أجهد فالنتين عقله بحثًا عن أيّ وسيلة، حتّى لو كانت تهديدًا، لإبقاء لاريسا محصورةً داخل القصر الإمبراطوري.
هل يذهب إلى فاسيلي ويُهدّد بأنّه إذا أُطلق سراح لاريسا، فسيتخلى هو نفسه عن هورغان؟ أم يخدع الإمبراطور مدّعيًا أنّه رأى مستقبلًا تُغتال فيه لاريسا خلال الصّلاة العلنيّة؟
أم رُبّما…
‘اللعنة.’
تنهّد فالنتين وفرك وجهه بعنف. بفضل برودة راحتيه، عاد العقل إلى رأسه المُتشابِك بالفوضى.
لا حاجة للتّصرّف بهذا التّطرّف.
هدفه بقطع صِلته بليبرتان نهائيًّا وحماية الأميرة لاريسا قد يتّجهان نحو نفس النّهاية، لكنهما لا يحتاجان للسّير جنبًا إلى جنب. يُمكن السّيطرة على لاريسا بطريقتها، وهورغان بطريقته.
يعرف ذلك جيّدًا. فلماذا يرسم عقله نهايةً مروّعةً يُمسك فيها يد لاريسا الباردة الشّاحبة، مُكرّرًا النّدم فقط؟
“سموّكَ فالنتين.”
كان النّداء قريبًا.
أخذ فالنتين نفسًا عميقًا بصمت، ووضع قناعه الهادئ المعتاد على وجهه الذي لا شكّ أنّه مشوّهٌ بالاضطراب. قناع المرسول فالنتين، الذي لا يتزعزع أبدًا أمام التّيارات الخارجيّة ويبعث الثّقة حتّى في أبسط تصرّفاته.
أمام هذا القناع المُعدّ، عُرض عليه كوب مشروبٍ قديمٍ واضح العلامات.
“حليبٌ دافئ. اشرَبـهُ قبل أن يبرد.”
لم يأخذ فالنتين الكوب على الفور، بل رفع رأسه ليتأكّد من الشّخص أولاً. وعندما تعرّف على الوجه، قبله على الفور.
الكاهن العجوز ذو الوجه المُتعَب، الذي جلس ببطءٍ إلى جانبه، كان الأسقف بارفن.
“مِن الخلف، بدا أنّكَ كبرت كثيرًا خلال السّنوات الأربع الماضية. الفتيان حقًّا مدهشون. في يومٍ من الأيام، يعودون فجأة رجالًا بالغين. شعورٌ مُختلِفٌ تمامًا عن الفتيات اللواتي ينموون تدريجيًّا كلّ عام.”
كان في صوت الأسقف بارفن دائمًا سحرٌ يُهدّئ النّفوس.
راحةٌ يُمكن الشّعور بها فقط عندما تعرف الشّخص جيّدًا. كان الأسقف بارفن أوّل من اختاره فالنتين ليكون مُعلِّمًا للاريسا، لأن صدقه كان كالثّلج الدّائم الذي لا يذوب حتّى مع مرور الزّمن.
“يوم لقائي بكَ لأوّل مرّةٍ يبدو الآن كحلمٍ بعيد. كان صبيٌّ في السّابعة من عمره تقريبًا، يقف في هذا المكان بالذّات، ينطق بنبوءةٍ هزّت الأرض والسّماء. لحظة خلاص خمسة آلافٍ من شعب تشيرينسكو من كارثةٍ عظمى.”
“…”
“لكن حتّى مرسول النبوءة، عندما يقف على الأرض، ليس سوى إنسان، أليس كذلك؟ إذا سمع قدّاسة البابا هذا، سينزعج ويوبّخني على كلامي، لكنّني على الأقل أتساءل، إذا أنقذ المُخلص العالم، فمن يُنقذ عالم المُخلص؟” (بلوفي: حُب المخلص، لاريسا، ستنقذنه طبعًا)
كانت عينا الأسقف بارفن، التي مرّت للحظة، أعمق وأهدأ ممّا كانتا عليه قبل أربع سنوات. عند التّفكير، تعلّم فالنتين التّأمّل من هذا الكاهن العجوز.
“هل تعلم أن اليوم خسوفٌ قمريّ، حيث لا يظهر القمر؟ الظّلام يعمّ الجوانب لعدم وجود ضوء القمر، لذا لا يُمكن لأحدٍ أن يتنصّت على محادثتنا هنا في القاعة المقدّسة. وأنا، الكاهن بارفن، سأنسى هذا الأمر عندما تُشرق شمس الصباح.”
“…”
“…”
“…سمعتُ أن الأميرة ستحضر الصّلاة.”
خرجت الكلمات كتنهيدةٍ بعد تفكيرٍ طويل.
كلّما قلّ الكلام، كان أفضل، والضّعف يختفي عند إخفائه. لهذا السّبب، أراد تجنّب البوح بقلبه أمام الآخرين قدر الإمكان.
لكن في بعض الأحيان، تأتي أيّامٌ يتخلّى فيها حتّى عن هذا الضّبط. خاصّةً أمام الأسقف بارفن.
“ليس مُفاجِئًا. الأميرة لاريسا دائمًا ما شعرَت بالضّيق داخل القصر.”
“الذريعة هي تذكُّر وجوه المتمرّدين وتمييزهم. أتساءل إن كان منعها هو التّصرّف الصّحيح.”
بدا على وجه الأسقف بارفن فهمٌ فوريٌّ لمعنى كلامه. لاريسا ليست مَن تُقلِقُ مَن حولها فقط لأن غرفتها خانقة. إنها تريد فقط إنقاذ المزيد من النّاس.
كما لو أنّه سمع صوت قلبه، ظهرت ابتسامةٌ خفيفةٌ على شفتَي الأسقف.
“أعرف جيّدًا، سموّكَ. الأميرة لاريسا دائمًا مليئةٌ بالحُبّ، أليس كذلك؟ رغم أنّها كانت تحاول دائمًا التّهرّب من دروس اللاهوت بالحيل، إلا أنّها كانت تحرص على عدم إغضاب هذا العجوز، مُضيفةً عباراتٍ مثل ‘خداع الأسقف بارفن’ أو ‘بينما كان الأسقف بارفن مُنشغلاً بالدرس’ عندما كانت تشتكي لوليّ العهد. لم يمرّ وقتٌ طويل، ثلاث سنواتٍ فقط. هاهاها، بالنّسبة لي، ما زالت تلك الفتاة التي رأيتُها لأوّل مرّةٍ في التّاسعة…”
بوجهٍ ضبابي، أومأ برأسه بسرور، كما لو كان يتذكّر لاريسا القديمة.
“الطفل يكبر ويُغادِر المنزل. الخروج من الباب يعني المُغامرة. سيفقد الكثير، لكنّه سيعود بغنائمٍ أكبر، متّجهًا إلى طُرقٍ أبعد. ومن يومٍ ما، قد يبدأ رحلةً طويلةً لا يعود منها. ألا تشعر، سموّكَ، برغبةٍ في مشاهدة مثل هذه المُغامرة؟”
“أخاف أن أُشاهدها وأفقدها عبثًا.”
“حتّى لو كانت هذه مُغامرتها التي تُريدها؟”
“رغبتها لا تُهدّئ خوفي.”
“إذن، قلقكَ عليها هو قلقٌ لأجلكَ أنتَ.”
قلقٌ لأجلي. كان المعنى المتضمّن في هذا التّعبير دقيقًا إلى درجةٍ قاسية، فأطلق فالنتين ضحكةً فارغة.
“هل هذا صحيح؟ ليس قلبُ الأميرة، بل قلبِي…”
هل قلبُـهُ أنانيٌّ فقط؟
الآن فقط، بدا أنّه يفهم لماذا شَعَرَ بقلقه وخوفه تجاه لاريسا بغرابة.
كانت تلك المشاعر كلّها لأجل فالنتين نفسه.
الأكاذيب، التّهديدات، والإقناعات التي فكَّرَ فيها لحماية لاريسا كانت في الواقع لأجله هو. لو كان يُريد حقًّا دعم أميرته، لما فكَّرَ في حبسها في القصر، بل وضع خُطّةً مثاليّةً لحمايتها في السّاحة الواسعة.
لقد تلوّث حُبّه.
لا يُمكنه إنكار ذلك الآن، لقد بدأ، دون أن يدري، يُظهر هوسًا أنانيًّا وقاتمًا تجاه لاريسا.
وهذا الهوس مُختلِفٌ قليلاً عن الحُبّ الذي احتفظ به طوال سبع عشرة سنةٍ من مراقبتها.
“سموّكَ، فالنتين. رغبتكَ ليست خاطئة. إنّه ارتباكٌ يمرّ به الجميع بسهولةٍ مع من يعتزّون بهم.”
“يبدو أنّكَ مررتَ بهذا الارتباك.”
“هاهاها. ما الذي لم أختبره في شبابي؟ هل الحماية لأجل الآخر، أم لأجل راحتي؟ هذا التساؤل غالبًا ما يأكل الذّات. في مثل هذه الأوقات، اترك الأمر قليلاً، ولو كان ذلك مؤسفًا. ليس المقصود التّوقّف عن الحُبّ، بل التّخلّي بما يكفي لعدم الشّعور بالألم من حُبّك.”
إذا كان يُريد أن ترى لاريسا عالمًا أوسع وتنمو، فعليه التّخلّي عن هوسه الأناني الملتوي.
لكن، أيها الأسقف بارفن… كيف يُمكنه ألّا يعتزّ بها؟
أسباب حُبّ فالنتين للاريسا لا تُعدُّ ولا تُحصى. مُتراكِمةٌ كجبالٍ يصعب النّظر إليها، حتّى ذكريات الأيّام القليلة الماضية واضحةٌ أمام عينيه.
[…نعم، بالطبع. لا بُدّ أنّه ليس كذبًا.]
براءتها التي تُصدّق كلامه بحرفيّته.
[أفهم. هل تفاجأتَ لأنّني لم أفقد وعيي من الصّدمة، بل كنتُ هادئةً جدًا؟]
جرأتها وهي ترفع كتفيها بثقةٍ وتنظر إليه.
[لقد قلتَ، يا فالنتين. إيفان كان يُستخدَم من قبل الدوق ليبرتان.]
بصيرتها الرّائعة التي لا تفوّت صِدقه، كلّ شيء. كلّ شيءٍ عزيز.
بالطّبع، ليست كلّ جوانب لاريسا محبوبة. تبادلها النّظرات العابرة مع إيغور في رقصة الحفل الإمبراطوري، وابتسامتها النّاعمة. قلقها المطوّل تجاه سيرجي في الرّسائل المُستَلمة. و…
‘هاه.’
تذكَّرَ فالنتين بعض الذكريات المُزعِجة الأخرى، ولم يتحمّل كراهية الذّات التي اجتاحته، فـعَضَّ على أسنانه.
التعليقات لهذا الفصل " 90"