في جوٍّ بدا متصلّبًا فجأة، انفرجت شفتا سيرجي بابتسامةٍ خفيفةٍ مشوبة بمكر. قبَّل إيغور ظهر يدي بلطف، وقال.
“إذن، سأراكِ بعد قليل.”
ما إن تراجع خطوةً حتّى اسودَّت الرؤية أمامي. تقّدم سيرجي، مانعًا رؤيتي، واجتاز بضعة أزواجٍ من الرّجال والنّساء يتهيؤون للرّقصة التّالية، ليستقرّ في المركز بثقةٍ لا تعرف الوجل، غير آبهٍ بأعين الجميع المُسلّطة عليه.
وما إن بدأت الأنغام حتّى جاءني صوته الهامس، رقيقًا كالنّسيم.
“بدا عليكِ الاستمتاع، لارا.”
“بالطّبع، أنا مستمتعةٌ جدًا. وأنتَ كذلك، أليس كذلك؟ بعد كلّ شيء، تقضي الأميرة لاريسا أوّل حفلٍ لها هنا في قصر نيكيتين وليس في القصر الإمبراطوري.”
“أجل، أنا في غاية البهجة، حتّى الجنون. بهجةٌ بائسةٌ لشخصٍ مثلي، يتوسّل لمجرّد رقصةٍ واحدة.”
ركّزتُ على الرّقص دون ردّ، فبدأت زاوية فم سيرجي المتصلّبة ترتخي تدريجيًّا. وبعد لحظات، سألني بنبرةٍ خافتة.
“لقد تحدّثتِ معه طويلًا. كيف كان؟”
“إن كنتَ تقصد إيغور… إنه أخو إيما، أعرفه جيّدًا، مريحٌ في الحديث، ولا يمضي اليوم كلّه في المزاح كما تفعل أنتَ.”
بالطّبع، لم تمضِ سوى دقائقٌ قليلةٌ منذ شعرتُ ببعض الرّاحة.
استمع سيرجي إليَّ بهدوء، ثم سأل فجأة.
“هل طريقتي في التّعامل معكِ بحريّة… تُزعجكِ أحيانًا؟”
“ما بكَ؟ لِمَ تبدو حذرًا هكذا فجأة؟ هل سمعتَ شيئًا سخيفًا في غيابي؟”
“إن كنتِ تشعرين بالضّيق، قولِي لي. يُمكنني أن أتغيّر كما تريدين، متى شئتِ.”
تأمّلتُ تأكيده، فاختلطت مشاعري. كنتُ أدرك مصدر تلك الغيرة الواضحة التي يُبديها (والتي، بناءً على تصرّفاته السّابقة، لا يُمكن أن تكون إلّا غيرة). لكنني لم أكن متأكّدة، هل هي مجرّد قلقٍ من فقدان صديقةٍ مقرّبة، أم شيءٌ أعمق، هوسٌ محرجٌ رُبّما؟
“لم أشكُ منكَ يومًا. أنتَ على حالكَ هذا، رائعٌ يا سيريوزا.”
ظننتُ أنه سيرتاح، لكن تعابير سيرجي لم تنفرج. وفي تلك اللحظة، شعرتُ ببعض الإرهاق، فلم يعد لديَّ طاقةٌ لمواساته.
تبادلتُ النّظرات مع سيرجي، الذي كان يُمسك يدي كما لو كانت دميةً لا يُفارقها، ثم عدتُ إلى إيغور. بدا وكأنه كان يُراقبنا طوال الوقت، إذ ما إن رآني حتّى التقطت عيناي عينيه.
لم أعرف أيّ شعورٍ قرأه إيغور في نظراتنا المُتقاطِعة، لكنه لم يقل شيئًا، بل اكتفى بأن أمسك يدي وقادني بهدوء.
رقصنا دون أن نرفَع أعيُننا عن وجوه بعضنا. على عكس سيرجي، الذي كان يقودني بحزِم، كان إيغور يتبع خطواتي، ينسجم مع حركاتي كالماء المتدفّق. كانت تلك المرّة الأولى التي أرقص فيها مع رجلٍ ليس أخًا أو صديقًا مقرّبًا بهذه القرب، فلم تخلُ خطواتي من الأخطاء. لكن حتّى تلك اللحظات القصيرة كانت ممتعةً بحقّ. وتلك النّظرات المتوتّرة التي كان يرمقني بها إيغور بين الحين والآخر، كانت بدورها ساحرة.
فكّرتُ أنني قد لا أُمانع في رقصةٍ أخرى معه.
ورُبّما… رُبّما يعرض عليَّ إيغور ذلك بنفسه. وبينما كنتُ غارقةً في تلك الأفكار، انتهت الموسيقى، فبادرتُ بإلقاء تحيّة وداعٍ آسفة.
“أتمنّى أن نلتقي مُجددًا في الحفل القادم.”
صمت إيغور لحظة، ثم سأل بوجهٍ يحمل بعض الارتباك.
“هل ستعودين الآن؟”
“هكذا يبدو.”
“يا للأسف… حسنًا، يا سموّكِ، سأجدكِ أينما كنتِ.”
ابتسمتُ ردًّا، ثم صعدتُ إلى العربة عائدةً إلى القصر برفقة فاسيلي.
“أعلم، أعلم. بصفتي أميرة، يجب أن أحافظ على هيبة العائلة المالِكة وألّا أُفرط في اللهو والشّراب حتّى ساعات الفجر. أعرف كل هذا.”
نظرتُ إلى الأضواء تتلاشى تدريجيًّا في الظّلام الدّامس، فتسلّل إليَّ شعورٌ بالفراغ. كان من المؤسف الافتراق عن رفقةٍ ممتعة، لكن الأمر الأكثر إيلامًا كان…
‘أن يكون أوّل حفلٍ لي دون حضور فالنتين!’
كيف يُمكن أن يكون أكثر انشغالًا من أميرةٍ مثلي؟ هو الذي قال إن لديه شيئًا مُهمًّا يُخبرني به، ثم يتغيّب هكذا؟ يا لهُ مِن وقح!
‘حسنًا، على الأقل قال إنّه سيحضر الحفل الإمبراطوري.’
سأجعله يرى مهاراتي في الرّقص التي صقلتُها طويلًا. ثلاث رقصاتٍ على الأقل، بأنواعٍ مختلفة، لا بُدّ من ذلك!
تبدّدت الغيوم التي كانت تحجب القمر الكبير، فأضاء المشهد خارج النّافذة كالحلم. وفجأة، مَرَّ وجهٌ أبيضٌ كالرّيح. التصقتُ بالزجاج، أتفحّص الطّريق الذي مررنا به.
“فاسيلي، لقد رأيتُ إيفان للتو…”
في تلك اللحظة، انطلق رصاصٌ حادٌّ مزّق أُذنيَّ في الشّارع. تحطّم زجاج العربة كالألعاب النّارية. لم أكد أصرخ حتّى ألقى فاسيلي بنفسه فوقي، مغطّيًا جسدي وهو يهوي إلى أرضيّة العربة. بينما توالت أصوات الرّصاص والصّرخات، ظَلَّ يهمس في أذني ‘ابقي هكذا، لا تتحرّكي أبدًا.’
يا إلهي، فاسيلي.
كيف تظلّ رقيقًا حتّى في مثل هذه اللحظة؟ حتّى لو لم تقل شيئًا، لم أكن لأتحرّك. كيف يُمكنني ذلك تحت ثقلكَ؟
دَقَّ قلبي بعنف، يكاد يهزّ رأسي. وبعد لحظات، خيَّم صمتٌ غريبٌ على الشّارع. اغتنم فاسيلي تلك الفرصة وسحب الستارة ليغطّي النّافذة المحطّمة.
اشتدّت حواسي، ترقّبًا لأيّ حركة. بدأت مقدمة العربة تُصدر صريرًا خافتًا، ثم جاء صوتٌ خشنٌ من وراء الجدار.
“هل هناك أحدٌ بالدّاخل؟”
كانت نبرةً لم أسمعها من قبل، لا مِن نبيلٍ ولا حارسٍ ولا حتّى خادم. شَدَّ فاسيلي قبضته على كتفي.
مَدَّ فاسيلي يده الأخرى بحذر، يتحسّس تحت وسادة المقعد بحثًا عن بندقيّة الطوارئ.
“همم.”
تردّد صوتٌ طويلٌ من وراء الجدار، هادئٌ بشكلٍ مخيف، حتّى توقّفت حركة فاسيلي للحظة. حبستُ أنفاسي، أحاول تهدئة رأسي الذي يطنّ، خوفًا من أن يُسمع صوتي.
لِمَ لا يفتحون الباب؟
نظرتُ إلى فاسيلي، الذي بدا كالهدف المثالي بجسده الضّخم المستقيم، فتزايد قلقي. كنتُ أعرف نيّته، يستعد لأسوأ الاحتمالات. لكن الصوت سيُسمع لا محالة. إن أطلقوا الرّصاص من الخارج، سيموت فاسيلي.
وكان الاسم الذي نطقوه هو لاريسا، وليس الأمير فاسيلي. إن كانوا يُريدونني… مهما كان هدفهم المروّع، إن أنقذ ذلك فاسيلي…
تخيّلتُ أسوأ سيناريو مُمكن. اجتاحني الرّعب، شعرتُ بغثيانٍ يعتصر أحشائي، وبدأت الرؤية تتشوّش. لكن صوت الرّجل الذي تلا ذلك أوقف قيئي.
“كاهنٌ دنسٌ، هو كونت ناريان، وبارون ماهيكوب، وفيكونت ساليزار، فما الذي سرقه وأكله خلسةً أثناء صلاة البَركة؟”
التعليقات لهذا الفصل " 66"