[أفهم مشاعركِ، لكن من الأفضل أن تتخلّصي من أيّ ارتباطٍ متبقٍ. أليس هو زعيم المتمرّدين؟ إنه متمرّدٌ يُشكّل تهديدًا كبيرًا لسموّ الأميرة لاريسا. لا يجب أن تعتبريه عائلة.]
في ذلك اليوم، عادت إليّ صورة وجه تاتيانا وهي تُراقب ردّة فعلي بدقّة. ومثلما فعلَت هي، لم يعد فاسيلي يُخفي أمامي خيانة العم أنطون، أو بالأحرى، خيانة ليبرتان.
“أعلم، لا تقلق يا فاسيلي. لا أحمل لهذا الرّجل أيّ مشاعر. لقد غاب عنّي طويلًا بحيث لا يُمكن أن أُكنّ له أيّ مودةٍ خاصّة. فقط… ما زلتُ لستُ معتادةً تمامًا على الأمر.”
أن يكون الدوق أنطون ليبرتان زعيم المتمرّدين.
وإلى جانب ذلك، كنتُ قَلِقَة.
كنتُ أخشى أن يكون إيفان، الذي كان في طفولته مُتعلّقًا بهذا الرّجل بشكلٍ خاصّ، لا يزال قريبًا منه حتّى اليوم.
* * *
“تشينكو.”
عند النّداء البارِد، رفع الرّجل رأسه على الفور.
في فجر الرّبيع المُبكّر، حيث لا يزال البرد يعمّ الجو، دخل رجلٌ طويل القامة إلى الغرفة لتوّه، يلهث وكأنه قد هرول إلى هنا، مُحاوِلًا تهدئة أنفاسه. تقدم تشينكو، الذي كان مختبئًا في ظلال المصباح، صامتًا دون أي حركة، ليقف أمام الرجل.
يا للإثارة، هذه أوّل مرّةٍ أرى قائدي بهذا الوجه، ابتلع تشينكو هذه المُلاحظة التافهة، وأدّى واجبه قبل أن يفوت الأوان.
“الأطراف، سليمة. الصّدمة النّفسيّة، تحتاج إلى مزيدٍ من المراقبة، لكنّها تبدو بخيرٍ حاليًا. تشينكو، لا إصابات، سليمٌ تمامًا. ملاحظةٌ جانبيّة: يشعر ببعض الجوع.”
كان تقريرًا واضحًا، يحمل نبرةً مرحة، لكنه كان متوتّرًا داخليًّا.
كان من حُسن الحظّ أن تكون الأميرة لاريسا بأمان، لكن تشينكو فشل في النّهاية في إتمام مهمته. كان ذلك إهانةً كبيرةً لكبريائه.
على عكس التّوبيخ المُعتاد بأن ‘ابلِغْ بوضوح’، كان قائده صامتًا. كان من الطّبيعي أن يكون الأمر كذلك، فقد تعرّضت الشّخصيّة التي كان يجب حمايتها بأيّ ثمنٍ لهذا الخطر. وبما أن الضربة الأولى تكون أقل إيلامًا، رفع تشينكو رأسه وأغمض عينيه.
“الجهة اليسرى من فضلكَ، يا قائد. الجهة اليمنى لا تزال تعاني من السِّن الذي فقدتُه سابقًا…”
“عملٌ جيّد.”
لكن، يا للعجب، بدلاً مِن أن يصفع قائده وجهه بغضب، أرخى أعصابه بكلماته. كان تشينكو واثقًا مِن أنه يستطيع أن يبتسم حتّى أمام فوّهة مُسدّس، لكنّه شَعَرَ بالخوف هذه المرّة.
“هل تشعر بالنقص؟ إذا رفعتَ وجهكَ مُجدّدًا، سأجعل الجهة الأخرى تنتفخ أيضًا.”
“أعتذر.”
حسنًا، سأُغادر الآن. تراجع بهدوءٍ قبل أن يتعرّض لكارثةٍ تنكسر معها عظمة وجنتيه.
يعلم تشينكو أن قائده اليوم، وهو دوقٌ صغير، كونت، فيكونت، وبارون من عائلةٍ ما، يتحوّل إلى شخصٍ قادرٍ على سحق وجوه المتمرّدين كما لو كانت فطيرة لحمٍ مهروسةٍ عندما يرتدي قناعًا خشنًا غير مكتمل.
والأكثر من ذلك، بالنّسبة له، لم يكن العنف أو التعذيب مُتنفّسًا لرغباتٍ ملتويةٍ أو نتيجة اضطرابٍ عقلي. لم يشعر بذرةٍ من الشفقة أو الذنب. كانت قوّته عقلانيّة بالكامل، تخضع لسيطرةٍ صلبة، ويستخدمها فقط وفقًا للحاجة الموضوعيّة (وفقًا لقواعد الوحدة بالطبع). من خلال مراقبة قائده، توصّل تشينكو إلى استنتاجٍ واحد.
‘نعم، المَجنون الحقيقيّ ليس مَن يُساق، بل مَن يسوق.’
كان يُخطّط لكلّ شيءٍ بنفسه ولم يفشل أبدًا. كان تشينكو مُقتنعًا بأن لقب ‘المرسول’ الغريب جاء من تخطيطه الدّقيق وبصيرته النفّاذة.
‘تحت قيادته، على الأقل لن أموت موتة كلب.’
هذا هو السّبب الذي جعل تشينكو، الذي كان يُعامل كأحطّ البشر وهو يتيهُ في الضّياع، يستقرّ تحت قيادته. منذ زمنٍ طويل، تخلّى عن أيّ شعورٍ بالواجب الزائف لحماية الإمبراطوريّة وشعبها.
…وهكذا، تَبِعَ قائده، فالنتين، كما لو كان يعبده، منذ أكثر مِن عامين. يعرف تشينكو الآن الوجه الحقيقي لفالنتين. إنّه ببساطة…
“تشينكو.”
عند النّداء الهادئ، استدار كـلصٍّ مُذنِب.
“نعم، سيّدي.”
“خُذ يومًا للراحة. عُد صباح بعد الغد.”
أجل! إنه ببساطةٍ أفضل قائد. خرج تشينكو من القصر الإمبراطوري وهو يرقص بحماس.
أبعد فالنتين نظره عن ظهر تشينكو الذي اختفى وهو يتقافز بمرح.
اتّجه مباشرةً نحو غرفة نوم الإمبراطور. عندما دخل، نهضت الإمبراطورة، التي كانت جالسةً بوجهٍ مليءٍ بالقلق، من مكانها.
“لقد بذلتَ جهدًا عظيمًا، يا كونت ناريان.”
بعد كلمات التّقدير الصّادقة، غادرت الإمبراطورة الغرفة مع حاشيتها. ثم أشار الإمبراطور، الذي كان مُتّكئًا على حافّة السّرير، إلى فالنتين.
“أعتذر عن هذا. حالتي ليست جيّدة، لذا لن أتمكّن من إجراء محادثةٍ طويلة.”
“أتفهّم ذلك.”
من حالة الإمبراطور، بدا أنّه أُغمي عليه لفترةٍ وجيزةٍ بعد سماع أخبار فاسيلي ولارا. قبل عقدٍ من الزمان، كان رجلًا قويًّا مثل فاسيلي، لكنّه أصبح، مع تقدّم العمر، أكثر حساسيّة من الإمبراطورة تجاه أمور أبنائه.
“أوّلاً… يجب أن أشكركَ. كان اليوم بالفعل خطيرًا، لكن بفضل قراركَ السّري بإرسال أعضاءٍ من فرقة هورغان، نجا ولي العهد والأميرة. شكرًا من القلب.”
أحنى فالنتين رأسه بأدب.
“تشينكو كوييف، أليس كذلك؟ أنوي منح هذا الرّجل وثلاثةٌ آخرين أوسمة ومكافآت مالية، بالإضافة إلى بعض التسهيلات. إذا سمح الوقت، تحقّق من ذلك قبل مغادرتكَ.”
“حسنًا.”
سعل الإمبراطور بخفّة، ثم أطلق تنهيدةً طويلةً وضحك.
“لقد كبرَ وليّ العهد كثيرًا. مَن كان يظنّ أنه سيتفق معكَ دون إخباري ليتدخّل في ترتيبات حماية الأميرة؟”
“…أعتذر إذا بدا ذلك استهانةً بجلالتكَ.”
“أنتَ صريحٌ بشكلٍ قاسٍ. في مثل هذه اللحظات، يُفترض بكَ أن تُنكر أيّ استهانة. لكن، بالطّبع، هذا ما يُعجبني فيكَ. إذن… ما رأيكَ؟ هل لا يزال الكونت ميخائيل يستحقّ الشك؟”
الكونت ميخائيل.
كبير خدم القصر الإمبراطوري، خَدَمَ الإمبراطور لسنواتٍ طويلة. كان مِن بين أقرب المقرّبين للإمبراطور، ومع صداقةٍ تمتدّ لأكثر مِن ثلاثين عامًا، كانت ثقته الشّخصيّة به تفوق بكثيرٍ ما يُمكن أن ينافسها فالنتين.
كان ميخائيل مسؤولاً عن إدارة القصر بأكمله، لذا كان دائمًا إلى جانب الإمبراطور عندما كان فالنتين يُراجع، لأسبابٍ معيّنة، الخادمات وحرّاس الأميرة لارا.
رُبّما تذكّر الإمبراطور تلك الأيّام. واصل حديثه بصوتٍ خافتٍ ومتهكّم.
“أعلم أنكَ تحفّظتَ في كلامكَ بسبب ميخائيل. والمصادفة أن الأمور انتهت على هذا النّحو. يا لها مِن مصادفةٍ حقًا… أن يحدث مثل هذا الحادث في اللحظة التي عزّزتَ فيها الحراسة دون إخبار أحد.”
في الواقع، كان فالنتين مُقتنِعًا بأن الكونت ميخائيل جاسوسٌ لليبرتان.
وصلت معلوماتٌ عن حضور إحدى الأميرات لحفلةٍ راقصةٍ في شخارانسك إلى أُذني ميخائيل عبر إيفان، وكما كان متوقّعًا، تجمّع المتمرّدون لاستهدافها.
كان ميخائيل يتمتّع بصداقةٍ طويلةٍ مع ليبرتان لا تقلّ عن صداقته مع الإمبراطور. وكان أحد القليلين الذين يعرفون أصل الإمبراطور.
“إذا سمحتَ لي، أودّ مراقبته أكثر. حتّى لو عرف ميخائيل أنّه مشتبهٌ به، فهو مضطرٌّ للبقاء في القصر بأيّ وسيلة. وليبرتان نفسه لن يثق به تمامًا. إذا تمكّنا من استمالته، يُمكننا استغلاله عكسيًّا.”
“قرارٌ حكيم. لكنني لن أترك ميخائيل في القصر بعد الآن. لذا، استشِر الإمبراطورة لإيجاد طريقةٍ لتقييده. وسأترك الباقي لكَ.”
التعليقات لهذا الفصل " 68"