“لا، ليس الأمر كذلك. فقط… تساءلتُ إن كنتَ تملك بعض الوقت المُتاح. أنتِ الآن في فترةٍ مزدحمةٍ للغاية، أليس كذلك؟”
“بما أنني لن أتمكّن من رؤية سموّكِ في صلاة الجمع العلنيّة، فكّرتُ أن أزوركِ قبلها. دعيني أرى… بعد ثلاث دقائقٍ تقريبًا، سيكون عليَّ العودة.”
“ثلاث دقائق، أليس هذا كافيًا؟ حسنًا، جيّد.”
لأستجمع قواي، تمدّدتُ بكلّ قوّتي ورفعتُ ذراعيَّ عاليًا. وما دمتُ قد التقيتُـه، فـلأُريه المهارات التي صقلتُها خلال الأيّام الماضية.
تقدّمتُ بخطواتٍ واثقةٍ نحو فالنتين، وطبطبتُ على ظهره بحماس.
“هيا، اركَب على ظهري، فالنتين.”
بعد أن التقَت أعيننا، انحنيتُ قليلًا ورحتُ أُريه ظهري.
“…”
“…”
“ماذا تفعل؟ قلتُ لكَ اركَب!”
رمقتُه بنظرةٍ حادّةٍ لأحثّه على الإسراع، لكن فالنتين ظَلَّ واقفًا، ينظر إليَّ بعينين غارقتين في التفكير.
“هيا، بسرعة!”
“مهما فكّرتُ، لم أجد إجابةً منطقيّة. هل… راهنتِ مع تشينكو على شيءٍ يتعلّق بي؟”
“راهنتُ؟ أنا فقط أُريد أن أُقلّك إلى العربة. لقد درّبتُ عضلاتي طوال الأسبوعين الماضيين لهذا اليوم. هيا، اركَب!”
“يبدو أن فارق الطّول بيني وبين سموّكِ لم يستقر بعد في ذهنكِ… هذا لن ينجح.”
“سينجح.”
“لا، لن ينجح.”
“أقول لكَ إنّه سينجح!”
بعد صمتٍ قصير، شعرتُ فجأةً بثقلٍ هائلً يهبط على ظهري. آه، لا أستطيع التّنفّس.
“لـ- لحظة، انتظر.”
سمعتُ ضحكةً خافتة.
“هل استسلمتِ بهذه السّرعة؟ هيا، لننطلق. يجب أن أعود الآن إلى القاعة المقدّسة.”
“حسنًا، حسنًا، لكن خفّف وزنكَ قليلًا. أظنّ أنني أستطيع السّير إذا دعمتكَ فقط.”
“دعمتِني؟ يبدو أن كرامتي كرجلٍ نبيلٍ قد انتهت هنا.”
على الرّغم من كلامه، لم يبتعد فالنتين عني. بعد بعض الحركات المضطربة، وجدنا أخيرًا وضعيّةً مُريحةً نسبيًّا، كنتُ أسند ذراعه بيدي.
هل يُمكن أن نعتبر هذا حَملًا؟ حسنًا… على الأقل، أنا أُساعده على المشي.
تأوّهتُ وأنا أهبط السّلالم بصعوبة، ثم خرجتُ من القلعة ووصلتُ أمام العربة. فالنتين، الذي لم يتوقّف عن الابتسام طوال الطريق وكأن شيئًا مُضحكًا يدور في ذهنه، وقف أخيرًا على قدميه وسأل.
“إذن، ما الغرض من هذا الدّعم الظّريف؟”
“كيف كان؟ هل شعرتَ بعدم الرّاحة؟”
“لا، كان الأمر كأنّني أستلقي على سحابة، مليئًا بالنّشوة والرّاحة. كدتُ أغفو، هل تُصدّقين؟” (بلوفي: بموت يجماعة مشقادرة🤣🤣🤣)
يمزح، أليس كذلك؟ كنتُ أظنّ أنني سأنجح لو بذلتُ مجهودًا أكبر قليلًا… همم. تنحنحتُ بصوتٍ عالٍ وأجبتُ.
“أنا طويلة، لذا إذا زادت عضلاتي قليلًا، سأستطيع حملكَ.”
نظر إليَّ فالنتين بعينين تقولان ‘ما الذي تُخطّطين له هذه المرّة؟’ لكنه أصغى إليَّ بهدوء.
“في أيّ وقتٍ تشاء، قُل لي إنّكَ تريد أن أحملك. سأتدرّب بجدٍّ أكبر… وعندها، سأحملكَ كما تُحمَل الأميرات.”
رفعتُ رأسي عمدًا لأتجنّب النّظر إلى قدميه، ولِألّا أتذكّر خطواته العرجاء التي كنتُ أراها بين الحين والآخر. حرّكتُ كتفيَّ بحركةٍ مبالغٍ فيها لأخفي أفكاري.
“ليس فقط الحمل، بل أيّ شيءٍ تُريده، فقط قُل لي. أنتَ تعرف كم أُحبّكَ، أليس كذلك؟ لذا، إذا كنتَ أنتَ… فلا بأس أن تستغلّني. ألم أقل لكَ من قبل؟ أنا مثل مُقاتِلةٍ في الكولوسيوم.”
ماذا يُمكنني أن أقول أيضًا؟ حاولتُ أن أجد كلماتٍ أخرى، لكن عندما عبّرتُ عن مشاعري بصدق، لم أجد المزيد لأقوله.
أمام فالنتين، دائمًا ما أشعر أن أفكاري تتزاحم، ممّا يجعل الوقت معه سعيدًا… ولكن، رُبّما، مُتعِبًا قليلًا.
تجنّبتُ النّظر إلى عينيه وأخرجتُ الرّسالة.
“هذا ردّي. إذن… سأبقى هادئةً في القصر الإمبراطوري، فالتقِ بي بعد انتهاء صلاة الجمع العلنيّة.”
عدتُ إلى غرفتي بخطوةٍ أسرع من رحيله.
وحاولتُ، كما عزمتُ، أن أبقى هادئةً في القصر الإمبراطوري… لكن…
* * *
“آآه!”
تمدّدتُ بقوّةٍ ونهضتُ من مكاني. على ضوء المِصباح القرمزي الخافت الذي يملأ أحد جدران الغرفة، برز ظِلٌّ رمادي. حدّقتُ في الظِّل الذي يمتدّ طويلًا وكأن ظهري يكاد ينكسر، ثم خفضتُ ذراعيَّ ببطء.
دعني أرى، الآن… السّاعة الواحدة بعد منتصف الليل؟
“مهلًا، ليست الحادية عشرة مساءً، بل الواحدة صباحًا؟”
لا عجب أنّني أشعر بالنّعاس الشديد.
أنا، التي دائمًا ما أنام قبل منتصف الليل، أبقى مستيقظةً حتّى الواحدة صباحًا؟ هذه المرّة الأولى منذ سنوات.
‘مَن كان يظنّ أنني سأنشغل بقراءة كتابٍ حتّى أؤخر نومي؟’
تنهّدتُ وأغلقتُ غلاف الكتاب القديم الذي قضيتُ خمس ساعاتٍ أُحدّق فيه بملل.
اللغة التيموتيّة المُزعِجة.
بعد حديث فالنتين، قرّرتُ أخيرًا فتح الكتاب القديم ‘يوميّات رو’ الذي كنتُ أؤجل قراءته لأسابيع (نعم، ذلك الكتاب المُغلَق بسلاسلٍ حديديّة).
لكن المشكلة بدأت من هنا.
هذا الدّفتر القديم كان مكتوبًا باللغة التيموتيّة، التي كنتُ أكره تعلّمها منذ صغري بسبب خطّها القبيح. اضطررتُ إلى وضع قاموس التيموتيّة بجانبي ومواصلة التّرجمة… لكن بعد أيّامٍ قليلة، واجهتُ المشكلة الثّانية.
‘هذا الرّجل العجوز يتحدّث كثيرًا.’
كيف يمكن لإنسانٍ أن يكتب ثلاث صفحاتٍ يوميًّا في يوميّاته؟
هل هو عاقل؟ أردتُ احترام ثرثرته، لكن عندما كنتُ أترجم جملًا مثل ‘بسبب الصّلاة اليوم، غسلتُ ملابسي الدّاخليّة، وضربتُها بالمطرقة أكثر من ثلاثين مرّةٍ لكسر النّحس’ كنتُ أفقد كل حماسي.
والأسوأ أن رو كان مُلِمًّا بالمفردات والتّعابير الاصطلاحيّة، حتّى أنا، التي نادرًا ما أنسى كلمةً رأيتُها، كنتُ أُضطرّ للرّجوع إلى القاموس باستمرارٍ أو أُعاني من تعابيرٍ غامضة.
‘كان يجب أن أتجنّب التّهوّر وأستعير نسخةً مُترجَمة.’
لكن، هل توجد نسخةٌ مُترجَمةٌ في القصر الإمبراطوري؟ أظنّ أنني اضطررتُ لاستخدام الأصل لأنه لم يكن هناك نسخةٌ مُترجَمة…
تذكّرتُ ذلك وخرجتُ من الغرفة.
الممر في الفجر، المُغلَق بستائرٍ كثيفة، كان مُظلمًا ورطبًا، لكنّه مألوفٌ بالنّسبة لي. تثاءبتُ بفمٍ مفتوحٍ على مصراعيه في منتصف الطّريق، وكدتُ أنزلق على السّلالم، فأبطأتُ خطواتي بحذر.
“الجو باردٌ بعض الشّيء.”
هل كان فجر الرّبيع دائمًا بهذا البرد؟
نظرتُ إلى يدي المُرتجِفة وأنا أُمسك المصباح، ثم غيّرتُ وجهتي. غرفة نوم تاتيانا قريبةٌ من هنا، رُبّما أتسلّل وأستعير شالًا.
لكن العودة إلى غرفتي الآن ستكون مُتعِبةً بعد هذا المشوار…
“ألا تعتقد أنّكَ تثق به كثيرًا؟”
صوتٌ واضحٌ اخترق الظّلام.
“…تانيا؟”
أسرعتُ نحو باب غرفة نوم تاتيانا ووقفتُ أمامه.
‘هل هناك شخصٌ آخرٌ بداخل الغرفة؟’
ألصقتُ أذني بالباب، لكنني لم أسمع سوى همهمةٍ خافتة. صوتٌ غاضبٌ بدا أنه انطلق للحظةٍ فقط.
‘…رُبّما يكون خطيبها، إنّها مسألةٌ شخصيّة، لا يجب أن أتجسس.’
لكن، مَن يهتم؟ تحرّكتُ بسرعةٍ غير مسبوقةٍ وفتحتُ الباب المجاور لغرفة النّوم بحذر.
عادةً، يستخدم صاحب الغرفة باب الغرفة الرئيسي، بينما يلتقي الضّيوف بالمالِك عبر غرفة الاستقبال المجاورة. وهذا يعني أن الدّخول عبر غرفة الاستقبال يُخفي أي ضجيج.
“هوو.”
أطفأتُ المِصباح.
تسلّلتُ بهدوءٍ نحو الممر المؤدي إلى غرفة النّوم. مع ضوءٍ خافت، سمعتُ صوت تاتيانا.
“رأيي لم يتغيّر. صلاة الجمع العلنيّة هذه يجب أن تُلغى.”
إلغاء صلاة الجمع العلنيّة التي لم يتبقَّ عليها سوى أسبوع؟ اتّكأتُ على الحائط وأصغيتُ بصمت، ففاجأتني حكايةٌ لم أكن أتوقّعها أبدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 86"