عندما خرج فالنتين من غرفة النّوم بناءً على أمر الطرد، كان هناك رجلٌ بنفس طول فالنتين تقريبًا يقف باستقامةٍ أمام الباب.
“شكرًا على جهودكَ في هذه السّاعة المتأخّرة، يا فالنتين. بفضلكَ، لا زلتُ أحتفظ بهذا العمر الطويل. أنا ممتنٌّ دائمًا.”
ربّت على كتف فاسيلي، الذي بدا مُتعبًا بعض الشّيء، وسأل وهو يمرّ.
“أين إيفان؟”
“ليس في القصر.”
رُبّما مشغولٌ بحفر الأرض في مكانٍ ما. أومأ برأسهِ واستدار، لكن فاسيلي سأل بهدوء.
“هل ستزور لارا قبل أن تذهب؟”
توقّف فالنتين عن السّير بشكلٍ لا إرادي.
هل لارا مُستيقِظةٌ في هذه السّاعة المتأخّرة؟ تلاشى التساؤل بسرعة. لو كانت حقًّا ترتجف من الخوف وتقضي الليل ساهرة، لما وصلَت الفرصة إلى فالنتين.
“استَفِق، يا فاسيلي. أنا لستُ أخوها. على أيّ أساسٍ سأدخل غرفة نوم امرأةٍ بالغة؟”
عبسَ تلقائيًّا. ليس فقط لأن ثقة فاسيلي المُطلَقة بدت سخيفة، بل أيضًا بسبب شعورٍ بالرّفض لم يشعر به من قبل.
“مُفاجِئ. لم أكن أعلم أنّكَ تقول مثل هذا الكلام. يبدو أنكَ ترى لارا كامرأةٍ بالغةٍ الآن.”
“أنتَ تعلم أنّني لا أقصد ذلك.”
“لكن، يا فالنتين، كما تعلم، لارا… طفلةٌ نبتت مُدلَّلةٌ أكثر من اللازم بسبب طمعنا. إنّها جريئةٌ بطبعها، لكن حادثة اليوم كانت صادمةً بالتّأكيد. حتّى لو بقيت محبوسةً في غرفتها طوال الوقت، أنا قَلِقٌ من أنّها قد لا تستطيع النّوم. إذا كانت تتقلّب في فراشها، رُبّما تُغنّي لها تهويدة.”
“أنا لستُ مُربّية القصر الإمبراطوري.”
عند هذا الرّد، أطلق فاسيلي ضحكةً جافّةً نادرة.
“حقًا؟ كنتُ أظنّكَ مُربّيتنا بالتّأكيد. إذا كنتَ لا تريد، فليس لديّ خيار. إذا كان ذلك يزعجكَ، أعتذر. فلنعتبر الأمر لم يحدث.”
احتضن فاسيلي فالنتين لفترةٍ طويلةٍ قبل أن يتركه. كانت طريقته الصّادقة للتّعبير عن الامتنان.
وعندما استعاد وعيه، كانت خطوات فالنتين تتّجه بالفعل نحو غرفة نوم لارا.
‘…هاه.’
كما سمع، كان هناك أربعة حرّاسٍ يحمون باب غرفة لارا.
كانوا يُحدّقون بـظِلّ فالنتين بنظراتٍ شرسة، لكنهم خفّفوا من حذرهم وأدّوا التّحيّة بمجرّد أن كشفت الإضاءة الخافتة عن وجهه الأبيض. بناءً على تقريرهم بأن صاحبة الغرفة نائمة، فتح فالنتين الباب بحذرٍ ودخل.
كانت الغرفة مُظلِمةً لدرجة أن لا شيء يُمكن رؤيته. رُبّما لهذا السّبب، شَعَرَ بخطواته وكأنّها تغرق في مستنقع، ثقيلةً ومكتومة.
مِن بين القصص التّافهة المكتوبة في الرّسائل المُتبادَلة على مدى أربع سنوات، تذكّر فالنتين أن لارا كانت تُفضّل دائمًا النّوم مع ستائرٍ قماشيّةٍ بيضاء رقيقة بدلاً من ستائر معتمة.
بعد أن قدّر حجم وتخطيط الغرفة، تحرّك بهدوءٍ نحو النّافذة، حيث شعر بأطراف أصابعه بستائرٍ خشبيّةٍ مُغلَقة بإحكام.
“سموّ الأميرة لاريسا.”
لم يأتِ رَدٌّ على ندائه.
تحرّك بلا صوتٍ ووَقَفَ بجانب السّرير. عندما مَدَّ يده ببطء، التفّت خصلاتٌ ناعمةٌ وحريريّةٌ حول أصابعه.
أغمض عينيه وتخيّل شعرها البنّي الفاتح يتدفّق بنعومةٍ مثل مياه نهر الصيف. ثم أُذنها الصّغيرة، وجنتها المُستديرة، وأخيرًا أنفاسها الخفيفة عند طرف أنفها.
بعد التّأكّد من تنفّسها المنتظم، ابتلع فالنتين تنهيدة ارتياح.
عندما تلقّى تقريرًا بأن الرّصاص اخترق العربة اثنتي عشرة مرّة، شَعَرَ وكأن قلبه يغرق. وعندما دخل غرفة النّوم المُظلمة تمامًا…
[لماذا كان يجب ألّا أُولد؟]
شَعَرَ بنبضٍ.
في كلّ مرّةٍ ينبض فيها قلب لارا، شَعَرَ بألمٍ حادٍّ في صدره. كيف يُمكن أن تسأل لماذا كان يجب ألّا تُولد؟ لم يحلم أبدًا أنّها نشأت وهي تحمل مثل هذا السّؤال.
لقد كانت فتاته التي كرّس سنواتٍ عديدةٍ لحمايتها بعناية. نعمةٌ لن تتكرّر في حياته، وفرصته الوحيدة، فإذا ظهر شخصٌ تسبّب في جرح قلبها، كان يعتقد أنّه يجب أن يدفع ثمن ذنبه بالموت.
‘لكنني مَن فعل ذلك.’
جلس فالنتين مُتّكئًا على السّرير وكأنه ينهار، دافنًا شفتيه في خصلات شعرها المُلتفّة حول أصابعه، غارقًا في النّدم.
أراد الآن أن يُوقِظ لارا النّائمة، أن يُعانِق جسدها الدّافئ، أن يُقبّل جبهتها وخدّيها بلون الخوخ بحُرّيّة، وأن يهمس بحُبّه. أن يقول إن هذا العالم موجودٌ لأنّها وُلِدَت، وأنّه سيبقى إلى جانبها إلى الأبد.
لم يكن هناك أحدٌ أغلى مِن لارا سوى عائلته، ولم يضع أحدًا أعزّ منها إلى جانبه. لكنّه كان غافلًا لَم يستطع تحديد مِن أين بدأ الخطأ.
لا، بصراحة، ليس غافلًا. لا يُمكن أن يكون غافلًا. بل إنّه واضحٌ كالسّماء في وضح النّهار، وهذه هي المشكلة.
‘الآن بعد أن أُفكّر في الأمر، رُبّما كنتُ أضع حدودًا صارمةً للغاية.’
لكن فالنتين، حقًّا، كان سعيدًا فقط بمراقبتها. لم يرغب في التّدخّل في عالم الأميرة لاريسا، ولا يزال هذا الشعور قائمًا.
‘…هل هو حقًّا قائم؟’
لا يُمكن وصف شعوره سوى بالحيرة. ألا يريد الإجابة على سؤالٍ واضح؟ لَمَسَ خصلات شعرها بهدوء. عندما رَكَّزَ كلّ انتباهه على هذا الملمس، شَعَرَ وكأنَّ أميرتَهُ لا تزال تلك الفتاة الصّغيرة القويّة.
لكن لارا لَم تعد صغيرة.
ولأنّها لَم تعد صغيرة، فقد أصبحت رؤيتها أوسع وأكثر نضجًا، ورُبّما أصبح فالنتين جزءًا منها.
لارا التي رآها فالنتين ذكيّة، بارِعة، وطموحَة. إن تمسُّكها بفالنتين أحيانًا هو على الأرجح طمعٌ مُحبّبٌ بعدم رغبتها في فقدان صديقٍ ربطها بعالمٍ غريبٍ خارج ماخاتشكالا في سِنٍّ صغيرة.
عندما يواجه أحيانًا نظرات لارا المليئة بالمودّة، والواضِحة بسبب هذه المودّة، كان يشعر برغبةٍ في المزاح. التّظاهر بعدم الاهتمام، والاستمرار في الانشغال بأشياءٍ أخرى.
رُبّما لأنّه شَعَرَ وكأنه يتلقّى مكافأةُ على الاهتمام اللا مشروط الذي كان يسكبه من الظّلال، فقد تصرّف كطفلٍ غير ناضج. عندما وصلت أفكاره المُتسارِعة إلى هذه النّقطة، تشكّلت سخريةٌ مريرةٌ تلقائيًا.
لو كان يعلم أن الأمر سينتهي هكذا، لكان قد بقي إلى جانب لارا منذ البداية. بحمايةٍ صلبةٍ لا تسمح لأيّ عاصفةٍ أو تهديدٍ أو شكٍ بالاقتراب. لو لَم يكن خائفًا، لما اضطرّت لسماع هراءٍ غبيٍّ مثل
‘ما كان يجب أن تولدي أبدًا.’
لكنّه فعل الصّواب بعدم القيام بذلك.
لو لَم يُحافِظ على المسافة، لما واجهت لارا تهديدًا مثل اليوم بالتّأكيد. كان سيحتفظ بها في غرفته، مُحاطةً بألذّ الأطعمة وأفخم الألعاب، معزولةً عن العالم الخارجي. كانت ستنمو وتزدهر في مكانها كزهرةٍ في دفيئة.
وفي النّهاية، كانت ستموت ذابلة.
الأميرة لاريسا، المُسلّحة بهذه الحيويّة الجميلة، لم تكن لِـتُوجد.
لا، هذا ليس صحيحًا. بلّل فالنتين شفتيه الجافّتين ونهض ببطءٍ بجسده الثقيل كالقطن المُبلّل. سمع سؤالًا من أعماق وعيه يتساءل عمّا إذا كان هذا صحيحًا، لكنّه تجاهله عمدًا.
لقد دُمِّرَت حياته منذ زمنٍ طويل. عدم الاستماع إلى الرّغبات المُلتوِية كان أدنى محاولةٍ للحفاظ على الحدّ الأدنى من العقلانيّة في هذه الحياة المُحطَّمة.
وَقَفَ ساكنًا، ينظر إلى لارا غير المرئيّة.
“أتمنّى أن تري أحلامًا هانئة.”
لسببٍ ما، شَعَرَ أن جبهتها الجميلة قد تكون مُتجعّدة. شَعَرَ بالأسف لعدم قدرته على تقبيل تلك التجاعيد اللطيفة، وانفجر في ضحكةٍ خافتةٍ وهو يُغادِر الغرفة.
ألم يُفكّر بشيءٍ مُماثِلٍ خلال المأدبة؟
في اللحظة التي رأى فيها سيرجي نيكيتين يُحدّق بلارا، لم يعد قادرًا على النّظر إليها. تخيُّل نفسه بنفس تلك النّظرات جعله يشعر بالغثيان.
الآن، لن يُضطرّ لمراقبة ذلك الشّاب الجريء فقط. المرشّح الثّاني الذي اختاره فاسيلي سيبدأ أيضًا في الاقتراب من لارا.
ابن عائلة تولستوي الأكبر.
“…إيغور تولستوي.”
شجّعَ فالنتين الرجلين بقلبٍ خفيفٍ كالرّيش. على الأقل، ظاهريًّا.
التعليقات لهذا الفصل " 69"