بمجرّد أن فتحتُ عينيّ، شعرتُ بأجواء القصر الصّاخبة.
نظرتُ بعيونٍ ناعسةٍ إلى الحرّاس الواقفين كجدارٍ داخل غرفة نومي، ثم أدرتُ رأسي نحو السّماء الغائمة خارج النّافذة المفتوحة على مصراعيها.
السّاعة الآن التّاسعة صباحًا. وقتٌ لم أستيقظ فيه أبدًا إلّا إذا أُصبت بنزلة بردٍ شديدة. أن تأتي فيدورا لإيقاظي في مثل هذه السّاعة المتأخّرة…
‘يبدو أن حادثة إطلاق النّار أمس لم تكن حلمًا.’
بالتّأكيد، أتذكّر أنني سحقتُ عين أحد المتمرّدين بكعب حذائي العالي، ثم حملتُ فاسيلي على ظهري وطرتُ عائدة… هذا الجزء حلم، أليس كذلك؟
بعد أن استيقظتُ من النّوم وميّزتُ بين الحلم والواقع، سألتُ فيدورا بصوتٍ أجش، هل سمعتِ من قبل عن وحدة هورغان؟
“وحدة هورغان؟ حسنًا، لم أسمع بهذا الاسم من قبل.”
هوو، هوو. نفخَت فيدورا على ملعقةٍ من يخنة اللحم بلطفٍ وأدخلتها إلى فمي. ثم راقبَت بعنايةٍ شكل فمي وأنا أمضغ ببطء، وأكملَت كلامها.
“من حديثكِ، يا سموّكِ، يبدو أنّها ليست وحدةً عاديّة… إذا كان الأمر كذلك، فمن المرجّح أن يكون من الصّعب على أشخاصٍ مثلنا، الخدم، معرفة شيءٍ عنها. رُبّما تكون قد أُنشئت لتنفيذ مهامٍّ خاصّة.”
وحدة هورغان.
وفقًا لما ذكره فاسيلي، فإن الرّجل الغريب الذي حمانا كان ينتمي إلى وحدةٍ تُدعى هورغان.
“لماذا استخدموا فالنتين ككلمة سر؟”
“إذا كان ذلك الرّجل حقًّا من وحدةٍ خاصّة، فمن المحتمل أنه يعرف بسهولةٍ مدى قرب علاقتكِ بالكونت ناريان. رُبّما يعرف حتّى عن والدتي البيولوجيّة؟ يُقال إن الأشخاص الذين ينخرطون في مثل هذه المهام الخطرة والسرّية لا يجهلون أيّ معلومة.”
كلام فيدورا منطقي. لكن…
‘عندما أُفكّر في حادثة حفل إيلين الرّاقص، يبدو من الواضح أن فالنتين مُرتبِطٌ ارتباطًا وثيقًا بهذه الوحدة هورغان أو أيًّا كان اسمها.’
بالطّبع، هذا مجرّد شعور، وليس تخمينًا موثوقًا للغاية. فكّروا في الأمر. لماذا ينضمّ فالنتين، المرسول العظيم ووريث عائلة الدوق دميتريف، إلى وحدةٍ خاصّة؟ ما الذي ينقصه؟
‘لكن في حفل إيلين الرّاقص، بدا وكأنه يُنفّذ مهمّةً سرّية. هذه حقيقةٌ واضحة، أليس كذلك؟’
إذن، لماذا؟ لماذا؟
لماذا يُصرّ فالنتين فلاديميروفيتش دميتريف، شخصٌ بهذا القدر، على الانخراط في أعمالٍ خطرةٍ كهذه؟ لماذا يستمرّ في إنقاذي من الأزمات؟ لماذا، وكيف، منذ طفولتي عندما كنتُ نائمةً في المهد وحتّى اليوم…
‘…حتّى اليوم؟’
هل مِن المُمكِن أن فالنتين كان يحميني حتّى في الأوقات التي لم أكن أعرفه فيها؟
‘لا، لا. هذا بعيدٌ جدًا.’
لقد قال إنّه كان في الخارج لفترةٍ طويلة، وأيضًا، عندما أتذكّر لقاءنا الأوّل، لا يبدو ذلك منطقيًا.
“سموّكِ؟ إلى أين تذهبين؟”
“إلى المكتبة.”
“ماذا؟ لماذا فجأةً إلى المكتبة التي لم تطئينها من قبل؟ استريحِي فقط! ألستِ مريضة؟ قلتِ إن جسدكِ ثقيل، لذلك أحضرتُ اليخنة…”
“كذبتُ. أنا لستُ مريضةً على الإطلاق. لقد تظاهرتُ فقط لأنني لم أُرِد أن يزعجونني بسبب أحداث الأمس.”
وضعت فيدورا الأطباق بذهول، وأمسكَت بسترةٍ صوفيّةٍ وتبعتني بخطواتٍ صغيرة.
“لكنها كانت حادثةً خطيرة، أليس كذلك؟ حتّى لو كانت مزعجةً قليلاً، يجب أن تتحمّليها. أنتِ الآن بالغة.”
“أنا لاريسا البالغة من العمر سبعة عشر عامًا. اليوم، أنا أميرةٌ حسّاسةٌ تريد أن تكون بمفردها…”
“ها.”
دخلتُ المكتبة بخطواتٍ واثقة، ونظرتُ إلى اللّوحات الكبيرة المُعلَّقة في الغرفة الداخليّة الصّغيرة واحدة تلو الأخرى.
على اليسار كان والدي، وعلى اليمين والدتي.
تحتها، كانت هناك أربعة إطاراتٍ أصغر نسبيًّا. من اليسار إلى اليمين، كانت لوحات فاسيلي، تاتيانا، إيفان، وأنا.
عند النّظر إلى هذا التّكوين الإمبراطوري المثالي مباشرة، ثم الدوران عكس اتجاه عقارب الساعة، يُمكن رؤية إطاراتٍ أصغر. كانت هناك ستّ عشرة لوحة مُرتّبة في صفوف، تُمثّل شجرة عائلة نوفاروف الإمبراطوريّة منذ عهد جدّي الأكبر.
وفي الصّف الرّابع، العمود الثّالث من شجرة العائلة، كان هناك فراغٌ واضح، كما لو كان قد تم ثقبه. كان من المفترض أن يشغل هذا المكان أحد إخوة والدي.
“كان من المفترض أن تكون هنا لوحة الدوق ليبرتان.”
ردّت فيدورا بنبرةٍ مليئةٍ بالازدراء.
“تقصدين وجه ذلك الوغد الذي هاجم سموّكِ مرّتين؟”
“نعم. عندما كنتُ صغيرة، كنتُ أتساءل لماذا تركوا هذا الفراغ دون ملء، كان يزعجني عدم التّناسق، وتساءلتُ إن كان بإمكانهم وضع إطارٍ عشوائي في النّهاية. لكن الآن، أعتقد أنني أفهم السّبب.”
“…لكي لا ننسى. معنى هذا الفراغ.”
فيدورا مُحقّة.
تم ترك هذا الفراغ عمدًا. لأنّه مكانٌ لا يستحق أن يُملأ.
“لكنني لم أنظر إليه منذ فترةٍ طويلة، لذا نسيتُ ملامحه. فيدورا، هل هناك مكانٌ في القصر يُمكنني من خلاله رؤية وجه الدوق ليبرتان؟”
“نعم، لا يزال موجودًا في غرفة الاستقبال الغربيّة في الطّابق العلوي. إنه… شكلٌ قاتمٌ بعض الشّيء.”
غرفة الاستقبال الغربيّة في الطّابق الخامس.
‘همم… نعم، أتذكّر، كان هناك غرفة استقبالٍ كهذه.’
يوجد في هذا القصر أكثر من مئة غرفةٍ تُستخدم كغرف استقبال. المنطقة الغربيّة في الطّابق الخامس، على وجه الخصوص، خاليةٌ من الغبار ولكنها مليئةٌ بجوٍّ رطب، لذا لم أزرها منذ سنوات.
قدتُ فيدورا والحرّاس مباشرةً إلى الطّابق الخامس.
بعد عبور ممرٍّ يبدو غريبًا، استقبلتنا قاعةٌ واسعةٌ هادئةٌ كما لو كانت من عالمٍ آخر. كان الأثاث، الذي يحمل أناقة الزّمن ولكنّه قديم الطراز، متناثرٌ هنا وهناك كقطع أُحجيّةٍ غير متطابقة.
وكما قالت فيدورا، كان ‘زعيم المتمرّدين بالشّكل القاتم’ موجودًا فوق المدفأة مباشرة، قلب غرفة الاستقبال.
“…السّيف المغروس في قلبه. هل تعرفين مَن وضعه؟”
“همم؟ حسنًا، سمعتُ شائعات، لكنني لستُ متأكّدة…”
مالت فيدورا رأسها ونظرت إلى الحارس الواقف عند مدخل غرفة الاستقبال. تحدّث الحارس، الذي كان يراقبنا بوجهٍ جامد، بهدوء.
“إنّه سموّ ولي العهد فاسيلي.”
عند هذا الرّد، عادت عيناي إلى المدفأة.
لوحة الدوق ليبرتان في زيٍّ مهيب. لكن الرّجل في اللوحة كان مشطورًا إلى نصفين تقريبًا. سيفٌ فضّي مغبر اخترق الورقة وطعن قلبه.
“متى تدمّرت؟”
“…أعتقد أنها قديمةٌ جدًّا. لستُ متأكّدًا، لكنها حدثت منذ حوالي سبع سنوات.”
“هل تتذكّر الموسم؟”
“نعم، كان الصّيف.”
صيف قبل سبع سنوات.
في ذلك العام وذلك الموسم، كانت لديّ ذكرى لن أنساها أبدًا.
[إذا أصبحتَ إمبراطور أوهالا، ستصبح أنهار الإمبراطوريّة مليئةً بالدماء الحمراء من الجثث. لن أسمح أبدًا… لمجنونٍ متعطّش للدماء مثلكَ…!]
التعليقات لهذا الفصل " 70"