حقًا… كيف أصف هذا… كأنّه تصرّف ككلب؟ بفضل صراخ الحرّاس وفيدورا المذعورين، تمكّنتُ أنا وحدي من الحفاظ على رباطة جأشي. هذا النّوع من المواقف مررتُ به عدّة مرّاتٍ أثناء العمل التطوّعي.
“هوو، إذن هكذا كان الأمر.”
“…ماذا فعلتَ للتو؟”
“آه، لا شيء. فقط شممتُ رائحة سموّكِ قليلًا. والآن فهمتُ جيدًا.”
“فهمتَ ماذا؟”
“العطر الذي كان يأتي من مظروف الرّسالة هو رائحتكِ… كيف يسمّونه؟ رائحة الجسم؟ كنتُ أموت فضولًا منذ سنوات، والآن حُلَّ اللغز.”
“سنوات؟”
خدش الرجل ذقنه وهو يسترجع ذكرياته.
“في الحقيقة، لم يكن القائد وحده من استفاد من مساعدتكِ. كنتُ أشعر بالاستقرار النّفسي والجسدي عندما أشمّ تلك الرائحة في لحظاتٍ كنتُ على وشك فقدان السيطرة. هاهاها! بالطّبع، القائد كان منزعجًا جدًّا من هذا…”
“…”
“آه، تحدّثتُ كثيرًا… أرجوكِ، لا تخبري القائد… أعني، الكونت ناريان بما قلتُه. آه، ستبقينه سِرًّا؟ شكرًا. إذن، سأذهب الآن.”
غادر القصر الإمبراطوري بعد أن أدلى بحديثٍ لم أفهمه جيدًا.
لم أتظاهر بمعرفته، لكنني أدركتُ أن هذا الرّجل هو نفس السّائق المجنون (وعضو هورغان) الذي أنقذني في حادثة إطلاق النّار. يبدو أن ثقة فالنتين به كبيرة.
يُقال إن حتّى الحيوانات تعرف مُنقذيها، فبعد ثلاثة أيّامٍ عندما التقيتُـه مجددًا، سألتُه عن اسمه.
“تشينكو كوييف.”
“حسنًا، تشينكو. أنتَ تعرف مَن أنا، أليس كذلك؟ التّحيّة تأخّرت قليلًا، لكن شكرًا لمساعدتكَ في هذه المهمّة التافهة.”
“ماذا؟ لا، هذا ليس صحيحًا؟ أين من الممكن إيجاد مهمّةٍ تتطلّب كفاءةً عاليةً مثل ساعي البريد؟ هذه ليست تافهة. إنها دورٌ حيويٌّ لإنقاذ الأُمّة، لذا أرجوكِ، استمرّي في استخدامي، لفترةٍ طويلة، ويفضّل أن تكون دائمة.”
كان تشينكو، المرح والمُخلِص، أخفّ لسانًا مما يبدو، يُجيب بسهولةٍ على الأسئلة التي أطرحها عليه بحذر.
“آه، تسألين عن القائد؟ حسنًا، إنّه… رائع. ماذا؟ لا، أعني، هيه. لستُ أخشى شيئًا، أنا صادق. بصراحة، لا أعرف لماذا هو قائدنا… أحيانًا يكون… حسنًا، لنقل إنّه شخصٌ جيّد.”
كان معاديًا جدًا للمتمرّدين.
“ليبرتان ذلك الأحمق… همم. إنه نذلٌ حقير. لا أحد أسوأ من شخصٍ يعبث بآمال ومعتقدات الناس. تسك، يتحدّث عن الحُريّة وهو مفتونٌ بالسّلطة، كم هو مُضحِك!”
كان مُعاديًا لدرجة أن بصاقه كان يتطاير أحيانًا، وهو أمرٌ مزعج.
ومع ذلك، كانت محادثاتي مع تشينكو ممتعة. كان شخصًا فريدًا لم أختبر مثله في سبعة عشر عامًا من حياتي، يحمل رائحة الرّياح القاسية والحُرّة من عالمٍ بعيد.
‘إذن، هكذا كان إيفان يعيش مع هؤلاء النّاس. لهذا كان يُحبّهم.’
بعد أسبوعين من تعرّفي على تشينكو، أصبحتُ أتطلّع إلى لقاءاتنا بقدر ما أنتظر رسائل فالنتين.
لهذا السّبب، رُبّما؟
“تشينكو! اليوم أحضرتُ صلصة الكاري التي كنتَ فضوليًا بشأنها… آه؟”
عندما رأيتُ وجه الرّجل الذي دخل من الباب، توقّفتُ عن الكلام كالحمقاء.
“فالنتين؟ كيف أتيتَ إلى هنا…؟”
حتّى بعد أن أغلقت فيدورا الباب وخرجت، ظَلَّ فالنتين واقفًا كالمسمار لفترة، ثم تحدّث ببطء.
“تُنادِيـنهُ بحميميّة.”
على عكس ابتسامته المألوفة، كانت عيناه اللتان تحدّقان بي خاليتين من أيّ انحناءة.
“لم أتوقّع أن يخرج اسم تشينكو كوييف من شفتيكِ.”
مستحيل. ما المقصود بهذا؟ لحظة، هل…
“هل اسم تشينكو سرّي؟”
فكّرتُ أن فالنتين وإيفان أخفيا انتماءهما إلى هورغان لسنوات. لحُسن الحظّ، نفى فالنتين قلقي.
“كيف يكون كذلك؟ ناديه كما تشائين. إنه رجلٌ موثوقٌ رغم خِفّته.”
“آه… نعم، أعرف. إنه من أنقذني.”
“يبدو أنكما تتفاهمان جيدًا.”
“إنه غريب الأطوار لكنّه مُمتِع. حتّى فيدورا، رغم تظاهرها بالعكس، تتطلّع إلى قدومه. لو فقط لَم يبصق كثيرًا.”
وأُحبّه لأنه يتيح لي معرفة أشياءٍ عنكَ لا أعرفها، لكنني لم أقل هذا عمدًا. قد يُوبّخ فالنتين تشينكو فيصمت ولا يتكلّم عنه.
“حسنًا. كلّما زاد الحلفاء بجانبكِ، كان ذلك أفضل. وبالمناسبة… هل رفضتِ سيرجي؟”
فوجئتُ جدًا بذكر سيرجي فجأة. هل سمع الأمر مِن فاسيلي؟
‘لكن فاسيلي ليس من النّوع الذي ينشر مثل هذه الأمور.’
حاولتُ تخمين نيّته لكنني استسلمتُ بسرعة.
“نعم، لا أستطيع القول إنّه رفضٌ صريح، لكنّه قريبٌ من ذلك. لماذا تسأل؟”
نظر فالنتين إلى وجهي ببطء، ثم استدار وتجوّل نحو النّافذة.
“إبقاء شخصٍ يُكنّ لكِ المودّة بجانبكِ يعني أن لديكِ دروعًا أكثر لحمايتكِ.”
كانت شمس منتصف أبريل قويّةً بما يكفي لتبتلع فالنتين بالكامل. كان يتألّق كـمَن يمشي على النّار، وتوقّف أمام لوحةٍ ضخمةٍ على الحائط. كانت صورةً لي في يوم بلوغي سنّ الرّشد.
“…خاصّةً مكانة نيكيتين الطّبيعيّة، فهي مُفيدةٌ بعدّة طرق. إذا واجهتِ موقفًا مشابهًا في المستقبل، أتمنّى أن تتأنّي أكثر.”
تتأنّي. التّعبير مُهذّب، لكن المعنى مُعاكِسٌ تمامًا.
التعليقات لهذا الفصل " 85"