“…لا، ليس الأمر كذلك. مهما تفوّهتُ به، لن يكون سوى أعذارٍ واهية.”
ابتسامةٌ ساخرةٌ مِن نفسه بدأت تتسلّل كـظِلٍّ يُغطّي الشمس، تقترب رويدًا رويدًا.
رعدٌ انطلق فوق رأسه لم يستطع اختراق وعيي. فخفقان قلبي في صدري كان أعلى وأشدّ ضجيجًا.
ملامح وجهه المُتألّقة، المُعتمة تحت الظّلال، بدت وكأنها تتساقط نحوي. ما هذا الموقف بحق خالق السّماء؟ تساءلتُ، لكن جسدي ظَلَّ مُتجذّرًا في مكانه كشجرةٍ مغروسةٍ في الأرض، عاجزًا عن الحركة. شفتاه المائلتان إلى الحمرة انفرجتا قليلًا، ونفَس فالنتين القصير بدأ يقترب أكثر فأكثر.
في لحظةٍ ما، حين بدأت جفونه تنسدل ببطءٍ، وقبضتي التي كانت تعتصر صدره ترتجِف برفقٍ، شعرتُ بجسدِي يرتفع في الهواء.
“بما أن حالتكِ قد استقرّت، سأرافقكِ إلى غرفة نومكِ، سموّكِ.”
يجب أن أهرب… جحر النّمل… أين جحر النّمل بحق خالق الجحيم؟
“هـ- هل تعرف أين غرفتي؟”
فالنتين، الذي نفض سترته ليُغطّي بها وجهي، أجاب بهدوء.
“أعرف. إن لم تتغيّر الأمور عن السّابق.”
أجل، صحيح. كلّ شيءٍ كما كان، فلا بُدّ أنه يعرف. ابتلعتُ ردّي، وشعرتّ بخفقان قلبِي يُدغدغني من الدّاخل.
ألقى فالنتين أوامره على الخادم الذي كان يرافقه، ثمّ تابع خُطاه دون أن يتوقّف. وكانت خطواته واسعةً إلى حدٍّ جعلني أشعر وكأنّني في حضن عملاق.
أحيانًا، كنتُ أشعر أن فالنتين يعرج قليلًا أثناء سيره، لكنني لم أُعِر الأمر اهتمامًا كبيرًا. فقد كانت مشيته، حتّى قبل أربع سنوات، تتمايل أحيانًا. لم أجرؤ يومًا على سؤاله عن السّبب، لكنني شعرتُ براحةٍ غريبةٍ وأنا أرى أن الأمور لم تتغيّر، لا في الماضي ولا الآن.
حتّى وسط الضّباب الذي خلفه سكر الخمر في ذهني، كنتُ أُدرك أنه يحرص على ملاحظتي، ويتأنّق في أصغر تصرفاته. فلو رأى أحدٌ الأميرة لاريسا، التي بلغت لتوّها سنّ الرّشد، محمولةً بين ذراعَيّ رجلٍ غريب، وهي مبلّلةٌ بالمطر، أيّ الشائعات التي ستُثار؟ بالتّأكيد، افتراءاتٌ فاضحةٌ يخجل المرء من ذكرها.
‘لكنّني بخير.’
نعم، كلّ شيءٍ على ما يرام.
حتّى وأنا أُدرك أنه يتحرّك بحذرٍ شديد، متيقّظًا لما حوله، كنتُ أشعر وأنا بين ذراعيه وكأنني مستلقيةٌ فوق الغيوم، طافيةٌ في سماءٍ من الرّاحة. تلك الأوهام الفاضحة التي راودتني عنه قد تبدّدت بالفعل إلى ما وراء الأفق.
‘قال فالنتين إنه نادمٌ بالتّأكيد.’
تلك النّظرة التي رافقته وهو يقول ذلك لم تكن مُزيّفة بأي حال.
كيف أصف ذلك؟ لم تُحل الأمور بشكلٍ كامل، لكنني شعرتٌ بأنّني حصلتُ على تعويضٍ ما. رُبّما لم يكن صادقًا في الماضي، لكن الحقيقة الآن، وكأنها انتشلتني من لهيب تلك النيران، كانت مهدي الذي يهدهدني.
“سموّ الأميرة لاريسا.”
هل كان ذلك بسبب الرّاحة العميقة التي شعرتُ بها؟ مِن خلف رغبة النّوم التي بدأت تغزو جسدي فجأة، سمعتُ نداء فالنتين الحنون.
“لكن بعد أن سمعتُ قِصّتكِ اليوم، قرّرتُ أن أوضّح سوء الفهم… لا، لا يُمكن تسميته سوء فهم. قرّرتُ أن أشرح لكِ مقصد كلماتي، لكن حين حاولتُ النّطق بها، لم أعرف مِن أين أبدأ وإلى أين أصل. لم أجد الخيط الذي يربط الأمور.”
“…”
“هذه المرّة الأولى التي أتيه فيها بهذا الشّكل. لأكون صادقًا، في هذه اللحظة بالذّات، أشعر وكأنني أغبى مخلوقٍ في العالم. لكن إن منحتِني بعض الوقت، سأُرتّب أفكاري وأشرح…”
“لا بأس، فالنتين. لا داعي للشّرح.”
تململتُ بين ذراعيه وأنا أتثاءب بطول، ثم خلعتُ معطفه وأعدتُه إليه. لمحتُ الممر المألوف أمام غرفة نومي. نظرتُ إلى فالنتين الواقف أمامي، وشعرتُ بشعورٍ غريبٍ يعتريني، لكنني حرصتُ على عدم إظهاره.
“ألم أقل لكَ؟ لستُ طفلةً جاهلة. أعرف أنّكَ، بصفتكَ مرسولًا، تحمل على عاتقكَ واجبًا وشعورًا بالدين يلازمانكَ مدى الحياة. أعرف أنّكَ تعيش وأنتَ تحسب آلاف الاحتمالات للمستقبل، التي لا أستطيع أنا حتّى تخيّلها… في الحقيقة، الشّخص السيّء هنا لستَ أنتَ، بل أنا. كنتُ أعرف أنكَ ستشعر بالأسف، ومع ذلك أصررتُ على السؤال.”
شعرتُ، وأنا أتحدّث، أن وعيي يستعيد صفاءه تدريجيًّا، كما لو كان سكر الخمر يتبدّد.
“لكنّني، تحت تأثير الخمر، أفضيتُ بما في صدري. لهذا يجب على المرء أن يحذر من الخمر.”
عندها، انفرجت شفتا فالنتين، المتشنّجتان طوال الوقت، في ابتسامةٍ خفيفةٍ، خفيفةٍ جدًّا.
“لم يكن ذلك سيّئًا. لقد أعاد إليّ ذكريات الماضي.”
اتّكأ فالنتين بذراعه الطويلة على باب غرفتي، مُبتسمًا. تحت ثقل جسده، بدأ الباب المُغلَق ينفرج ببطء. بدا غارقًا في أفكاره وهو ينقر الباب بأطراف أصابعه، ثم عاد إلى تعبيره الهادئ المُعتاد وقال لي.
“كلامكِ الآن جعلني أكثر تصميمًا. سأُرتّب أفكاري بطريقةٍ ما، فانتظريني قليلًا.”
“حسنًا… سأنتظر. شكرًا لأنكَ قلتَ ذلك.”
كما لو كان يمتدحني، ربتت يده الكبيرة على رأسي. أدخلتُ نفسي عبر فتحة الباب التي فتحها لي، ثم استدرتُ فجأةً لأسأله عن سؤالٍ راودني.
“اسمع، هل يُمكنني أن أسأل سؤالًا واحدًا آخر؟”
“تفضّلي.”
“في المأدبة، لماذا لَم تلتفت إليّ ولو مرّةً واحدة؟”
في اللحظة التي أنهيتُ فيها سؤالي، حدث شيءٌ عجيب.
ارتجفت حاجباه قليلًا، كما لو كان قد سمع هراءً، ثم عاد وجهه بسرعةٍ إلى الهدوء. لكن بعد لحظات، ظهرت عليه علامات الحيرة، وسرعان ما أغمض عينيه بقوّة، كما لو كان غارقًا في شعورٍ بالذنب.
“…سِـر.”
“ماذا؟ لماذا؟”
“السبب سِرٌّ أيضًا. ليلة احتفال بلوغكِ سنّ الرّشد، التي لن تتكرّر، أتمنّى أن تختتميها براحة.”
“انتظر لحظة!”
لم أتمكّن من إيقافه وهو يبتعد.
أطللتُ بوجهي عبر فتحة الباب، مُحدّقة بنظرةٍ ناعسةٍ في ظهر الرجل الذي يبتعد بهدوء. ما الذي كان يعنيه بردّه ذاك؟ كنتُ أظنّ أنه سيقول إنه لم يكن هناك سبب. فالنتين، كالعادة، يُفكّر كثيرًا في أمورٍ لا داعي لها.
“هذه مشكلة… مشكلة…”
انهرتُ على السرير، واضعةً قوّةً على شفتيّ لأمنع ابتسامةً تحاول الظّهور دون وعي. بدأت أستسلم تدريجيًا لنعاس يغزوني.
ما القِصّة التي سيعود ليرويها عن نفسه؟
لم أستطع تخيّلها على الإطلاق.
* * *
احتفال بلوغ سنّ الرّشد.
في العائلات التي تُقدّس الشّرف والأرض والثروة، لا توجد مناسبةٌ أعظم من هذه.
بلوغ الابن أو الابنة سنّ الرّشد يعني اتّحاد عائلتين. بالنسبة للنّبلاء الكبار، كان الاحتفال فرصةً ذهبيّةً لمضاعفة الثروة والسّمعة. أمّا بالنسبة لمعظم النّبلاء الأقل مرتبة، فكان سُلّمًا لتسلّق مراتب النّبلاء العظماء.
حتى لو وُجد خطيبٌ منذ المهد، فإن هذا الخطيب قد يتغيّر مرّاتٍ عديدة خلال سنوات النمو في أوساط المجتمع الأرستقراطي لإمبراطوريّة أوهالا. كانت السّاحة الاجتماعيّة الأولى بعد الاحتفال ببلوغ سنّ الرّشد هي الحدث الأكبر الذي يُحدّد مستقبل الشّخص ومكانته. لا أحد يستطيع إنكار أن هذا الاحتفال هو نقطة تحوّلٍ في حياة معظم الرّجال والنّساء.
وهل يختلف الأمر بالنّسبة للعائلة الإمبراطوريّة؟ لا، بل إن الأمر أعقد. فبالإضافة إلى عبور الجبال والأنهار، يجب عبور الحدود لتصبح جزءًا من بلد آخرٍ بثقافةٍ ولغةٍ مختلفة. إنها حقًا فترة تغيّر الأرض والسّماء.
أنا، لاريسا.
عضوةٌ في العائلة الإمبراطوريّة نوفاروف، ابنة الإمبراطور نيكولاي، والأميرة الثّانية لإمبراطوريّة أوهالا.
بصفتي الصّغرى في العائلة الإمبراطوريّة، لا أملك أيّ فرصةٍ لوراثة العرش. وبالتّالي، المستقبل المرسوم لي هو الزّواج من وليّ عهد دولةٍ حليفة، والعيش كـملكة لتلك الدولة.
لكن هذه النّهاية المُتوقّعة ستتلاشى بفضل معارضة تاتيانا القويّة وجهودها الحثيثة. وهذا أيضًا ما جعلني أحصل على إذن والدي لحضور حفل الرقص الذي تُنظّمه عائلة نيكيتين الليلة.
التعليقات لهذا الفصل " 61"