الكونت ناريان، والبارون ماهيكوب، والفيكونت ساليزار، ذلك الكاهن الدنس الذي لا يضاهيه أحدٌ في عدم التقوى. أليس هذا الوصف، بلا شك، يُشير إلى فالنتين نفسه؟
صلاة البَركة التي أدّاها فالنتين.
لا ريب أن تلك الصّلاة هي ذاتها التي أقامها في ماخاتشكالا، قُبيل سفره للدّراسة، تلك الصّلاة التي لن أنساها أبدًا. يومها، تسلّل خلسةً إلى أُذني، وترك لي وحدي نبوءةً غامضة، فكيف لي أن أنسى تلك اللحظة؟
وإذا ما تذكّرتُ الطّعام الذي تناوله فالنتين خفيةً يومها…
‘التوت المُجفّف.’
لكن، كيف عرف ذلك الرّجل بهذا الأمر؟
فالكاهن، خلال فترة أداء صلاة البَركة، يُلزم نفسه بالصّيام. وحقيقة أن المرسول الجليل قد خالف هذا الشرع وتناول التوت المُجفّف كانت سِرًّا لا يعلمه سواي أنا وفالنتين في هذا العالم.
‘إذن، هل يعني هذا أن هذا الرجل له صِلةٌ بفالنتين؟’
تذكّرتُ فجأةً حادثة الإرهاب التي وقعَت قبل أسابيع قليلةٍ في حفل الدوقة إيلين. رُبّما تكون هذه اللحظة مشابهة لتلك الواقعة، هكذا استنتجتُ.
بعد تفكيرٍ قصير، تمتمتُ بجوابي.
“التوت… المُجفّف.”
“أوهو! إجابةٌ صحيحة!”
ما إن سمعتُ الرّد حتّى أمسك فاسيلي ببندقيّته المُخبأة أسفل المقعد بسرعة. عندها، أطلق الرجل صيحة استغراب، رافعًا صوته.
“مـ- مهلًا! لا تطلق النّار عليّ! ألم أُخبرك؟ ظننتُكَ قد فارقتَ الحياة لعدم ردّكَ! كدتُ أفقد قلبي من الخوف!”
“…”
“بسبب سريّة المهمة، لا يُمكنني الكشف عن وجهي. وإن حدث لكَ مكروه، سأواجه غضب قائدي… همم.”
“…”
“لا عجب أنّكَ من الملوك، فماذا عن فمكَ الثقيل؟ حسنًا، هيا بنا… سأصطحبكَ إلى القصر الملكي فورًا. أُجيد قيادة العربة قليلًا، وبالطبع، سنحميكَ طوال الطريق، فلا تقلق. هاها! أولئك الذين يجرؤون على رفع أسلحتهم تجاهنا؟ بانغ! سيُردَون قتلى في الحال!”
عندها فقط، بدأ كتف فاسيلي المتشنّج يسترخي ببطء. كان واضحًا من تراجع حذره أنّه قد خمّن، ولو جزئيًّا، هُويَّة ذلك الرّجل.
أما أنا، فقد شعرتُ بظهري وقد تبلّل بالعرق، فاستندتُ إلى فاسيلي وجلستُ على الكرسي.
“هااا…”
كدتُ أتقيأ.
شعرتُ وكأن عمري قد نقص نصفه.
وفي الوقت ذاته، غمرني شعورٌ بالثقة المُطلَقة والشك تجاه فالنتين.
‘كيف يُمكن أن تحدث مثل هذا الصُّدف في هذا العالم؟’
ما الذي يفعله ذلك الرّجل حتّى يستطيع حمايتي في مثل هذه اللحظات غير المتوقّعة؟
بل، لماذا تتكرّر مثل هذه الأحداث معي دائمًا؟
بينما كان فاسيلي يجلس متشابك الذراعين، يرمش بعينيه، تمتم لنفسه.
“يبدو أنه من وحدة هورغان.”
“نعم… بالضّبط.”
ضحك الرجل بمرحٍ وقاد العربة بمهارة.
“آه! بالمناسبة، لم نتحقّق من سلامة ولي العهد! هاها، أعتذر، قائدنا يُعطي الأولوية لسلامة النّساء، فلم أنتبه…”
قائد؟
“قُل لي، هل هذا القائد الذي تتحدّث عنه هو ذلك الكاهن الدنس الذي تناول التوت المُجفّف خلسةً أثناء صلاة البَركة؟”
فجأة، سكت الصّوت الثرثار.
هل لم يسمعني، أم أنّه تجاهل سؤالي عمدًا؟ شعرتُ بضيقٍ في صدري، لكنني لم أُكرّر السّؤال.
‘حسنًا… إذا كان فالنتين بالفعل، فلا بُدّ أن هناك سببًا وجيهًا لعدم ردّه.’
لا أعلم، لقد اكتفيتُ اليوم. كثيرٌ جدًّا ما حدث. بدأتُ أشعر بصداعٍ وإرهاقٍ جسديّ وعقليّ مفاجئ.
كنتُ منهكةً للغاية، حتّى إن الضجّة التي أُثيرت في القصر الإمبراطوري بسبب محاولة اغتيال أحد أفراد العائلة المالِكة لم تُثر فيّ سوى النّعاس.
“يا إلهي، صغاري! كادت كارثةٌ تحدث في هذا الوقت المتأخّر! آه، لارا… كم كنتِ خائفةً حتّى صار شعركِ هكذا…”
شعري لم يُصبح هكذا مِن الخوف، بل مِن شدّه.
بينما كنتُ غارقةً في حضن أُمّي، أسمع أنفاسي الهادئة، نظرت إليّ تانيا، التي كانت تفحص وجهي، وقالت بملامحٍ مُظلمة.
“يبدو أن لارا مرعوبةٌ حقًّا. إنها شاحبةٌ كطائرٍ مريض. ألا نتركها ترتاح قليلًا؟”
“ماذا؟ دعيني أرى… وجه طفلتِي… نعم، هذا أفضل. ارتاحِي الآن، لارا. اليوم كان أوّل حفلٍ راقصٍ لكِ، فلا بُدّ أنكِ مُنهَكة. سأتحدّث مع فاسيلي، سيكون ذلك كافيًا.”
فجأة، سمعتُ صوتًا يُنادي اسمي من خلفي.
“لاريسا!”
كان إيفان، الذي ركض نحوي وأمسك كتفيّ بلهفة. كانت يداه باردتين كما لو أنّه كان في الخارج، وهو يتلمّس جسدي هنا وهناك.
“هي، هل أنتِ بخير؟ هل أُصبتِ؟ هل هناك جروح؟”
كنتُ أود قول شيءٍ لإيفان، لكنني، كسمكة زينة، فتحتُ فمي وأغلقتُه، ولم أقل سوى الرّد الواضح.
“أطرافي وجسدي سليمان تمامًا. شعري قد يكون كشعر ساحرةٍ ذات قرون، لكنّه أفضل ممّا كان عليه بعد النّوم، أليس كذلك؟ سأعود لأرتاح الآن. أحتاج إلى الرّاحة.”
“آه… نعم، وجهكِ يبدو سيّئًا. اذهبِي ونامِي. لا تشغلي بالكِ بأيّ شيءٍ آخر.”
استدرتُ مُبتعِدةً عن إيفان الذي بدا وجهه معقّدًا، ومشيتُ. أمسك فاسيلي يدي بلطفٍ واصطحبني إلى غرفتي.
“لارا، سيكون هناك حرّاسٌ في غرفتكِ لفترة. ومن الأفضل تجنّب الخروج. لقد ألغينا جميع المواعيد الرّسميّة حتّى الحفل الإمبراطوري.”
“…”
“اعلمِي أن هذا الحادث قد يُثير شائعات مثيرة. لا تستمعِي إليها، ولا تحاولي البحث عنها…”
“رأيتُ إيفان وأنا عائدةٌ من الحفل.”
توقّف فاسيلي ونظر إليّ.
“كان يسير في الاتجاه المُعاكِس لنا، برفقة رجالٍ مجهولي الهُويَّة، ويبدو مُرتاحًا جدًا. لم يكن اليوم فقط. منذ أربع سنوات، في أوّل زيارةٍ لي إلى المعبد المُقدّس، وفي اليوم الذي ذهبتُ فيه لزيارة إيما، كان يختفي فجأةً ويعود دون أن يخبرني أين كان، أو مَن التقى، أو ماذا فعل.”
بل إن إيفان كان موجودًا خلال اليومين اللذين تعرّضتُ فيهما لهجوم المتمرّدين.
في حفل الدوقة إيلين، واليوم أيضًا.
شعرتُ بغثيانٍ يُعاودني.
هل أنا أشكّ في إيفان أم أقلق عليه؟ لم أستطع تحديد إجابةٍ واضحة، فقد كان ذهني في فوضى، لكن شيئًا واحدًا كان واضحًا.
“فاسيلي، هل إيفان بخير؟”
كنتُ أتمنّى ألّا يُصيب أخي إيفان أيّ مكروه.
“ماذا لو تسبّب هذا الأحمق، الذي يتجوّل كالإعصار، في إصابةٍ خطيرةٍ أو حزنٍ عميق؟ بالنّظر إلى تصرّفاته السّابقة، فمن المؤكّد أنه قادرٌ على إحداث كارثة. وإذا لم أتمكّن من مساعدته بشكلٍ صحيح…”
“لارا.”
نظر إليّ فاسيلي بهدوء، مُبتسِمًا بمرارةٍ خفيفة.
“قلبُكِ دائمًا يجعلني أشعر بالخجل من نفسي لـدفئه. سأنقل كلامكِ كما هو. أستطيع أن أرى وجهه الخجول بالفعل.”
“… هل عائلتنا كلّها بخير؟”
“بالطّبع.”
“حتّى العم أنطون؟”
توقّفت يده التي كانت تمسح على رأسي فجأة. حاولتُ قراءة ما في عينيه، لكن للأسف، لم أجد أيّ اضطرابٍ يُذكر.
“لا، هذا مُستحيل. قد يكون الجميع بخير، لكن أنطون ليبرتان، ذلك الرّجل بالذّات، لا يُمكن أن يكون بخير. ألستِ تعرفين السّبب الآن؟”
رغم هدوء صوته، كانت نبرة العداء النائمة جليّةً تمامًا.
التعليقات لهذا الفصل " 67"