذه الأثناء. بينما كنتُ أُحاول نقل الكتاب الملقى على الدرج، لاحظتُ عدم وجود أيّ حركة. التفتُّ فوجدتُ إيغور واقفًا عند الباب.
التعليقات لهذا الفصل " 93"