ألقت تاتيانا برزمةٍ من الأوراق التي أخرجتها من الدّرج على الطاولة.
“احفظها كلها، أخي.”
من كمية الأوراق المتطايرة، يبدو أنها تتجاوز العشرين ورقة. التقط إيفان إحداها ونظر إليها بعينين غامضتين.
“ما هذا كلّه؟ قائمة عشّاقكِ؟”
“هل تعتقد أنني قد أستمتع مع هؤلاء القبيحين المزريين؟”
“…أنتِ، لا تقولي إن هذه…”
“أجل، صور. صور المتمرّدين الذين تواصلتَ معهم عندما كنتَ جاسوسًا مزدوجًا.”
جاسوس مزدوج؟ هل كان يقوم بمهمّةٍ خطيرة كهذه؟
من صيغة الماضي، يبدو أن هذا حدثَ في طفولته، ورُبّما لهذا السبب، بدا إيفان اليوم مُختلِفًا في عينَي. ليس إيفان وحده، بل جميع إخوتي.
أنا، في أحسن الأحوال، كنتُ أُمسك يد فاسيلي وأتحدّث عن إصلاحه ونقوم بأعمالٍ تطوّعيّةٍ معًا. لكن ذلك لم يكن سوى لعبة أطفال.
“حوالي ثلاثين ورقة. إيفان، هل يُمكنكَ إضافة المزيد قبل صلاة الجمع العلنيّة؟ ركّز على الإرهابيين الذين يثق بهم ليبرتان.”
“…رُبّما سبعين تقريبًا.”
“همم، أقلّ مما توقّعتُ. مئة شخصٍ إجمالًا؟ يمكنكَ حفظهم جميعًا، أليس كذلك، أخي؟ بالطّبع، أنا وإيفان سنحفظهم أيضًا. لا أُريد أن أُغتال أثناء الصّلاة.”
“نحفظهم لماذا؟ لنتجنّبهم بأنفسنا؟”
“بالطبع، يجب أن نُراقبهم. عندما تبدأ صلاة الجمع العلنيّة، سيُفرش سجادٌ أبيضٌ من السّاحة المركزيّة إلى القاعة المقدّسة، أليس كذلك؟ إذا كان هناك هجومٌ مُخطَّط، فسيكونون بالتّأكيد بالقرب من السّجاد، متنكّرين كصحفيين أو غيرهم. لا يُمكننا تسريب الأمر للحرّاس، لذا يجب أن نتحرّك بسرعةٍ بأنفسنا.”
“يا إلهي. ثلاثة، لا، أربعة مع فالنتين، ألا يمكننا تقسيم الحفظ بيننا؟ أنا بالفعل مشغولٌ جدًا، وحتّى أخي ليس مختلفًا…”
“أنا سأفعلها.”
كان نصف قراري اندفاعًا، والنّصف الآخر شجاعة.
في اللحظة التي التفتوا فيها جميعًا نحوي، نهضتُ من وضعيّة الانحناء وتقدّمتُ نحو الطّاولة.
“آسفةٌ للتّدخّل. لكن بعد سماعي لكم، شعرتُ أنني الأنسب لهذا الدّور.”
تجمّد الثلاثة حرفيًّا. لكنني، دون أن أمنحهم فُرصةً للنّظر إليّ، جمعتُ الأوراق المُتناثِرة بعشوائيّة.
“…يبدو أنّكِ لم تنامي جيدًا. الوقت مُتأخّر، عودي إلى غرفتكِ، لارا.”
“هذه الوجوه، أليس كذلك؟”
“لارا.”
“قلتِ إنّكِ ستضيفين المزيد، أليس كذلك؟ اعطيني الباقي. يُمكنني حفظ هذه الثلاثين هنا الآن…”
“كفى، لاريسا نوفاروف!”
كان نداءً حادًّا لدرجة أنني لم أعد أستطيع التّظاهر بالجهل، جعل أُذنيَّ تطنّان. رفعتُ رأسي لأرى تاتيانا، التي بدت وكأنها شاخت عشر سنواتٍ في لحظة، تقول.
“لارا، هل نسيتِ؟ أنتِ لن تحضري صلاة الجمع العلنيّة. اتركِي الأمر. ليس لديكِ دورٌ تؤدينه. لن نسمح بتحميلكِ مثل هذه المهام.”
أمسكت تاتيانا بيدي وهمسَت بلطف.
“لارا؟ كوني فتاةً مُطيعة.”
لم يكن الإخوة الآخرون مختلفين. كان فاسيلي ينظر إليَّ بعيونٍ هادئة، كأنّه يُحاوِل فهم أفكاري، بينما كان إيفان يُراقِبني بتعبيرٍ مُندهِش.
‘ماذا أفعل؟’
كيف يُمكنني أن أقف جنبًا إلى جنب مع إخوتي؟
هيا، تخيّلي.
أوّل شيءٍ يجب أن أُعطيه الأولوية هو الإقناع.
نحن إخوةٌ تربطنا الدّماء، لذا إذا عبّرتُ عن مشاعري بصدق، سينجح الأمر بالتّأكيد. إذا قلتُ ‘لم أعد أُريد أن أظلّ متفرّجة. أُريد أن أكون مفيدة. أريد أن أكون من يحمي، وليس من يُحمَى’ ماذا سيجيب فاسيلي؟ رُبّما شيئًا مثل ‘سلامتكِ هي راحتنا، لارا. نُفضّل أن نفقد البابا وفالنتين على أن نفقدكِ. إذا أردتِ مساعدتنا، فكّري دائمًا بنفسكِ أولاً.’
يبدو أنني سأكون الوحيدة التي تُقنع.
إذن، ماذا عن طريقةٍ أكثر عنفًا؟
أحرق الثّلاثين صورةً فوق شمعةٍ مُشتعِلةٍ وأُهدّد ‘إذا لم تأخذوني، سأُحرق كل هذه الصّور وأجعلها عديمة الفائدة!’ ماذا ستجيب تاتيانا؟ رُبّما ‘احرقيها كما تشائين. لدي النّسخ الأصليّة محفوظة.’
مع دقّة تاتيانا، تهديدي سيُصبح بلا جدوى.
إذن، ماذا عن الطّريقة الأخيرة، إزعاجهم حتى يستسلمون؟
أصعد على الطّاولة وأصرخ ‘سأذهب إلى صلاة الجمع العلنيّة! إذا لم تعترفوا بفائدتي واستمررتم في حبسي، سأهرب من القصر سِرًّا عند الفجر وأبتعد إلى الأبد، انتظروا وشاهدوا!’ كيف سيردّ إيفان؟
رُبّما ‘هل هذه المجنونة تتحدّث عن الهروب دون خوف؟ هل تُريدين أن يُثقب رأسكِ هذه المرّة؟ تعالي هنا. يجب أن تعرفي معنى الحبس الحقيقي. تتحدّثين عن الحبس وأنتِ تتلقّين كل أنواع الخدمة؟’
…سحقًا. لا يوجد حل. مهما حاولتُ الإقناع، سأصطدم بحائط.
لكنّني أستطيع المُساعَدة.
أنا وحدي مَن يُمكِنها تذكّر الوجوه بيقين.
“إيفان، هل تتذكّر الرّابع من سبتمبر في العام الذي كنتَ فيه في التّاسعة؟”
لم أترك الأوراق من يدي، وحدّقتُ في إيفان. بدا وكأنّه لا يتذكّر حتّى متى كان في التّاسعة.
“في ذلك اليوم، أخذتني إلى المكتبة ظهرًا. كنتَ مشغولًا لأيّامٍ بقراءة <ملحمة تأسيس الأُمّة>، مُتفاخرًا بأنّكَ ستُنهيها. كان عليكَ البدء من الصّفحة 48 في الجزء الثّاني، لكنّكَ قرأت حتّى الصّفحة 51 ثم توقّفت، قائلاً إن الكتاب به خطأ. لكن في الحقيقة، أنا مَن استبدلتُ الغلاف. وضعت غلاف الجزء الثّاني على الجزء الثّالث. لم تُلاحِظ شيئًا.”
التفتُّ من إيفان، الذي بدا تعبيره غريبًا، ونظرتُ إلى تاتيانا.
“تاتيانا، في التّاسع من نوفمبر في العام الذي كنتِ فيه في الثّامنة، كانت وصيفات أُمّي يعتنين بنا. لعبنا لعبة تخمين التغييرات في ملابسهن وأنتِ معصوبة العينين. لقد أصبتِ بتغيير القفّازات البيضاء إلى صفراء على الفور. أشادت الوصيفات بدقّتكِ، لكنّكِ أخطأتِ في الحقيقة. كان هناك تغييرٌ آخر، شفتاها. وضعَت لونًا ورديًّا أغمق، لكنّكِ لم تلاحظي، وتجاهلن ذلك.”
“…”
وأخيرًا.
“…أغسطس قبل سبع سنوات.” (بلوفي: شهر ميلادي🤭)
غاصت عينا فاسيلي البنفسجيّتان في برودة.
“كان يومًا مُمطِرًا، أليس كذلك؟ رأيتُ السّيف الذي قتل الخادم في غرفة الاستقبال بالطّابق الرّابع.”
“ذاكرتكِ قويّة، لارا.”
“شكرًا. مقبض السّيف كان نظيفًا، لكنّه كان ملطّخًا حتّى الأعلى في الأصل، أليس كذلك، فاسيلي؟”
شحب وجه تاتيانا. يبدو أن تذكّر ذلك اليوم المروّع لم يكن ممتعًا لها أيضًا.
“أنا أتذكّر كلّ شيء. الوجوه، الأصوات، التصرّفات. بمجرّد أن أرى شيئًا، لا أنساه أبدًا. وليبرتان لا يعرف ذلك.”
ركز إخوتي على كلامي. هذه استجابة جيدة. الآن، كل ما تبقى هو دفع الوتد لقلب قناعاتهم.
“استغلّونِي. الاعتماد على ذاكرتكم العاديّة هو أكبر مقامرة. هناك احتماليّةٌ للفشل. إذا واصلتم معاملتي كطفلةٍ وحمايتي بعد كلّ هذا الكلام…”
أوّلاً، ابتلعتُ ريقي.
ثانيًا، أغلقتُ عينيَّ بوجهٍ حزين.
أخيرًا، فتحتُ فمي بنبرةٍ كئيبة.
“سأتزوّج رجلاً يبلغ من العمر 59 عامًا.”
“…”
“بالمناسبة، ذلك الرّجل لديه أربع عشيقاتٍ في القصر وسبعة عشر طفلاً.”
التعليقات لهذا الفصل " 88"